الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

مستقبـــل التـــراث


شكل التراث بمختلف مكوناته ومستوياته محورا لكثير من الدراسات والمشاريع الفكرية في العالم العربي الإسلامي منذ ما سُمي بالنهضة العربية وزاد هذا الاِهتمام أكثر منذ النصف الثاني من القرن العشرين، فكثرت المواقف بشأنه واختلفت لدرجة التباين، والملاحظ أن جل الدراسات والمشاريع الفكرية القارئة للتراث اهتمت بشقه المكتوب، وأهملت الشق غير المكتوب أي التراث الشفوي والشعبي عموما مع أنه يعد حقلا ثقافيا واسعا وخصبا وقد أصبح في السنوات الأخيرة محل اهتمام العديد من المؤسسات الأكاديمية وغير الأكاديمية، ذلك ما يتجلى من خلال عديد الندوات التي تُعقد هنا وهناك حوله خاصة بعد تبني الدول الأعضاء في منظمة اليونيسكو سنة 2003 اتفاقية لصون التراث الثقافي اللامادي والتي دخلت حيز التنفيذ سنة 2006.

*  فارح مسرحي

وما يجب الاِشتغال عليه في هذا السياق هو محاولة الوصول إلى فهم أفضل لوضعية التراث الشفوي كرأسمال رمزي ثم مستقبله في ظل معطيات الراهن المحلي والدولي، والتي تمثل معطى آخر ينبغي اِستحضاره في كلّ مقاربة لموضوعات من هذا النوع: ففيمَ تكمن أهمية التراث خاصة الشفوي منه؟ ثم كيف يمكن الحفاظ عليه والاستفادة منه وترقيته في ظل قوى العولمة التي تحاول فرض نماذج ثقافية جاهزة والترويج لها باعتبارها نماذج إنسانية كونية؟
إنّ الحديث عن التراث عموماً هو حديث عن أحد المقومات الأساسية للأمم، فهو بمثابة العمود الفقري الضامن لقيام الأمم و استمراريتها، ونظرا للأهمية الكبيرة التي يكتسيها التراث فقد حُظيَّ بالعديد من الدراسات التي يحفل بها المشهد الثقافي العربي الإسلامي منذ أزيد من قرنين من الزمن «فتداول كلمة «تراث» في اللّغة العربية لم يعرف في أي عصر من عصور التاريخ العربي من الاِزدهار ما عرفه في القرن العشرين، بل يمكن القول إن المضامين التي تحملها هذه الكلمة في أذهاننا اليوم نحن عرب القرن العشرين لم تكن تحملها في أي وقت مضى»، ولا أدل على ذلك من تلك المشاريع الفكرية العديدة التي ربطت نهضة ومستقبل الأمة العربية الإسلامية بإعادة قراءة التراث، وفقا لثنائية التراث والحداثة، على غرار أعمال: محمد أركون، الجابري، نصر حامد أبو زيد وقبلهم طه حسين، ومحمد عبده... الخ.
وإذا كان التراث في أبسط تعريفاته هو ما تركه السلف للخلف، بمعنى مجمل العناصر الثقافية التي تنتقل من جيل إلى آخر، فإن أوّل ملاحظة تطرح بشأن اهتمام المفكرين العرب والمسلمين بالتراث هي تركيزهم على التراث الرسمي المدون وإهمال أغلبهم للعناصر المنسية والمهمشة أو المنحطة، كالتراث الشفوي، وتراث الأقليات، وما يدخل ضمن «المسكوت عنه في التراث»، فهناك إهمال لقطاع واسع من العناصر الثقافية التي انتقلت من الماضي إلى الحاضر، وهذا الإهمال قد يكون مرده عدم القدرة على المعرفة الدقيقة بهذه الجزئيات، مادام انتقالها يتم دون تدوينها في وثائق يمكن العودة إليها والاشتغال عليها وصفا وتحليلا واستثمارا، مثلما قد تكون العملية مقصودة لغرض معين، وهو ما يعنينا في هذا البحث.
إنّ الثقافة الشعبية غير المدونة تعاني التهميش تارةً والتلاعب بها تارةً أخرى بفعل التعاضد بين السلطة السياسية والثقافة الرسمية والعقل الكتابي
