خطاب الكراهية في مواقع التواصل أقل ضررا من خطاب الكراهية في التأريخ
يتحدث الكاتب والأستاذ والباحث الأكاديمي الدكتور البشير بوقاعدة، عن إصداره البحثي الجديد «خطاب الكراهية في النص التاريخي الوسيطي»، الصادر عن دار الباحث للنشر، وهو عبارة عن دراسة تحليلية مستفيضة لنماذج من مصنفات المغارب، ولج من خلالها الباحث إلى موضوع خطاب الكراهية، وفيه وقف على بعض مظاهر هذا الخطاب عبر وسائط التواصل الاِجتماعي وعاين نماذج من الصدامات الفكرية المشحونة بنبرة التطاول والاِزدراء والتحامل والمُبالغة. وفي ذات الوقت تسعى هذه الدراسة إلى رسم الخطوط الأولية لإشكالية خطاب الكراهية في النص المصدري التاريخي الوسيطي الّذي لا تزال مادته تستنجد بأقلام المختصين لمباحثة إشكالية مدى اِلتزام أصحابه ومُنتجيه بالموضوعية، وتحديد مستويات اِحترامهم قواعد التأريخ والتزامهم بمنهجه.
* حاورته/ نوّارة لحــرش
كتابك البحثي الجديد الصادر «خطاب الكراهية في النص التاريـخي الوسيطي». لماذا هذا الموضوع الإشكـالي في هذا الوقت بالذات؟
البشير بوقاعدة: لا خفاء بأنّ خطاب الكراهية -بكلّ ألوانه وضروبه- موضوعٌ حساس وهام، بات يفرض نفسه بإلحاح في ساحة البحث، ويستفزّ أقلام الباحثين -كلٌّ حسب اِختصاصه- لإيلاء أسبابه ومظاهره عناية مركّزة بالبحث والتقصي، وصرف الجهد البحثي الكافي لصياغة الحلول الكفيلة بالحدّ من تداعياته، أو على الأقل التخفيف من وطأته على النسيج الاِجتماعي، خصوصًا ونحن نُعاين اليوم -وللأسف بوتيرة متصاعدة- صوراً لأحداث دامية تعيشها أجزاء من العالم نتيجة تنامي صنوف خطاب الكراهية كالعنف والاِعتداء المادي والمعنوي، والتطاول والتعالي على الآخر، والتعصب والتمييز، ونحوها.
فقط أُشير إلى أنّ ولوج موضوع خطاب الكراهية إلى دائرة اِهتماماتي يعود إلى سنة 2018، حين وقفتُ على بعض مظاهر هذا الخطاب عبر وسائط التواصل الاِجتماعي وعاينتُ نماذج من الصدامات الفكرية المشحونة بنبرة التطاول والاِزدراء والتحامل والمُبالغة، غير أنّي لم أعقد العزم حينها بشكلٍ حازم لتحديد إشكالية تاريخية ذات صلة أخوض غمار معالجتها؛ لأنّني لم أهتدِ زمنئذ إلى موضوع يتناغم وتخصصي في مجال البحث التاريخي. لكن صلتي به تجدّدت وتوطدت أكثر حين شاركتُ في ندوة علمية وطنية حول الاِتصال في الأسرة الحضرية الجزائرية والتنشئة على قيم المواطنة، التي أشرف على تنظيمها مخبر عِلم النفس الإكلينيكي، بجامعة محمّد لمين دباغين سطيف2، يوم 12 فيفري 2020؛ إذ أُثيرت خلالها جملة من الإشكالات ذات الصلة بمسألة خطاب الكراهية من طرف الأساتذة المحاضِرين، فتنامت رغبتي وقتئذ لخوض غمار معالجة إشكالية ذات صلة بخطاب الكراهية. وقد اِهتديتُ بعد فترة من المطالعة والبحث إلى اِستتباع مظاهر ذلك الخطاب ومدى حضوره في متون النص التاريخي المصدري المتعلق بتاريخ المغارب في العهد الوسيط. بِمَا معناه؛ أنّني وجّهت أنظار قلمي لمعالجة تمظهرات خطاب الكراهية التي شابت مادة النص التاريخي أو التي صدرت من لَدُن شريحة النُخب العلمية التي اِنتصبت للتصنيف التاريخي وتدوين الأخبار وجمع أحداثها. وكذا محاولة الكشف عن المخارج من ضيق المخنق الّذي فرضه خطاب الكراهية على رقاب تصور وفكر ووجهات نظر بعض كُتّاب الأخبار تحت طائل الإيديولوجيا والتمذهب والتحيز للسلطة والتعصّب القُطري الإقليمي، ونحو ذلك من الأسباب الدافعة لإنتاج هذا الخطاب ضمن المسار التدويني التأريخي.
