هل يمكن الحديث عن أدب استشرافي أو أدب الاِستشراف في الجزائر والوطن العربي، وعن أعمال أدبية ذات نزعة تنبؤية، أو استباقية لأحداث ووقائع تناولتها بعض الأعمال الأدبية ثمّ تحقّقت على أرض الواقع في أمكنة وأزمنة ما وفي سياقات ما؟
ترى الدكتورة آمنة بلعلى أنّ الأدباء هم كهنة العالم القادرين على أن يرسموا المستقبل في الكلمات. وأنّه لا يخلو أدبٌ رفيع من رؤية اِستشرافية، ونبوءة يحلم من خلالها الأدب، ويتخيّل أحداثاً معينة ستحدث، فاستشراف المستقبل في الأدب –حسب قولها دائمًا- عنصر تكويني جوهري فيه.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
أمّا الدكتور عابد لزرق، فيقول: "لا أعتقد أنّه يمكننا الحديث بإطلاق عن كاتب عربي اِستطاع الاِستشراف والتنبّؤ نبوءةً أدبية كاملة الأركان والمعالم بأحداث حقيقية وقعت لاحقاً". لكنه يؤكد من جهة أخرى أنّ عنصر التخييل في أدب الاِستشراف يُؤدّي دوره الحاسم في نَسْجِ وقائع متخيَّلةٍ وافتراض أحداثٍ تتحقّق لاحقًا في الواقع. من جهته، يؤكد الدكتور داود، أنّه توجد في الأدب الغربي العديد من النصوص التي اِستشرفت المستقبل أمّا في الجزائر فقط بعض النصوص التي تعاملت مع المستقبل وسعت للتنبؤ بِمَا قد يحدث في الزمن القادم.
في حين يرى الكاتب والروائي محمّد الأمين بن ربيع، أنّ الرواية العربية رصدت التحوّلات الحاصلة على مستوى البُنى الفكرية والسوسيوثقافية، وقدّمت من خلال بعض النماذج تصوّرا لمستقبل المجتمع العربي، لا من باب اليقين وإنّما من باب الاِستقراء والاِستشراف.
من جهتها تقول الدكتورة منى صريفق، أنّ أدب الاِستشراف في الجزائر له حضور محتشم لأسباب كثيرة من بينها أنّ الكاتب الجزائري لحد الساعة مازالت تستهويه فكرة الكتابة عن الماضي وعن مآسي هذا البلد، وأنه يخوض معارك وجودية كثيرة تخص ماضيه وحاضره. أمّا المستقبل فهو حالة وجودية وزمنٌ مُبهم يحتاج الكثير من التأويل والفهم من طرف الكاتب والقارئ على حدٍ سواء.
آمنة بلعلى: لا يخلـو الأدب من رؤيـة استشرافـية ونبـوءة
إنّ تاريخ الإبداع الأدبي هو تاريخ الاِستشراف والتنبؤ بمآلات الإنسان ووجوده خارج الظرف الّذي كُتِبَ فيه النص الأدبي، لأنّه نصٌ مُطلق يقوم على الاِحتمال ويُجسّد نظرة الإنسان للوجود، وطريقة تمثّله للقيم المُثلى، وللنماذج العُليا التي تظل دومًا مصدر إلهام بالنسبة للأدباء، وتكشف عن أحلام وآمال تعكس توق الإنسان إلى اِشتراطات حياة أفضل تظل دومًا مُتخيّلاً، وضربًا من اليوتوبيا التي تُؤسّس فضوله المعرفي.
هذا الشغف بالأحلام والبحث عن اليوتوبيا هو جوهر كلّ توجّه استشرافي في الأدب، لأنّه طريقة في التوجّه نحو فهم العالم، وسعيٌ إلى تأسيس العوالم المُمكنة، ومحاولة للخروج من الوضعيات الإنسانية الحرجة، لبلوغ حالات وجودية أليق بالإنسان وبالأوطان.
ولذلك، فاستشراف المستقبل في الأدب عنصر تكويني جوهري فيه، فهو الّذي يضمن له البقاء والخلود، ويجعله يقاوم التقليد حتّى وإن اِنطلق صاحبه من نصوص سابقة، ولذلك نقرأ اليوم أدبًا كُتِبَ منذ مئات السنين، كأوّل رواية في التاريخ، "الحمار الذهبي" لأبوليوس المادوري، لكنّه يُشعرنا أنّه كتبها ليصوّر واقعاً كواقعنا اليوم المليء بالصراعات والحروب والظُلم، جسدته الأساطير التي أثّث بها نصّه، وقدّم نموذج الإنسان الّذي أراد أن يصبح طائراً فتحوّل إلى حمار فكان شاهداً من خلال تحوّلاته وعلاقاته على بؤس العلاقات الإنسانية.
