I – في الخطاب السياسي
يجدر التنبيه منذ البداية إلى أنَّ الفصل بين التنوير في الخطاب السياسي والتاريخي وفي التراث العربي الإسلامي، ليس سوى خطوة منهجية من شأنها أن تساعد على التحليل وتسهِّل القراءة. لأنّها في الأصل متداخلة بحيث يُحيل كل من هذه الأبعاد على الآخر في شبكة معقَّدة، تستوجب بدورها عملية أخرى من التحليل والتركيب لاستجلاء نسيجها.
* مخلــوف عامــر
ثمَّ، إن حديثي عن مفهوم التنوير في الكتابة الروائية هو في الواقع الأدبي لا يقتصر على الرواية، بل إن المسرح كان سبَّاقاً في عملية التنوير خاصة وأنه يتميز بالعلاقة المباشرة مع الجمهور ويخاطبهم باللغة التي يفهمونها أكثر. ثم تأتي بعده القصة القصيرة التي كتبها (الطاهر وطار) و(ابن هدوقة) سواء من حيث اعتمادها فنِّيات مستحدثة أو طرحها قضايا اجتماعية وسياسية مستجدَّة وقد تكون من الممنوعات في ذلك الوقت.
لقد اصطدمت الكتابة الروائية منذ بداياتها بالرفض والتحريض ضد كُتَّابها باسم المحافظة على القيم الدينية والأخلاقية. لكنْ ((وبقدْر ما أنطقت التشكلات المتباينة للرواية أنواعاً متغايرة من المسكوت عنه اجتماعياً ودينياً وسياسياً، في حدود ما سمحت به شروطها التاريخية، فرضت هذه التشكلات قضايا المجتمع المدني ومشكلاته النوعية على كتاب العصر وكاتباته في المجلات والصحف السيارة التي أخذت تحتفي بالرواية)).
فقد حصل للرواية ما حصل لكثير من المخترعات الوافدة حيث حرَّموا الطباعة في البداية وكفَّروا من يقرأ الصحف والمجلات وحرموا القهوة مدة طويلة وبعض مشايخ السعودية سموا الدرجة الهوائية «حصان إبليس واختلف أئمة المذاهب السنية في مدى صلاحية مياه الحنفية للوضوء والطهارة.. وقد استغرق ذلك فترة من الزمن والنقاش قبل أنْ تستقرَّ الأمور على ما يمليه العقل. فردود الفعل تجاه أيِّ جديد يبدو دخيلاً غريباً، برفضه أكثر من قبوله، إنما يعبر عادة عن مخزون من المسلَّمات لدى المتلقِّي ويؤكِّد في الوقت ذاته الصلة الدائمة بين الواقع والإنتاج البشري أدبياً كان أو غير ذلك.
لذلك، لا يمكن الفصل بين السياسة والتاريخ والتراث، إنها مجالات متداخلة. وعند الحديث عن الكتابة الأدبية فإنها محكومة برؤية الكاتب التي لا يصحُّ تجزئتها. وإنما اعتماد هذه العناصر منفصلة فيما يتلو ليس سوى طريقة من شأنها أنْ تُسهِّل معالجة الموضوع.
يُعدُّ الطاهر وطار من أبرز الكُتَّاب الذين واكبوا التحولات التي عرفتها البلاد. وقد وجد ضالته في الكتابة الروائية التي نشطت منذ بداية سبعينيات القرن الماضي. ولأنه الكاتب الذي تشبَّع بالفكر الماركسي فقد آمن بمقولة الصراع الطبقي وأصبح ينظر إلى هذه التحولات الجارية في البلاد من هذه الزاوية.