برأيك ما أهمية هذه الدراسة في حقل الكتابة التاريخية، وهل تسعى إلى تطويق مضامين الروايات أو المضامين التاريخية وخطابات الكراهية؟
البشير بوقاعدة: ننوّه هنا إلى أنّ هذه الدراسة لا تسعى إلى التطويق الشامل لمضامين الروايات التاريخية التي ثوت بين أحشائها خطاباً ينطق بأيّ لون من ألوان الكراهية والتطاول والتعدّي في المسار التدويني، بقدر ما تهدف -على ضوء النماذج التي تخيّرناها بِمَا يخدم الغرض البحثي ويتناغم وإشكاليته الرئيسة أو مشكلته الفرعية- إلى نفض الغبار عن بعض الجوانب التي من شأنها أن تدفع بالبحث في إشكاليته الرئيسة وجزئياتها أو مشكلاتها الفرعية نحو تجاوز الرُؤى التقليدية والتفسيرات الاِختزالية والاِنسياق غير المؤسس والاقتباس غير الفاحص والاِنتقاء الجائر، من جهة، ومن زاوية ثانية الاِنفتاح على المناهج البحثية التي تسمح بتركيب أفق بحثي جديد يُعين الباحث على إعادة قراءة مادة النص التاريخي قراءةً فاحصة تمكّنه من الاِهتداء إلى الحقائق التاريخية والوقوف على مكامن قوّة النص، ومستويات مصداقيته، ومواطن ضعفه وهشاشة وجهات نظر أصحابه إنْ اِنبنت على غير دليل ولا بيّنة وانساقت وراء العواطف والذاتية. ونحسب، أنّ الدراسة التاريخية التي تعنى بالنفسانيات والقضايا المنهجية، يمكن أن تمنحنا فرصة الاِهتداء إلى بعض حقائق النص المضمرة في نفسية كاتب الخبر إن كان نصّه لا ينطق بمظاهر خطاب الكراهية بلغة فصيحة؛ أي بأسلوب صريح، وتنير دربنا للفصل في القضايا التاريخية التي تحتمل التأويل أو التي وردت في سياق المشترك التاريخي المتقاسم بين الذاتي والآخر.
ومن جهة ثالثة، تروم الإسهام في جهد التنبيه إلى أبعاد ومفرزات هذا السلوك التدويني المنتهج من طرف شريحة من رواة الأخبار والخطاب المعتمد من لدنهم في حق الحدث التاريخي والشخصيات الـمُؤرَّخ لها، على منهج التدوين وعملية الكتابة التاريخية خاصة ما تعلّق بمصداقية الرواية وموضوعية صاحبها. ومن زاوية رابعة، محاولة إعادة تشكيل منظور شمولي يُواكب تطلعات الرؤية البحثية التي تنشدها مناهج البحث التاريخي الحديثة تناغماً وما تفرضه التطورات العلمية الحاصلة في المناهج وتقنيات البحث وطرائقه.
أيضا سعينا من خلال الإشكالية المركزية لهذه الدراسة، إلى الكشف عن أوجه ذلك الخطاب وتمظهراته، وتحسّسنا مواطن ذلك الخطاب الكراهي في جسم المادة التاريخية المدوَّنة على اِختلاف ألوانها المصدرية: كُتب التاريخ العام أو الرحلة والجغرافية أو السير والتراجم والروايات المنقبية. كما حاولنا الحفر في المشاعر السيكولوجية لشريحة من كُتّاب الأخبار تقليباً في الدوافع التي وجّهتهم تلك الوجهة التدوينية، والمؤثرات التي فرضت سلطانها على تصورهم وأثرت في فكرهم وقناعاتهم حتّى أنتجوا نصوصاً تاريخية تخدم أغراضاً ليست من صميم أغراض التأريخ بل تتعارض ومنهجه وقواعده وسؤدد الحقيقة التاريخية وصراطها؛ لكون مساحة من جسم مادة تلك النصوص تُلبي رغبة أطراف فاعلة في الحدث التاريخي بحكم اِمتلاكها زمام الأمور السياسية والإدارية أو تلبي أغراضاً مذهبية-إيديولوجية وإقليمية-جغرافية وعرقية-جنوسية. وعرّجنا في خضم ذلك أيضا على جانب من مخلفات ذلك الخطاب الكراهي الجاثم في متن بعض النصوص التاريخية على مصداقية النص ومكانته في حقل الكتابة التاريخية.