هذا التماثل الّذي حملته أوّل رواية في التاريخ، يعزى إلى طبيعة الأدب ذاته باِعتباره عملاً تخييلياً يسمح للأديب بأن يتخيّل واقعاً مُختلفاً حتّى وإن اِنطلق من ظرف تاريخي ومرحلة معينة، وسواء وجّهه قصد أو لم يقصد.
هناك إكراهات قد تُوهم بأنّ الأديب يرتبط آلياً بظروف إنتاج نصه، الأمر الّذي يُبعده عن أي اِستشراف مستقبلي، ولذلك ربطت الدراسات المستقبلية للأدب هذا الجانب التنبؤي الاِستشرافي بأدب الخيال العلمي، الّذي كان للجزائريين نصيب منه مثلما هو الحال لدى حبيب مونسي وفيصل الأحمر، وعلى الرغم من أنّ هذا النوع من الأدب هو تجسيد لتصوّرات وفرضيات علمية لها علاقة بتطورات العِلم والتكنولوجيا التي غالباً ما تجد لها تحقّقات مستقبلية، إلاّ أنّ ما يُنتَج اليوم من إبداعات فرضتها العوالم الاِفتراضية والرقمية، يمكن أن يسهم في تحويل المنتج الأدبي برمته إلى أداة لتخيّل توقعات العِلم والتكنولوجيا، وخاصةً في ظل عولمة تدفع بالأديب إلى النزوع المُستمر نحو تأمل ما بعد التّحولات السريعة التي يشهدها العالم ومستقبل الكائنات فيه؛ ولذلك نرى الأدباء يجتهدون ألا تكون نصوصهم تعبيراً عن وقائع عابرة في حياتهم وحياة مجتمعاتهم، بقدر ما يؤرّقهم مصير الإنسان ومستقبل العالم الّذي لا يبشر بخير، في ظل موجّهات نشهد فيها أفول السرديات الكُبرى وفي مقدمتها سرديات القيمة الإنسانية ذاتها.
في الأدب الجزائري، كانت الفترة الاِستعمارية وثورة التحرير الوطني موجّهين أساسيين لاِستشراف المستقبل وظلّ الشِّعر والرواية مصدراً للتنبؤات بمستقبل مُختلف بعد الاِستقلال وخاصةً بعد تراجع مشروع التحديث، مثلما نجده عند عبد العالي رزاقي في ديوان "بور سعيد"، وأزراج عمر وهو يُحاكم حزب جبهة التحرير، أو في قصة الطاهر وطار "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" التي يمكن اِعتبارها تنبؤا بعودة جماجم الشهداء من فرنسا، أو رواية "عرس بغل" التي تصور ما آلت إليه الجزائر اليوم، بل إنّ رواية "الحوات والقصر" مثلاً يمكن عدّها نموذجاً اِستشرافياً، تجاوز فيه الطاهر وطار النظرة الإيديولوجية السابقة، باِنفتاحه على الرمزي الّذي يظل دوماً المُحرك الدينامي للتنبؤ بالمستقبل. ويمكن أن ينسحب هذا الأمر على كثير من النماذج الإبداعية في الجزائر وفي العالم بأسره.
يمكنُ التأكيد على أنّ الأدباء هم كهنة العالم القادرين على أن يرسموا المستقبل في الكلمات، ويسكنوه مجازاتهم، لأنّهم وحدهم العارفون بخبايا الرّوح الإنسانية، والكاشفون عن الجوانب المخبوءة في قلب هذا العالم الّذي لا تنضب أسراره. ولذلك أعتقد أنّه لا يخلو أدب رفيع من رؤية اِستشرافية، ونبوءة يحلم من خلالها الأدب، ويتخيّل أحداثاً معينة ستحدث، وصوراً نموذجية يتوقّعها الأدباء للحياة وللإنسان في المستقبل، وهذه الرؤية الاِستشرافية هي نفسها النبوءة الفلسفية التي شرّع لها أرسطو حين رأى أنّ الشِّعر يصور ما ينبغي أن يكون، ولذلك جعله أقرب إلى الفلسفة لاِهتمامها بالكليات، وأبعده عن التاريخ الّذي يهتم بالماضي وبالجزئيات.