فهو ينتقد النظام السياسي القائم آنذاك إذا قرأنا عنوانه ((عرس بغل)) على أنه عقم برجوازي لا يمكنه أنْ ينتج شيْئاً لأن من طبيعته ألا يذهب بعيداً في التنكُّر لطبيعته الطبقية. لكنه حين يكتب ((الزلزال)) فهو في الواقع يرحب بالثورة الزراعية فيظهر التحايل الذي مارسه كثيرون للتهرب من القانون من خلال عبد المجيد (بولَرْواح). فهي من حيث هذا المضمون الذي يبارك هذا الحدث لا يختلف عن تلك الكتابات التي كانت صدى انفعالياً مباشراً للخطاب السياسي لولا أنَّ (الطاهر وطار) يتميَّز بخبرته في الكتابة وفي السياسية بحيث جاءت روايته غنيَّة بالتقنيات المؤثرة ونفَسه السردي الطويل. في حين سارعت بعض الكتابات إلى إظهار ولائها إلى الخطاب السياسي بلا تردُّد ما جعلها لا تعدو أنْ تكون انطباعات باهتة تنتصر للمضمون أكثر ممَّا تولي أهمية للجانب الفني.
يستمرُّ وطار في متابعة الوضع السياسي، فيتعرَّض للصراع بين الشيوعيين المساندين للتغييرات بدعم من حزب الطليعة الاشتراكية يومئذ وبين الإخوان المسلمين المعارضين للنهج الاشتراكي، ولا يفوِّت الفرصة بأنْ يحدِّد وضعه الخاص من حيث إنَّه منشطرٌ إلى نصفيْن أحدهما يتمثل في انتمائه الشيوعي والثاني بكونه مناضلاً في حزب جبهة التحرير إذ كان قد اشتغل مراقباً فيه مدة من الزمن. يقول تعبيراً عن هذا الانشطار: ((أنا معهم ولستُ منهم، وأنا منكم ولستُ معكم))
كما يعرض (عبد الحميد بن هدوقة) لهذا الصراع في (الجازية والدراويش)) بأنْ يصوِّر قرية يتنازعها مشروعان أحدهما رأسمالي والآخر اشتراكي انطلاقاً ممَّا كان يشهده العالَّم من انقسام بيْن مُعسكريْن. ويمكن أن تندرج رواية ((صهيل الجسد)) في جانب منها ضمن هذا المسار وإنْ كانت تنحو نحو البحث عن المُغيَّب في التاريخ أيْضاً وتطرح قضايا أخرى.
لذلك، فإنَّ التنوير في بُعْده السياسي يمكن أنْ يتلمَّسه القارئ بالوقوف على طبيعة الصراع الذي كان يحكم المجتمع ويتعرَّف على التيارات التي كان لها أثرها في الحياة السياسية إلى جانب النظام سواء أكانت موالية أم معارضة باسم الدين أو غيره.
والكاتب في هذه الفترة قد يكون منتمياً تنظيمياً أو متعاطفاً لقناعة فكرية أو أنه مجرَّد مواطن حملتْه الموْجة السائدة فراح يتحرَّك منفعلاً أكثر منه فاعلاً. ولكنَّ الكتابة -في كل الأحوال- استمرَّتْ تعكس التحوُّلات الجارية في البلاد إلى درجة أنها قد تنطبع بكثير من التقريرية والتسجيل. ولديْنا أعمالٌ كثيرة تنحو هذا المنحى منها معظم روايات الطاهر وطار وإن كانت ((الحوَّات والقصر)) تمثِّل طفرة مختلفة تماماً.
II –في التاريخ الوطني:
من المعروف أنه منذ الاستقلال، تأسَّس الخطاب الرسمي على الشرعية الثورية وتاريخ حرب التحرير. وإنَّ معظم الكتابات في سبعينيات القرن العشرين كانت تتحرَّك تحت مظلة هذا الخطاب، فكان من آثار ذلك أنْ صُوِّر الصراع بيْن مستعمِر ومستعمَر، ويُقدَّم المجاهد/الثائر نموذجاً للتفاني في الوطنية والتضحية وحسن السلوك ولا يُستثنى إلا ما يتعلَّق بالخائن العميل المعروف بالحرْكي.