كأنّ هناك صبغة سوداوية في هذه الدراسة حول المادة المدوّنة في متون النص التاريخي المصدري المتعلق بتاريخ المغرب الوسيط وأحداثه. ما خلفيات هذه الصبغة؟
البشير بوقاعدة: أبداً. لسنا نرمي إلى إضفاء صبغة سوداوية على المادة المدوِّنة لتاريخ المغرب الوسيط والمصنفات التي اِحتفظتْ بمادة أحداثه، ولا لنحجب شمس الفضائل الحميدة التي تفضَّل بها أصحابها على عملية تدوين الأخبار وحقل الدراسة التاريخية ولا لنغمط النِعم والخدمات الجليلة التي قدّمها لنا الرواة من خلال ما وضعوه بين أيدينا من نصوص تُمثّل عمدة البحث التاريخي وأساسه المصدري المتين، حين اِقتصر عملنا على رصد بعض عثرات وسقطات كُتّاب الأخبار التي تضمنت ألواناً من خطاب الكراهية. ولكن، ومن منطلق الإيمان؛ بأنّ لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصان وأنّ الكمال لله وحده، فإنّ الإقرار بفضائلهم والإشادة بمجهوداتهم لا يعني الإعراض عن أخطائهم التأريخية وعثراتهم التدوينية؛ ذلك أنّه إنْ كانت هناك نصوص تاريخية مصدرية في غاية الأهمية تجرّد مصنِّفوها -بصورة لامعة- من خطاب الذاتية والتعصب والإيديولوجيا والتحيز المذهبي والسياسي والعرقي-الجنسي حين شيّدوا مادتها، فإنّ هناك نصوصا لا تخلو مادتها من مظاهر خطاب الكراهية -وأحياناً بنسبة عالية- لكون أصحابها لم يتخلّفوا عن الاِستجابة لداعي العصبية والذاتية والاِنحياز والمُبالغة.
ومن ثمّ، طبيعي أنّه في الوقت الّذي توجّب علينا الإقرار بفضل شريحة كُتّاب الأخبار الذين اِجتهدوا في ضبط النفس والاِستئناس بسلطان الحقيقة في مسارهم التدويني وسارعوا إلى ركوب سفينة المنهج التدويني وفق قواعده وأسسه المتينة، ضرورة التنبيه بالموازاة مع ذلك على زلات وعثرات من تأخّر عن الركوب وأبى إلاّ أن يُسطّر أخباراً -قلّت مساحتها في متون مصنّفاتهم أو اِتّسعت- ويدون روايات تاريخية تستجيب لطموحه السياسي الشخصي أو مطامح القيادة السياسية التي يُسبِّح بحمدها، وتطلعاته الإيديولوجية التي يرجوها، وانتماءاته الإقليمية التي يخطب ودّها، سواء بإسهاب في الطرح والتحيّز والتعصب الفاضح خدمةً للتوجّه المنشود والغرض المطلوب، أو بخلط عمل صالح بسيء اِستجابةً لواجب الاِنتماء السياسي والوازع الإيديولوجي وغيرها من المرامي التي هوت به في مزالق هذا الصنف من الكتابة التاريخية.
ترصدتَ في هذا الكِتاب مواطن خطاب الكراهية وضررها ضمن سياقات تاريخية مختلفة. على أي أساس تمّ هذا الرصد؟
البشير بوقاعدة: من باب الإنصاف، ينبغي بهذا الصدد، الإلماع إلى مسألة في غاية الأهمية؛ وذلك أنّنا حين ترصّدنا مواطن خطاب الكراهية ضمن المادة الخبرية التي تثويها المظان المصدرية -التي أخضعناها للمعاينة والفحص- في بطونها، حاولنا الاِبتعاد قدر المستطاع عن سبيل التعميم في إصدار الأحكام على سلوك الراوي ومواقفه ووجهات نظره من غيره في مساره التدويني ولا تعميمها دون بيّنة إلّا ما اِهتدينا إليه -فيما نعتقد طبعاً- على كاهل حجة دامغة وبرهانٍ ثابتٍ، بناءً على ما وسعنا ذلك وما اِهتدينا إليه بعد اِجتهاد في حدود المُتاح. كما تفادينا، ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، اِتّهام كُتّاب الأخبار؛ بأنّهم قصدوا الإساءة إلى خصمهم حين دوّنوا تاريخه بنظرة ذاتية إلّا بعد بحثٍ وتقصٍّ في طبيعة خطابات الكراهية التي يحتملها النص المفحوص؛ من حيث: مستويات حمولتها بصوّرها، وقياس شدّة لهجتها، ومعاينة مدى حدّتها، وفحص عباراتها ومفرداتها هل تنطق بأي لون من ألوانها صراحة وتُعلن عنها بشكلٍ مُباشر أم تحتملها ضمنياً وتتضمّنها بصورة غير مباشرة؟.