عابد لزرق: حــظ الأدب العـربي من النبـوءات قليــل
عندما نطرح للنقاش مسألة ما يُعرف بأدب التنبُّؤ والمستقبل لابدّ أن نُشير بدايةً إلى علاقة الأدب بالزمن. لا أريد أن أتّكئ هنا على فكرة الكاتب "أنريكي أندرسون أمبرت" القائل فيها: "الأدب فن الزمان وليس المكان"، ولكن إبرازاً لأهمية الفضاء الزمني الّذي تُحيل إليه النصوص الأدبية عند طرح هذه المسألة كونه عامل مُهمّ في مناقشة فكرة الاِستشراف في الأدب إضافةً إلى عناصر بِنوية أخرى من موضوع، وشخصيات، وفضاء مكاني...إلخ يستشرف من خلالها الكُتّاب أو يتنبّأون بوقائع وأحداث مُستقبلية وبمصير البشر والإنسانية.
عربيًا ومحليًا؛ كثيراً ما نتكلم في الرواية -مثلاً- عن عنصر المكان (وإن كان حديثنا عنه منظوراً إليه بنائيًا وسرديًا أكثر منه جماليًا) ونُغفِل الحديث عن عنصر الزمن وحضوره في النص الأدبي وتفاعله مع بقية العناصر والمكونات المُشكّلة له. ولكن هل اِحتفى الأدب العربي بفكرة الزمن المستقبل والزمن بشكلٍ عام وتشظّيه داخل النص بشكلٍ كافٍ أم لا رغم كونه أحد أهمّ عناصر الوجود؟ أو بشكلٍ آخر هل يمكن الحديث عن أدب الاِستشراف في الكتابة العربية؟
لمّا نشر الأمريكي دين كونتز روايته "عيون الظلام" عام 1981 لم يكن يعلم أنّها بعد أربعين عاماً ستعود من جديد للاِنتشار بظهور جائحة كورونا حين وُصِفت بأنّها أكثر الروايات مقاربةً لحالة وبائية مُشابهة لتأثير الفيروس الحالي، ولا عندما نشر جورج أورويل سنة 1949 روايته الديستوبية الشهيرة "1984" و"مزرعة الحيوان" سنة 1947 كان يدري أنّ الأمكنة والأنظمة الحاكمة التي ذكرها في الروايتين ستتكرر في أمكنة أخرى لاحقة مع أنظمة سياسية ودكتاتورية مختلفة من العالم بنفس الهياكل والأشخاص والممارسات تقريباً.
سنة 2015 ينشر واسيني الأعرج روايته "2084: حكاية العربي الأخير" عن دار الآداب اللبنانية يُسائِل من خلالها واقع العالمين العربي والغربي واحتدام الصراعات الطائفية في بلاد العرب وما ستؤول إليه تناقضات العالم عام 2084، وقد اِستند فيها نصّياً على رواية أورويل التي بينها وبين نصه تداخل حتّى في العنوان الفرعي "حكاية العربي الأخير" والعنوان الأصلي لرواية 1984 "آخر رجل في أوروبا" قبل أن يُغيره أورويل بطلب من الناشر.
في نفس السنة (2015) يطرح الكاتب الفرانكو-جزائري بوعلام صنصال هو الآخر رواية تحت عنوان "2084: نهاية العالم" كتبها بالفرنسية ونشرتها دار نشر"Gallimard" يُحاول فيها عبر تقنية الاِستباق الزمني التنبّؤ بنهاية العالم على يد الأصولية الدينية من وجهة نظره وتَبعًا لخلفيته الفكرية، وهي رواية تتداخل مع نصّ واسيني فيما يُعرف بأدب الاِستشراف، كما أنّ عنصر الزمن فيها حاسم (بعد سنة 2084)، وأحداث الرواية تقع هي الأخرى داخل مكان مُتخيّل (جمهورية آبيستان) بِمَا يُحيل إلى فكرة رؤية العالم أو الخلفية الأيديولوجية التي توجّه الكاتب في نصه.