بينما ظهرت أول رواية تخرق حاجز الخطاب الرسمي وهي: ((اللاز)) لمَّا عمد كاتبها إلى النبش في عمق الخلافات التي عرفتها الثورة وفي مقدِّمتها بالنسبة له ما حصل من تصفيات للشيوعيين الذين اشترطوا أنْ يحافظوا على تنظيمهم، بينما كان مناضلو جبهة التحرير الوطني يشترطون حلَّ كل الأحزاب للالتحاق بحزبهم. فكان (زيدان) بطل الرواية نموذجاً يجسِّد هذا الخلاف وتمَّت تصفيته إلى جانب آخرين من الأجانب الذين ناصروا الثورة. لقد كان هذا الموضوع -يومها- من الأسرار والمُحرَّمات. وإنَّه فضلاً عن الأسلوب المشوِّق لدى الطاهر وطار بلغته السهلة واعتماده تقنيات سردية مستحدثة، فأنَّ ولوع القارئ بالاطِّلاع على السر المُغيَّب والذي لم يصادفْه لا في كتب التاريخ المتوفِّرة ولا فيما تلقَّاه على مقاعد الدراسة، قد كان له دوْرٌ كبيرٌ في الترويج لهذه الرواية. والواقع أنَّ وطار وإنْ هو يستبعد في مقدِّمة الرواية أنْ يكون مؤرِّخاً، إلا أنَّه يستدعي حادثة وقع ما يشبهها لمناضل معروف يُدْعى (العيد العمراني).
وسيتكرَّر الموضوع نفسه لدى(رشيد بوجدرة) في ((التفكُّك)) لكنْ من منظور مختلف. إذ في الوقت الذي يُبرز فيه الكاتب دور الشيوعيين في الثورة جزائريين وأجانب، فإنَّه يميِّز -بحكم تلك الظروف من خلال شخصية الطاهر الغمري- بيْن أنْ يكون المرء مسلماً مؤمناً ينتمي إلى حزب شيوعي وبين أن يكون مناضل آخر ملحداً في الحزب ذاته. واللافت لدى (رشيد بوجدرة) أنَّه لا يبقى في حدود التعاطف مع الشيوعيين، بل يوجِّه لهم عتاباً جارحاً، حين يقول: (( لماذا لم يبادروا بالعمل المسلّح؟ هل فاتتهم طبيعة الاستعمار؟ هل سبب هذا الخلل الهائل عدم وجود طبقة عاملة قوية وواعية؟)).
فأما واسيني في ((نوار اللوز، تغريبة صالح بن عامر الزوفري))، فيعود إلى هذا الموضوع في سياق يحاور فيه رواية اللاز، ويسعى إلى أنْ يتميَّز من موقف الطاهر وطار فيقول: ((إنها التركيبة التي لم أفهمها وفهمها زيدان وليد عمي الطاهر.. في البداية لم أقتنع بموته.. قلت في نفسي، لماذا لم يتصرف تصرفا آخر.. على كل حال، تصرف يضمنه شرفه وشرف حزبه وشرف قناعاته. تصورت أنه بقدر ما كان عظيما، كان جامدا عقائديا.(...) أنا متأكد أنه لو آل الأمر إلى لخضر حمروش كان تحرك غير حركة زيدان)).
ولا تخلو الروايات التي صدرت في الألفية الثالثة من التناول السياسي، منها «زعيم الأقلية الساحقة» لـعبد العزيز غرمول، «حضرة الجنرال» لـكمال قرور و»الذروة» لـربيعة جلطي.
ثم يحضر موضوع آخر نادراً ما التفت إليه الكُتَّاب، ويتعلَّق بالتجارب النووية في الصحراء. ففيما قرأت وردت الإشارة إليه في رواية الحبيب السائح: «تلك المحبة» ثم لدى أمين الزاوي في روايته: «يصحو الحرير».
فأمَّا الّذي أفرد لها رواية كاملة فهو «Victor Malo Selva» بعنوان: «رقَّان حبيبتي» ونقلها إلى العربية الدكتور السعيد بوطاجين.
