عشتُ في قسنطينة عمراً أسافر وأعود إليها، لا مبالية بما يميزها، أو يشغلني عنها، ويطبع تصرّفاتي وردود أفعالي منها، مقاومةً بالتّجاهل تلك النّظريات، والاِفتراضات عن البيئة والأماكن، وتأثيرها في تشكّل المزاج والطّبع...حتى جاءتني فرصة الاِنتقال إلى الجزائر البيضاء للدراسة، فاكتشفت أنّي لا أتعوّد الشوارع، والوجوه، وردود الأفعال، وأنا ما إن أتحدّث، حتى أبدو غريبة أو بدقة أكثر مختلفة اللّهجة، أحبّ النّاس ذلك أم حذروه!
في المعهد أسموني القسنطينيّة، وأصحّح النون الأولى ميماً، مع أنّي أينما حللت نطقت ق.س.ن.ط.ي.ن.ة بالفصحى لتفادي أيّ سؤال عن قلب الميم نوناً. لم أغيّر لهجتي إلاّ ما كان ضروريّا للتّأقلم؛ فهجّرت إلى حديثي بعض الكلمات كــ"القرعة" لما نسميه "الجريوات"، ومفردات حقل الوقت؛ ففي قسنطينة نستعمل "الدرْج" لكلّ خمس دقائق، بدا لي اِستعمال الدقائق أقرب إلى التّعامل الإنسانيّ منه إلى أدراجنا المحليّة.
* فـ.ياسمينة بريهوم
في الجزائر الجميلة أحببت نسائم البحر الصباحيّة، قبل أن ترفع الرطوبة هامتها، وتضغطني أنا القادمة من مناخ قاريّ بارد وجاف نسبيا بين كفيها، كحبّة هيل نضيفها إلى الطعام أو القهوة. وظلّ البحر الذي أحبّ اِتّساعه، لسنوات غريبا عنّي، ورغم اِندهاشي من زرقته وجماله ورغم كلّ جهودي للتّأقلم مع وجوده المفاجئ كلّ مرّة، لم أحبب شيئا أكثر من اِنبساط العاصمة نحو البحر، ذلك المشهد الاِستثنائيّ الذي يُزاوج خضرة الأشجار وزرقة الخليج، في لوحة تُشبه المسرح الرومانيّ الذي شبّه به فلوبير "روان" حين تنطلق إليها "مدام بوفاري" فارَّةً من ضيق حياتها. وغير جمال الجزائر وهي تفرش بساطها نحو البحر لتتمدّد كأميرة تأخذ جولتها اليوميّة، لم تبهجني غير الاِرتفاعات كبوزريعة وسعيد حمدين، بعد أن فسّرت ذلك، في البدء بضيقي من الرطوبة. وقليلاً ما عادتني قسمطينة بخفرها وتغاضيها في أحاديث النّاس، وأنا أُحيلهم عليها وعلى جسورها! وعلى ما بادلتها من حياد.
وعيت كلّ مرّة تحدّثت عنها، بذلك الصمت أو السّحاب الأبيض الذي يغطي أحاسيسي وأفكاري عن حياتي فيها وعنها، لم تكن تلك ملاءتها السّوداء تحجب عنّي الحقيقة، بل عجارها 1 المطرز بالدونتيل يبقيني على قيد حذر، ويلفُّ ذكرياتي بالتّوجسّ من تدحرج تفاصيلها من تلاّتها التي أحب إلى بطحة قلبي. لعلّي كنت أرفض أن تفاجئني بحضورها، أو فقط أحببت أن أمضي بتجربة حيادي إلى أقاصيها.
حتى إذا عدت قبل سنة، وأنا أقلّ سيارة أجرة إلى وسط المدينة من سيدي مبروك عبر المنصورة، وتماماً في المنعطف إلى الجسر الكبير، غمرتني الإجابة، وقبضت على السرّ، والاِرتفاع الذي كنّا عليه يكشف كلّ الحجب!