إضافةً إلى الزمن يُؤدّي عنصر التخييل في أدب الاِستشراف دوره الحاسم في نَسْجِ وقائع متخيَّلةٍ وافتراضِ أحداثٍ تتحقّق لاحقًا في الواقع –في الزمن القريب أو البعيد- وتقع في نفس الأزمنة والأمكنة التي تتناولها النصوص الأدبية أو أزمنة وأماكن أخرى. ليس الكاتب عرّافًا ولا مُنجّمًا يُقلّب كرةً بلورية يستبصرُ من خلالها المُستقبل، لكنه يتمايز عن غيره بقدرته على تمييز والتقاط التفاصيل والوقائع، وبقدرته على الخَلْق والاِبتكار والإيهام بالواقع. فيصفُ أمكنةً، ويبني شخصياتٍ، ويُحيلُ إلى وقائعَ، ويذكرُ أحداثًا تتكرّرُ أو تقعُ لاحقاً بالفعل ليُدهشُ قارئَه، ولذلك كانت نصوص الخيال العلمي أقرب الأنواع الروائية إلى أدب الاِستشراف فيما يتنبّأ به من أوبئة ودمار ومخاطر... وغيرها تضع الإنسان أمام مآزق وجودية، وتضعه إزاء مواجهة بين الطبيعة الآدمية للبشر والتكنولوجيا الخارقة والآلة كما في رواية "جلالته الأب الأعظم: الخطر الآتي من المستقبل" للحبيب مونسي التي يطرح فيها فكرة السيطرة السيبرانية والتقنية على الإنسان.
ومع ذلك لا أعتقد أنّه يمكننا الحديث بإطلاق عن كاتب عربي اِستطاع الاِستشراف والتنبّؤ نبوءةً أدبية كاملة الأركان والمعالم بأحداث حقيقية وقعت لاحقاً بعد فترة قصيرة أو طويلة من نشر نصوصه حتّى وقتنا الحالي. وتبقى الكتابات العربية التي تندرج ضمن هذا المجال نصوصاً تحوي إشارات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية تكون قد حدثت بالفعل في وقت لاحق على سبيل التنبّؤ أو التشابه فقط بِمَا ترمز إليه مُختلف إشعاعات النص المُمكنة وانفتاحه على المستقبل، لا نبوءة كاملة مثلما وقع مع النصوص الغربية التي اِنتشرت عالميًا نظير ما اِستشرفته من وقائع كاملة وأحوال سياسية واجتماعية وغيرها.
محمّد الأمين بن ربيع: الرواية أكثر فنون الكتابة تصورا للمستقبل
الاِستشراف هو التطلع إلى الشؤون المستقبلية للمجتمع الإنساني، من خلال توقع ما سيؤول إليه النّاس في مجتمع من المجتمعات المشكّلة للمنظومة الإنسانية. عن طريق التركيز على وعي المجتمع وإدراك أفراده لواقعهم وتطلّعهم لمستقبلهم، وقد كان من شأن الأدب الاِهتمام باِستشراف مستقبل المجتمعات، بِمَا هو وسيلة لرصد تحوّلات الإنسان أثناء رحلة وعيه بنفسه، وقد كانت الرواية أكثر فنون الكتابة مقدرةً على الإحاطة بحاضر المجتمع واستشراف مستقبله، لما لها من علاقة وثيقة بالمجتمع ناتجة عن علاقة كاتبها به، وقد رصدت الرواية العربية التحوّلات الحاصلة على مستوى البُنى الفكرية والسوسيوثقافية، وقدّمت من خلال بعض النماذج تصوّرا لمستقبل المجتمع العربي، لا من باب اليقين وإنّما من باب الاِستقراء والاِستشراف.
في تجارب روائية عربية كثيرة قدّم الروائيون رؤية اِستشرافية لمستقبل المجتمع العربي، وبالأخص تلك القضايا التي مازالت تشغل الرأي العام العربي، بِمَا هي قضايا مصيرية، كما هي الحال في رواية إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اِختفاء سعيد أبي النحس المُتشائل" التي قدّم من خلالها صورة للصراع العربي الإسرائيلي، المُميّز في هذه الرّواية أنّ الروائي اِبتكر ملفوظاً يصور حال العرب الذين يعيشون داخل حدود الكيان الإسرائيلي، وهو "التشاؤل"، المنحوت من لفظي التفاؤل والتشاؤم. فإن حدث أمر سيء للمتشائل فإنّه يحمد الله على عدم حصول أمر أسوأ منه، وبذلك يكون الروائي الفلسطيني قد اِنعتق من أسر الواقع، مقدّماً نظرة في المستقبل، عن طريق تصوير ذلك العربي الّذي لم يعد يعرف أيّ موقف يتخذه إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، ويحاول أن يُهوّن من الأحداث التي تقع على اِعتبار أنّها أهون من أخرى كان يمكن أن تقع.