III –في التراث العربي الإسلامي:
عندما عاد الكُتَّاب الجزائريون إلى قراءة التاريخ الوطني استوقفتهم حرب التحرير أكثر من غيرها. لأنه مع نشأة الرواية في السبعينيات كان بريق الثورة مازال يلمع لعدة أسباب منها قرب الفترة الزمنية منها وخطاب السلطة المبني على الشرعية التاريخية ولأن الكُتَّاب أنفسهم منهم مَنْ عاشوا أحداث الثورة إمَّا كباراً أو أطفالاً. ثم بعد ذلك قفزت الكتابة الروائية إلى استحضار التراث العربي الإسلامي سواء في بُعْده السياسي الحاضر كما لدى الطاهر وطار في بعض رواياته: ((عرس بغل، الزلزال، العشق والموت في الزمن الحراشي..)) أو لدى واسيني الأعرج في ((رمل الماية وفاجعة الليلة السابعة بعد الألف وسيدة المقام)) أو مرزاق بقطاش في ((نهاوند)).
فقد جاءت روايات هؤلاء مشحونة بإضاءات تنطوي على دعوة لمراجعة التاريخ وما ترسَّخ في الذهنيات من مُسلَّمات مُعوِّقة للتفكير. يستعيد رشيد بوجدرة أحداثاً تاريخية فلا يوردها كما يتعلَّمها التلاميذ في المدارس، بل يُضمِّنها شحنة من المساءلة والتشكيك، فيضع القارئ في موقف مماثل يدفعه إلى مراجعة ما تلقَّاه. فيقول: ((لما كنت أتردد إلى الكُتّاب بين الذهول والغرور والزندقة لماذا قتلوا «ابن المقفع» و»الحلاج» لماذا أهان موسى طارقا وأوقفه مكانه ورمى به في السجن لماذا اخترع التاريخ هذه الخطبة التي حفظها الأطفال في المدارس وتغذى منها الساسة ولم يكتبها ذاك البربري الزناتي...)).
هذه الظاهرة النقدية تتكرَّر لدى واسيني الأعرج. وغالباً ما يأخذ التاريخ العربي الإسلامي مساحة أوسع في المتن الروائي لديْه، كأنْ يقول: ((الورَّاقون إلى جانب معاوية الأيمن يتهيَّؤون بنجر الأقلام القصبية وكتابة التاريخ المروي داخل العادات الهمجية، ويبحثون عن الدواة ليحرقوا مدادهم وصوفهم، الظلام لم يعد مجرد وهْم، فقد بدأ يخط الذاكرة بندوبه وأشواكه. الألوان سرقت قبل أن تنشأ. حتى أنت؟؟؟ ماذا فعلت أيها الطبري بقلمك؟ لماذا جرَّدته من كل حنين وشوق لقد كنت ورَّاقاً كغيرك)).
بخلاف الطاهر وطار الذي كثيراً ما يركِّز على جوانب من التراث تتعلَّق بما يخدم الخطاب السياسي الظرفي كما تعرَّض لدور الإخوان المسلمين وموقفهم ممَّا عرفته البلاد من تحوُّلات في سبعينيات القرن الماضي. وإذا هو استدعى حادثة تاريخية فتأتي على نحو عابر أو ثانوي بالقياس إلى حاضر الخطاب. من ذلك مثلاً أن يذكر كيف قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة وافتكَّ منه زوجته، أو يشير إلى حمدان قُرْمط وهكذا..
إنَّ الروايات التي تستحضر التراث بعين نقدية، إنّما هي الروايات التي احتكَّ كُتابُها بالفكر الماركسي ودفعهم إلى ذلك أن البلد تبنَّى النهج الاشتراكي في فترة معيَّنة. وكانت الكتابات التاريخية والفلسفية الجديدة قد راجت في البلدان العربية من خلال أسماء معروفة منهم: (حسين مروة وطيب تيزيني وصادق جلال العظم ومحمّد أركون ومحمّد عابد الجابري وغيرهم).