أواصل في هذا المقال رحلتي مع «جوديث»، وسأركّز على عمل الإيطاليّة «أرتيمسيا جنتلسكي» Gentileschi لأنّها المرأة الوحيدة – حسب علمي – التي استلهمت هذا الموضوع بين كثير من الفنّانين الذكور، ولأنّها الأكثر جرأةً، وتجديدا، وسكبا لذاتها ومواجعها الأنثويّة الخفيّة، فضلا عن أنّ استيحاءها هذه القصّة الدينيّة لم يقف عند اللوحة الواحدة، بل إنّها أفردت له أربع لوحاتٍ هي:
بهــــاء بن نوار
“جوديث تقطع رأسَ هولوفيرن” (Giuditta che decapita Oloferne) سنة 1613. وهي نموذج هذه القراءة.
«جوديث مع وصيفتها» (Giuditta con la sua ancella) سنة 1619.
«جوديث تقطع رأسَ هولوفيرن» سنة 1620، وهي شديدة الشبه باللوحة الأولى، التي تحمل العنوانَ نفسه.
«جوديث مع وصيفتها» سنة 1627.
واللافت للنظر في أعمال هذه المبدعة؛ ابنة القرن السابع عشر – الذي يُعدّ فترةً انتقاليّةً خصبة، تجمع بين مقوّمات فنون عصر النهضة، وتمهّد لما سيأتي من فنٍّ باروكيّ، وتيّار كلاسيكيّ رصين – أنّها تستقي كثيرا من موضوعاتها ممّا درج عليه الذوقُ العامُّ في عصرها، لتضفي عليها روحَها، ومعاناتها، وهواجسَها الشخصيّة الخالصة، إلى جانب أنّها تعدّ أول امرأة تلتحق بمعهد الفنون الجميلة بفلورنسا، وأول امرأة تبدع لوحاتٍ تنافس لوحات الرجال، في وقتٍ عدّ فيه تعلّم المرأة أو تميّزها في فنٍّ من الفنون من أشدّ الأمور كراهةً، واستهجانا.
إضافةً إلى مرورها بمحنٍ شخصيّةٍ، ولّدت في نفسها تمرّدا على المعايير التقويميّة السائدة، والانطباعات المتداولة، لتضفي على لوحاتها أبعادا ذاتيّة، وملامح أنثويّةً خالصة، لا يمكن فهمها إلا بالإحاطة بحادث الاغتصاب المأساويّ الذي تعرّضت له في بداية شبابها على يد أحد تلاميذ أبيها الفنّان: «أورازيو جنتلسكي» (Orazio Gentileschi) ويدعى»أغوستينو تاسّي» (Agostino Tassi) (ت1644) الذي حكم عليه بسنةٍ واحدةٍ من السجن، بعد سلسلةٍ من المحاكمات المجحفة، ممّا ولّد في نفس الفنّانة الشابّة كرها فظيعا نحو الرجال، تجسّد بشكلٍ مدوٍّ في أغلب أعمالها.
ولذا نجدها في لوحاتها الأربع عن جوديث تسير على عكس ما أكّده عملُ «كارافاجو» من وعي ذكوريّ، متطرّفٍ، يرى في المرأة مخلوقا هشّا، وضعيفا، فتحرص هي على تأكيد وعي أنثويّ، متطرّف أيضا، يرى في المرأة محورَ القوة كلّها، والتأثير، فنجدها وبالتركيز على لوحتها الأولى عن موضوع جوديث، وباعتمادها على نموذج «المرأة القتول/ القدَر» التي لا تقاوَم (Femme Fatale) تجعل من هذه البطلة نموذجا في قوة البدن، وامتلاء القوام؛ ذلك الامتلاء الذي يوحي بالعافية الشديدة، والعنفوان، وحتّى بالفحولة الطافحة، التي لم يصمد أمامها هولوفيرن/ الذكر، الذي أبدته مترهّلا، وجرّدته – على عكس كارافاجو – من عضلاته المفتولة، وهذا بعدم التركيز على تقنية التظليل في جسده، فبدا ذراعاه موحّدَيْ اللون، باهتيْ التموّجات، والنتوءات، ممّا أوحى بكثيرٍ من الارتخاء، والليونة فيهما. وفضلا عن امتلاء قوام “جوديث” الواضح فقد أتى ثوبها بلونٍ كحليّ قاتم، ممّا يكرّس ملامح النضج، والاكتمال في شخصيّتها؛ فهي امرأةٌ ناضجةٌ، تعرف جيّدا ما تريد، وتصرّ عليه، فلا تكتفي بخدش عنق خصمها، بل يغوص نصلها عميقا في عنقه، ولا تجديه مقاومته، ولا ذراعه الممتدّة نحو الوصيفة في محاولةٍ يائسةٍ للخلاص.