ومن النماذج الروائية الجزائرية التي حملت في بنيتها السردية اِستشرافًا لمستقبل المنطقة العربية رواية رشيد بوجدرة "ألف وعام من الحنين"، التي صوّرت بشكل سريالي مجتمع المنامة الغارق في الدستوبيا، والّذي يتعرض أهله للغزو بعد أن نزلت في بلدتهم فرقة سينمائية أمريكية. تمكن بوجدرة في هذه الرواية من تقديم نظرة نافذة إلى عُمق المستقبل، حين جعل الغزو الثقافي مطية للغزو العسكري، وشخّص المشاكل العالقة في المجتمع العربي والتي ستحدّ من فُرص تقدمه وتطوّره، مركّزا على ربط الماضي بالحاضر، وتأثيره فيه، مُشيراً بنظرة استشرافية إلى المستقبل المتوقَّع من وراء ذلك الحاضر السوداوي الّذي تحكمه قِوى إمبريالية من خلف دمية الحاكم بندر شاه، الّذي لم يكن حاكماً بقدر ما كان مُهرجاً يُثير سخرية الأهالي واشمئزازهم من عجزه على تسيير تلك البلدة الغارقة في غياهب النسيان، لأنّ أهلها يرفضون أن يتحرروا من ربقة جهلهم وسلطان كسلهم، ولذا يُسمي الروائي بلدتهم بالمنامة، المُشتق لفظها من النوم، هذا النوم الّذي طال أكثر من اللازم حسب الروائي، فجعل قِوى خارجية تتحكم في الشأن الداخلي للبلدة وتعيثُ فيها نهباً لثرواتها واستغلالاً لأهاليها.
للرواية الاِستشرافية القدرة على رؤية المُستقبل، لذا حاولت أقلام الروائيين أن ترسم واقعاً أفضل مُستبشرةً بالقادم، وتُقيم مجتمعات قوامها المُثل والقيم العُليا، حتّى وإن كان واقعهم مُثقلاً بالألم والانتكاسات، فقد يكون ذلك سبباً لثورة تُخلخل الموجود وتمنح أملاً باِنبعاث غدٍ أفضل، يعتقد الروائيون والأدباء أنّه مُمكن الحدوث إن نحن أردنا ذلك، وساهم كلّ واحد بطريقته لمنح هذا الأمل القوّة لينتشر، حتّى وإن كان بواسطة نص روائي يُفكك الوضع، ويضع القارئ وجهًا لوجه أمام مشاكله، حتّى يتوقف عن تجنبها ويُحاول حلها برؤية يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، مثلما يمتزج فيها العاطفي بالعقلي، ويُلقي الماضي بظلاله على الحاضر، ويُمدّه بتجاربه اِعتماداً على وقائع سابقة، لتكون الأساس الّذي يُبنى عليه الحاضر وهو يستشرف من نافذته أفاق المستقبل.
محمّد داود: الاهتمام بالأدب الاستشرافي شبه منعدم عربيا
إنّ الاِهتمام بالمستقبل واستشراف التحوّلات القادمة والتنبؤ بها ليس جديداً بالنسبة للأفراد والجماعات، بل هو قديم بِقِدم وجود البشر في هذا الكون الواسع والشاسع، وقد سعت العديد مما يُسمى بالعلوم الخفية التي تتعامل مع أسرار الطبيعة والكون والغيبيات للبحث عمَّا هو باطني ومُستتر وِفْقَ مبادئ تتجاوز الطبيعة وكلّ ما هو محسوس ومعقول مثل الشعوذة والسحر والتنجيم وغيرها... وتعتبر هذه العلوم، في نظر الكثير من المهتمين بالحقل العلمي، علومٌ زائفة لأنّها لا تستند إلى أُسس ملموسة يمكن التحقّق منها في الواقع المعيش.