أحسسته خاطفاً ومدهشا؛ بسبب سرعة السيارة، فهل نسيته يوماً؟
من اِشتقاقات الاِرتفاع "التّرفع" الذي يطبع أخلاق القسمطنيين، والرفعة التي يسعون إليها. وصنوه العلو، وهو ليس تعالياً أبداً لمن خبروا الدّقة والخصوصيّة، بل مسافة يتركها القسمطنيون بينهم وبين الآخر! وما هو إلاّ تأثير المنعة التي حمت قسنطينة لقرون، فأبقتها في عشّها اِستثنائيّة حيّية وقويّة، لولا الخيانة والخديعة.
إنّه العلو إذن ما اِفتقدت سنوات على الأرض، أنا بنت الهواء والاحتمالات التي علّمتني أن أنصت لأكثر من وجهة ولأكثر من أفق. فأرتبّ كلّ شيء وقد تعلّمت أن من يحدّثني ربما يكون أكثر سنّا ويستحق اِحترامي واِحتراسي، أو يقصد شيئا لا أسمعه بين كلماته، وهو ما يستوجب تدقيقا قبل الردّ، ألذلك كانت ردودي حاسمة تجاه المناوئين؟ فالحسم قوّة تفرّق الطيبة عن الاِمحاء، تماما كما تجمع قسنطينة مزاجين وروحين، ومدينتين؛ واحدة قديمة تقاوم الزمن وتصرّ على البقاء، وأخرى حديثة غطّت على القديمة وخصوصيّة القسمطنيين.
بعد ريح تلك الخطفة التي اِرتفعت فيها السيارة فوق الجسر الثامن، اِنفتحت ذاكرتي لأراني كما عشت كلّ حياتي التي مرّت هنا، أدبّ بين أرض وهواء، ألذلك اِفتقدت بعيدا، في صمتٍ، الاستثناء الذي ضبّبه الاِعتياد؟
مرّ عمري السّابق كلّه وأنا أقطع المسافة في غفلة بين حَيين، جسراً يختصر الوقت، الذي نقضيه -في هذه البلاد- في الحديث عن تفاصيل الأكل والفرح والذكريات. فهل كانت تلك فعلا مجرّد ثرثرة؟ واِبتعت ما أحتاج من أسواق تطلّ على هاوية بين صخرتين، يتقن تجارها فنّ البيع والمساومة، عرفت -لأيا- أنّها ليست مجرّد نفعيّة لمزيد من الكسب بل أسلوب وفنّ عيش، وشممت حين يضيق صدري هواء تعطّر بياسمين البيوت الجميلة وبحشائش "جبل الوحش 2 "، وحلّقت إلى الأفق بجناحي سيّدة الحريّة! ألا يمدّ العلو في سماء الأفق؟
ليست الجسور في قسنطينة، ممرّات الأفق الوحيدة، فانتبه أن تشدّك من يدك الأقرب كدياتها، إنّها المنصّات التي نتسلّقها ونحن نفصّل الأحاديث حميما وعاما، ضاحكا وجادا، لننشغل عن التّعب نحو السّماء ألذلك يحلو في مقايلنا الفرح والغناء!
الأفق بساط الاِحتمالات الذي نستريح على نعومته، ونحن نقرأ الغيب اِدّخارا، واِبتعادا عن العداء، لولا أنّ مغامرة العلو الدائمة، أظهرت لبعضنا صغر العالم!
فقد علّمنا الوصول إليه، مهْدَ الاِرتفاعات مشيا فانتظمت إلى قمته الخطوات، وتلفّعت كلماتنا بأزهار الوضوح وأوراق الكنايات، من إنصاتنا صبرا إلى وشوشات الصخور تكتم الملاحم والذكريات، ورقصنا لموسيقى ترتقي بهجة فكيف تغشاها الحسرات؟
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
1: نقاب تضعه المرأة القسنطينيّة لستر وجهها تظهر منه العينان
2: جبل في قسنطينة وهو منطقة رطبة لما يشتمل عليه من بحيرات وغطاء نباتي