 (Raison graphique) وهذا في ظل ثنائية (المهيمن/المهيمن عليه) حيث يمثل الطرف الأوّل كلّ ما هو رسمي فيما يمثل الطرف الثاني كلّ ما هو: أقلوي، وحتى لاعقلاني في بعض الحالات، أين تُرمى الكثير من عناصر الثقافة الشعبية في دائرة اللامعقول ويتم استبعادها من هذا المنطلق، وإذا كانت هذه الوضعية تفسر لنا ما يحدث محليا، فإن الأمور تزداد تعقيدا على المستوى الكوني حينما نستحضر المقولة المنتشرة في الربع الأخير من القرن العشرين ونقصد بها مقولة العولمة بمختلف آلياتها في الهيمنة على جميع المستويات، فالعولمة تشير كما يقول أحد الباحثين إلى «العملية التاريخية التي تحفر مجراها بشدة في التاريخ الإنساني الراهن، وتؤثر تأثيرات بالغة العمق في كلّ المجتمعات المعاصرة المتقدمة والنامية على السواء».
وإذا كانت تجليات العولمة وأفاعيلها شاملة لمختلف مستويات الوجود الإنساني فإنّ ما يهمنا في هذا البحث هو التجلي الثقافي لها، وعلاقة ذلك بالتراث الشفوي الشعبي، ففي هذا المستوى تبدو العولمة كفعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على الثقافات المحلية، بعبارة أخرى تعمل العولمة على فرض السيطرة الثقافية للولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما على سائر الثقافات الأخرى، تبعا لنظرية «المركز والأطراف»، فهناك ثقافة مهيمنة هي المركز (الثقافة الغربية) تعمل على التوسع والانتشار العالمي، وفي المقابل هناك ثقافات الأطراف التي هي آيلة للانكماش والتلاشي، لأن العولمة هي سوقنة العالم -جعله سوقا- وسلعنة كلّ شيء -جعله سلعة- ويتم ضخ وتمرير عناصر ثقافة المركز عبر وسائل الإعلام والاتصال الكبرى المهيمن عليها من قِبل الغرب لتستهلكها الأطراف شاءت أو أبت، وهنا تطرح الإشكالية المهمة فيما يخص الثقافات المحلية لاسيما الشعبية والشفوية، والتي يمكن صياغتها على الشكل التالي: أي مستقبل لهذه الثقافات في ظل العولمة؟ هل بإمكانها مقاومة قوى التعولم؟ أم أنها تعيش لحظاتها الأخيرة حتى تتلاشى وتزول مثلما زالت ثقافات شعوب عديدة في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا؟.
إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة ليست بالمسألة السهلة، لأنه لا يمكن فهم واستيعاب ما يحدث ثقافيا بمعزل عما يحدث سياسيا واقتصاديا، فالعولمة كما يُقال تمتطي قطار الاقتصاد وتعبئ عرباته بالسياسة والتربية والاجتماع، ومن ثم فمستقبل الثقافة مرتبط بمستقبل السياسة والاقتصاد وغيرها من القطاعات، ولكن المؤكد هو أنّ هناك مسؤولية جمّة مُلقاة على عاتق أهل الثقافات الشعبية المُهمشة.
وعليه فإنّ أولى الخطوات في هذا الاتجاه تبدأ من خلال تجاوز مركب النقص والفكاك من «ذهان الاستحالة» حتّى يكون الفعل ممكنا، لتأتي الخطوة الثانية وهي تجاوز الصراعات المحلية والتنافس الداخلي بإعادة الاعتبار لكلّ العناصر الثقافية التي تساعد على الوحدة والتواصل والاحترام دون إقصاء أو بتر أو تهميش، وتجاوز تلك المعايير التصنيفية التقسيمية المُعبر عنها بثنائيات ضدية من مثل: معقول/لامعقول، بدائي/حضري، شفوي/مكتوب، رسمي/ شعبي... الخ. ثم إعادة تشكيل الرأسمال الرمزي الشامل للجميع والمعبر عن الكل، بعبارة أخرى الرأسمال الذي يعتز الجميع بالانتماء إليه والالتفاف حوله، فهذه الخطوات ضرورية على المستوى المحلي كمرحلة أولى للانتقال إلى المرحلة الثانية والأكثر أهمية والمتمثلة في حماية هذا الرأسمال الخاص من الاختراق الذي يتعرض له من قِبل الرأسمال الرمزي للقوى المهيمنة والتي تقدمه
-أو تفرضه- على أنه قيّم إنسانية كونيّة خالدة.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com