وتجد الكتابة الأدبية لما تُمثله من قوّة إبداعية وخيالية ملاذاً كبيراً في تصوّر المستقبل واستشرافه، خاصة وأنّ المرحلة التي تعيشها البشرية مليئة بالمواقف المقلقة وبالتغيرات المبهمة، مِمَا يُغذي الأدب. فالإنسان في توقه إلى الأفضل يتصوّر حياة سعيدة وهنيئة، كما يرغب في معرفة نواميس الكون وهو يواجه المرض والشيخوخة والموت كما يبحث عن الخلود، وقد يتصوّر كذلك الكوارث والبلايا. ولهذا السبب نجد الكثير من النصوص التي تنتمي إلى عِلم الخيال أو الخيال العلمي تُصوّر المُستقبل في أشكال مختلفة. وتوجد في الأدب الغربي العديد من النصوص التي اِستشرفت المستقبل مثل روايات "جول فيرن" في نهاية القرن التاسع عشر والتي هي عبارة عن مغامرات في الكون وفي أعماق البحار وقد تحقّق بعضها، كما نجد كتابات "جورج أورويل" الّذي تنبأ باِنهيار الأنظمة الشيوعية في روايته "مزرعة الحيوان" وبخاصة في روايته "1984" التي تصور الحياة في السنوات القادمة، حيثُ تتم مراقبة كلّ شيء ويصبح الإنسان يعيش تحت المجهر، فلا حياة خاصة ولا أجواء حميمة.
أمّا في العالم العربي، نستطيع أن نقول أنّ "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري قد تصورت ومن منطلق ديني إسلامي أحوال بعض الشخصيات المعروفة في الجنة والجحيم، وهي استشرافٌ للحياة آنذاك بعد الفناء، وقد أثرت هذه الرواية كثيراً في الأدب الايطالي القديم (دانتي في الكوميديا الإلهية). أمّا في الجزائر فقط بعض النصوص التي تعاملت مع المستقبل وسعت للتنبؤ بِمَا قد يحدث في الزمن القادم ونذكر منها رواية الأديب حبيب مونسي "جلالته الأب الأعظم.. الخطر الآتي من المستقبل" حيثُ تزول الدول وتغيب الحدود، ليخلو الجو لأحد الرجال ليُمارس الطغيان ضدّ بقية البشر، كما نشر كلّ من فيصل الأحمر "أمين العلواني" وعز الدين ميهوبي "اعترافات أسكرام" وغيرهم مِمن اقتحموا هذا الباب.
ويبدو من خلال هذا العرض السريع أنّ الاِهتمام بالأدب الاِستشرافي أو الاِستباقي هو قليل جدا في العالم العربي، بل شبه منعدم لأسباب عدة، منها عدم اِهتمام المؤسسات الثقافية بهذا النوع من الكتابة، بالرغم من وجود طاقات بشرية ووسائل عصرية يمكنها أن تحوّل هذه الأعمال إلى أفلام ومسلسلات تجذب المتفرج وتجعله يفكر في المستقبل بحلوه ومرّه، وتدفع القُرّاء إلى الإقبال على هذا النوع من التأليف الّذي يفتح أفاقاً جديدة لهم مِمَا يرغبهم في معرفة ما قد يحدث من كوارث طبيعية أو أوبئة وحروب مدمرة، أو تنبؤات مفرحة واكتشافات علمية وابتكارات جديدة في مختلف الميادين تُدخل البهجة والسعادة على النفوس، وتجعل حياة الإنسان سهلة ومريحة وسعيدة.
منى صريفق: الكاتب الجزائري يستهويه الماضي
غالبًا ما ترتبط فكرة الاِستشراف في الذهنية الغربية بالخيال العلمي the foresight in fiction وهذا المصطلح تحديداً تبع نُشوءَه العديد من المصطلحات من بينها مصطلح futurism التي اِرتبطت بالكاتب الإيطالي "فيليبومارينيتي" الّذي رفض كلّ ما له علاقة بالماضي في شتّى مناحي الحياة بتأليفه أوّل بيان مستقبلي. لا يهمنا الخوض في التشعبات التي آلت إليها الفكرة غربيًا بقدر ما يهمنا تتبع الفكرة في الوطن العربي والجزائر تحديداً. فالمُتتبع لمصطلح الاِستشراف في الرواية سيتأكد له نوع من الاِختلاف البارز بين وجهة النظر العربية والغربية وكيفية التعاطي معها عن طريق عملية مقارنة بسيطة للغاية. فالغربي وصل إلى مرحلة مهمة للغاية من فهم وتأويل أبعاد ماضيه وحاضره وأصبح يريد الخوض في المُستقبل لأسباب عديدة من بينها فرض السيطرة وخلق عالم جديد يعيش فيه الإنسان المُختار بشكل يميل إلى الطوباوية في حين النظرة العربية لا تزال تشوبها الكثير من نقاط الصمت والضبابية. إلاّ أنّ ما يجمع النظرة العربية والغربية في هذا المفهوم هي أنّها تعنى بالذات/الإنسان في مرحلة -ما بعد- الحاضر وهذه اللازمة تجعلنا نخوض في المفهوم وكيفية تعاطي الكاتب العربي بعامة والجزائري بخاصة معه سرديًا. ولكن أوّلا وجب التفريق بين الاِستشراف ككلمة وبين أدب الاِستشراف وبين تقنية الاِستشراف في السرد.