وإن كنّا -فيما نعتقد- تفاديناً إلى حدٍّ بعيد سبيل اِتهام المؤلفين بالتقصّد إلاّ عن بينة حسب اِجتهادنا وما اِهتدينا إليه من رؤى غيرنا من أهل البحث الذين شاركونا معالجة بعض المشكلات ذات الصلة بإشكالية بحثنا أو كانت لهم كلمة في هذا الشأن، فإنّ هناك استثناءات تخص بعض كُتّاب الأخبار الذين أطلقوا العنان لذاتيتهم ولم يتورعوا عن إلحاق الأذى اللفظي والمعنوي بغيرهم على كاهل الأوصاف والنعوت المشينة التي تضمّنها خطابهم حيالهم، والتُّهم الخطيرة -في بعض الأحيان- التي نسبوها إلى عناصر الخصم الّذي دوّنوا أخباره دون بيّنة، والتجاوزات التأريخية والجرائم التدوينية التي اِرتكبوها في حقه اِنتصاراً لمذهبهم وإيديولوجيتهم أو مطامح قيادتهم ومرامي ساسة دولتهم على حساب الحقيقة التاريخية، والذين لم نُحجم عن اتخاذ موقف صريح من خطابهم الكراهي المنتهج؛ حين طعنّا في مصداقية بعض وُجهات نظرهم واتّهمنا بعضهم بالتعصّب المفرط والتحيز الحاد. وهذا الصنف الأخير من المدوِّنين يتحمّل نصيباً معتبراً من ثقل مسؤولية خطاب التعدي وجريمة التجنّي على الغير اعتباراً بمخلفات ذلك السلوك التدويني المشينة على قيمة النص التاريخي والإضرار بمصداقيته، يفوق بكثير النصيب الّذي يتحمّله المؤلِّف الّذي تَعصّب وتَحيّز لكن بأدب دون سبّ وشتم أو اِتهام وطعن وليس بإفراط ومبالغة حادة.
هل يعني هذا بشكلٍ ما أنّ ضرر خطابات الكراهية تجاوزت حدود مفرزاتها في السياقات التاريخية ومنها الكتابة والتدوينات التاريخية؟
البشير بوقاعدة: تماماً. وبِمَا معناه؛ أنّ ضرر خطابات الكراهية التي تجاوزت حدود مساحة مفرزاتها ما طال صراط الحقيقة التاريخية من تعدٍّ واختراق وما شاب مصداقية الحدث من طعنٍ وتشويه ليشمل ذلك الضرر تعدي أصحابها على الكيان الإنساني والمساس بالشخصية البشرية والطعن في نظام عناصرها القيمي المنتهج والعقيدة المنتحلة ليس لوجه الحق وإنّما لوجه المذهب المتّبع، يكون أعظم من ذلك الضرر الّذي تجنيه الكتابة التاريخية جراء تجاوزات الرواة في حقها على كاهل نظرتهم التعصبية وانسياقهم وراء الذاتية في تشييد مادتها ونسج أخبارها مع احترامهم الكرامة الإنسانية التي هي جوهر الكيان المعنوي لكلّ فرد حياً كان أو ميتاً، وابتعادهم عن المبالغة قدر المستطاع حتّى لا تُستفرغُ مادتها من قيمة المصداقية بصورة فاضحة.
وما سقف أو مدى تبعات خطابات الكراهية الضمنية وغير الصريحة عبر شبكات التواصل الاِجتماعي؟
البشير بوقاعدة: تبعات خطابات الكراهية الضمنية وغير الصريحة على النسيج العلائقي الناظم لشبكات التواصل الاِجتماعي بين الأفراد المُباشر أو المتزامن؛ أي الصادر في نفس الخط الزمني المُعاش، والصادر فيما بينهم خلال الحقب المتعاقبة، تكون خطورتها على مصداقية الحدث وعملية الكتابة التاريخية أخفّ من ثقل تبعات الخطاب الكراهي الصريح من لدن رواة الأخبار ومواقفهم العدائية المعلنة.
فكأنّنا حالئذ بإزاء مستويين من خطاب الكراهية: خطاب كراهية ضمني مضمر يمكن أن نُسمّيه خطاب كراهية صامت؛ وهو ذلك الّذي لا يبدو في ظاهر النص، ولا يتجلّى على ضوء القراءة السطحية لكن التأويل يحتمله والقراءة المعمقة قد تُجلِّيه. وخطاب كراهية صريح معلن، تبوح به المفردات المستخدمة والعبارات المستثمرة والأسلوب الـمُعبَّر به.