وإلى جانب هذا يمكن ملاحظة أنّ الوصيفة في لوحة “جنتلسكي” شابّة في مثل سنّ سيدتها، وموقفها من العمليّة منسجمٌ تماما مع موقف السيّدة؛ فإحداهما تقطع عنقَ الخصم، والأخرى تساعدها بإحكام ذراعيْها حوله، وشلّه عن الحركة، أو محاولة التملّص، وهو ما يوحي بمدى حرص الفنّانة على تعميم هواجسها الانتقاميّة على أكبر عدد من النساء، وكأنّ الوصيفة هنا مجرد ظلٍّ، أو انشطارٍ لذات السيّدة: كلتاهما يافعةٌ، وقويّة الجسد، ومقدامة، وحاقدة، ومجروحة، وصدى لما يعتمل في نفس الفنّانة نفسها من حقدٍ ونوازع انتقاميّة، بدت معها بطلتا هذه اللوحة انعكاسا خارجيّا لذاتها هي، أو بالأحرى بدتا بمثابة “البورتريه الشخصيّ” (Autoportrait) أو المتنفّس الإبداعيّ، الذي تنفث به ومن خلاله آلامها الخفيّة، وحقدها الدفين على مغتصب براءتها: “تاسّي” الذي قد لا نغالي إن اعتبرناه مجسّدا في شخصيّة “هولوفيرن” القتيل، تماما كما فعلت ماري غارار”(Mary Garrard) كاتبة سيرتها.
وممّا يكرّس هذا المعنى تلك الدماء السخيّة، التي تتدفّق بغزارةٍ من عنق «هولوفيرن»، وتغطي جزءا كبيرا من فراشه، إشارةً إلى أنّ منيّته قد حلّت فعلا، وألا جدوى من أيّة مقاومةٍ، أو محاولة انفلات.
وإلى جانب هذا يمكن ملاحظة ما حرصت الفنانة على الإيحاء به من عناصر توتّرٍ، وعنفٍ، وحقدٍ، وصراعٍ، وانفعالاتٍ صاخبة، فكان تركيزها الأول على شخوصها الثلاثة، وإهمالٌ متعمَّدٌ لما عداهم؛ فباستثناء فراش «هولوفيرن» المدمّى لا نكاد نرى في الخلفيّة سوى ظلامٍ غامضٍ، يوحي بألا همّ للفنّانة سوى التقاط جذوة المشاعر المتطرّفة، وأنّ ما عدا ذلك ليس في نظرها سوى تفاصيل تافهة، وكماليّات، لا جدوى منها، وهذا على عكس «كارافاجو» الذي لم يغفل – رغم احتشاد لوحته بما لا يخفى من التوترات والتفجّرات الدراميّة – عن رصد أدقّ تفاصيل المشهد ومنعرجاته، فنجده يرسم ستارةً مخمليّةً قرمزيّة اللون، باذخة المنظر، تعكس شيئا من البذخ الذي وُصِف بدقّةٍ في المرجع الدينيّ: «وكان هولوفيرن يستريح على سريره تحت ناموسيّةٍ من أرجوانٍ وذهبٍ وزمرّدٍ ترصّعها حجارةٌ كريمة.»
وإن كان هذا يوحي بمدى الترف الإبداعيّ الذي يميّز تجربته، فإنّه قد يخفت قليلا جرعة التأزّم والمعاناة فيها.