فالاِستشراف تعني النظر وخلق صورة تعتمد على التنبؤ فيما يخص مصير أي شيء يكون بالضرورة موجوداً. وفكرة الاِستشراف لا تتأتى لأي كان، بل هي رؤية دقيقة وشاملة تعتمد في الأساس على شخصية الإنسان ومدى وعيه بماضيه وحيثيات حاضره ومدى اِتساع تجاربه ليصل إلى خلق صورة/حياة لم تقع بعد. وتكون في جميع التخصصات وليس مجال الأدب فحسب.
أمّا أدب الاِستشراف وهو الأدب الّذي يُعنى بكتابة نصوص تُعالج الواقع اِستشرافيًا بطريقة سردية. وهذا المعنى يمنح الكاتب زمنًا جديداً غير الزمن الماضي والحاضر الّذي يستغله في غالب الأحيان في خلق عوالمه السردية. وهو موجود في الأدب العربي منذ القديم، وله ملامحه كذلك، كما هو موجود في الأدب الغربي وأحسن مثال على ذلك رواية "جورج أورويل-1984-"، وهنا تحديداً يصبح الاِستشراف موضوعاً للرواية وفيها يحاول الكاتب صنع صورة عن تأويلاته المتعدّدة للعالم فيحقق معادلة بسيطة نوعاً ما ظاهريًا إلاّ أنّها شديدة التعقيد على المستوى الباطني للكتابة [الماضي + الحاضر (وفيه تتم عملية الاِستشراف) + مجموعة من العوامل المساعدة= رؤية اِستشرافية].
في حين الاِستشراف كتقنية في الكتابة الروائية يكون اِستخدامها واضحاً على مستوى الأزمنة التي يتعامل معها الكاتب في نصه السردي وكيف يطوعها حسب الأحداث والشخصيات والتي لها تأثيرات تُساهم في جودة الرواية من حيث البناء ومن حيث مناقشة فكرة الوعي والمآلات لظروف وبيئة واحدة مشتركة بين الكاتب والقارئ.
ولكن مع كلّ هذا الكم الهائل من المعارف المُتعلقة بمصطلح الاِستشراف في حد ذاته إلاّ أنّ تشكل أدب اِستشرافي في الجزائر له حضور محتشم لأسباب كثيرة من بينها أنّ الكاتب الجزائري لحد الساعة مازالت تستهويه فكرة الكتابة عن الماضي وعن مآسي هذا البلد، ما يزال الكاتب يخوض معارك وجودية كثيرة تخص ماضيه وحاضره. أمّا المستقبل فهو حالة وجودية وزمنٌ مُبهم يحتاج الكثير من التأويل والفهم من طرف الكاتب والقارئ على حدٍ سواء. ولكن هذا لا يعني أنّه لا يوجد كُتّاب جزائريون خاضوا في هذا الموضوع بل على العكس من ذلك وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد رواية واسيني الأعرج التي عنونها بــ"2048 حكاية العربي الأخير" والتي عالج فيها الكاتب فكرة اِستشرافية أو بالأحرى صورة مستقبلية لما سيؤول إليه العالم وكيف سينتهي بمأساة حقيقية. أمّا على المستوى العربي فالأمر بالفعل يحتاج إلى فِرق بحث منتظمة لدراسة هذا الأدب وتتبع كلّ ما يُكتب فيه وكيف يكتب عن موضوعه لأنّ الكاتب العربي كما الجزائري يُعالج الاِستشراف من زوايا عديدة قد تظهر في صورة مكتملة سردية وقد تتخذها شخصيات من شخصيات النصوص السردية التي نقوم بقراءتها في كلّ نص على حِده.