قراءة في مستويـات البنـاء وإشكـالات التخاطـب
محمد الأمين بحري
- رؤية بارنورامية لمسارات العرض
تقدم مسرحية «بوستيشة» لأحمد رزاق، (إنتاج المسرح الوطني الجزائري 2022)، نفسها للجمهور باعتبارها توليفة فنية تجمع بين عدة توجهات، أبرزها: المسرح الواقعي النقدي، والنمط التراجي كوميدي، بأسلوب السخرية السوداء. الذي صار طابعاً معروفاً لدى هذا المخرج. إن كان كل بعد من تلك الأبعاد الفنية غير مكتمل حرفياً في العرض، فإن الطابع العام لهذا العمل سيكون التجريب، الذي سيجعل منه مشروعاً مسرحياً جماعياً.
أما مسارات العرض فقد انشطرت إلى مستويين متعامدين، أو لنقل متقاطعين: هناك مستوى خارج مسرحي، أو ما يسمى بما حول المسرح، أو ما قبل العرض، وهو مستوى سياقي بحت (péri-scène)، والمتمثل في الأبعاد والرسائل التي حملها هذا العمل قبل العرض وفي العرض وبعد العرض، وهي رسائل ذات سياقات خارج مسرحية (أخلاقية وإنسانية واجتماعية وسياسية)، تراصفت لتصنع خطاً أفقياً نصفه الأكبر يقع خارج الركح، ويتعلق بهذه الرسائل والغايات والسياقات الخارجية.
وسنسمي هذا المستوى الأول الخارج مسرحي بالمستوى الأفقي كونه خاص بالشكل والشكليات التي أحاطت بالعرض، لكنها ساهمت في بنائه بشكل كبير (ومن هنا فقد فرضت علينا ذكرها والتطرق إليها) بينما سنسمي على الجانب الضمني داخل المسرح: بالمستوى العمودي كونه يتعلق بمضمون القيمة الفنية للعرض التي نتساءل عن أبعادها العميقة في الفكرة والموضوع والدلالة، التي تتعمق عمودياً وفق التطور الدرامي لأحداث ومشاهد العرض، على عكس مسار تلك الهالة الأخلاقية والرسائل الإنسانية والتأثر الشعبوي للعمل باعتباره تويزة [التويزة مصطلح شعبي جزائري يدل على التعاون التطوعي من أجل إنجاز مشروع خيري بيد عاملة مجانية]، في المجال الفني، ولكن الملحوظ في الأمر أن المستوى الثاني (المضامين المسرحية) بقي خاضعاً للأول (الشكليات). من حيث الأثر والقيمة والبناء في هذا العرض.
أولاً - البعد الأفقي أو سياقات الرؤية الخارجية
(ما حول العرض la péri-scène):
يتعلق المستوى الأفقي، بالشكليات الخارجية للعرض، وينقسم إلى شقين متناظرين:
- الشق الأفقي الأول: وهو الأكبر، ويمتد خارج قاعة العرض (ما حول المسرح peri-theatral)، ينطلق أثره الأول من منشور فيسبوكي للمخرج أحمد رزاق، يدعو فيه الفنانين الجزائريين إلى الانضمام لمشروعه النابع من رغبته في لم شمل أكبر عدد من الممثلين المسرحيين (وهي فرصة للقائهم وعودتهم لأجواء التمثيل بعد سنتين من التوقف الاضطراري، فرصة لتلك الفئة التي لم تشتغل منذ مدة، أو التي طالها التهميش أو الغياب لسبب أو للآخر)، ثم يكون هذا العمل تطوعياً من طرف فريق التمثيل (أي عمل دون مقابل مادي يتلقاه فريق التمثيل والإنتاج)، ثم تكون مداخيل العمل لمصلحة الأطفال مرضى السرطان. وهي قيمة تضامنية تجعل من كل الأطراف المساهمة في العرض تعمل عمل الجمعية الخيرية لتقديم مساعدة إنسانية متعددة الأطراف. سواء للفنان، أو المسرح أو المجتمع. وهو ما يلون هذا العمل في عمومه بطابع مسرح المجتمع. أو بالأحرى المسرح الموظف لغايات اجتماعية بحتة.من هنا اكتسبت مسرحية بوستيشة قيمتها الأخلاقية باعتبارها [تويزة] فنية متعددة الشركاء، كما اكتسبت قيمتها التعاطفية التي ساندتها وزرة الثقافة التي جعلت من صفحة الوزارة (على الفيسبوك) منبراً إعلامياً ودعوياً لحشد الجماهير المتعاطفة مع هذا العمل الفني التطوعي لشراء التذاكر دعماً لهذا المشروع الخيري التضامني والإنساني بأيدي فنانين متطوعين.
- الشق الأفقي الثاني: الممتد داخل المسرح، وهو شق شكلي بدوره، فيقوم أساساً على الجانب الكمي لفريق التمثيل: الذي قارب ال 200 عضواً من بينهم 70 ممثلاُ، و30 راقصاً، وعدد من السينوغرافيين والمخرجين والموسيقيين، والكتاب. ما يمنح هذا المشروع صفة العمل الجماعي التضامني، لكن تحت رؤية إخراجية موحدة من حيث الإشراف الذي كان من طرف المخرج الرئيسي أحمد رزاق، والتنفيذ الذي كان من طرف عدد من المخرجين الثانويين الذين تكلف كل واحد منهم بلوحة من اللوحات التمثيلية للعرض. وكل لوحة تتناغم وتتصل مع بقية اللوحات المجاورة لها في النمو التسلسلي لمشاهد العرض.
ثانياً – البعد العمودي للعرض (الفكرة والموضوع والرسائل)
حتى بعد دخولناً إلى أجواء العرض من الداخل، يستمر المستوى الأفقي في الفكرة الجوهرية للعرض، التي تعبر عن ديستوبيا فنية تحكي قصة تفكك الجسد الاجتماعي والوطني ككل نتيجة عدم المبالاة بحل المشكلات الصغيرة (البوستيشات)، التي تعمل عمل القنابل الموقوتة لتتفجر لاحقاً، أو البثور المنتشرة في جسد المجتمع التي يحتقرها الجميع، والتي يمكن أن تتورم وتتقرح وتخرب نسيج الجسد الاجتماعي بأسره وتدمره. إن لم نسارع لحلها في حينها.
تبدأ فكرة هذا العمل بمشكلة يتم استزراعها إخراجياً في ذهن المتلقي، تتعلق بهشاشة بناء كل شيء في هذا البلد، هشاشة سببتها أياد مفسدة، في بناء كل شيء ، حتى أن المقاول الذي يفترض أن يهيئ إنارة حي سكني، لم يكمل مشروعه، وابتلع تكلفته، ذلك أنه أحد آلاف من أيادي الخراب التي تنهب المال العام، وتختفي في الظلام، ولا يمكنها أن تقدم للبلد سواه، حيث لم ينجز من مشروعه سوى مصباح وحيد، لم يدم طويلاً حتى تم تخريبه، بفعل مجموعات ساهرة تلعب الدومينو، ولما تشاجرت كان مصباح الحي أول ضحاياها، فأنكروا التهمة وتفرق دم المصباح، وتم تغييب الفاعل، وغرق الحي السفلي في الظلام، لتنشأ مشاكل وقلاقل في الحين، حيث يختفي الفاعل الحقيقي وتلتصق التهمة في الشاب إبراهيم، الذي شهد عليه أبناء حيه زرواً، أمام الشرطة التي جاءت تحقق في سبب تلك الضوضاء. يدخل الشاب المسالم والمثقف والمستنير، (إبراهيم)السجن، بتهمة تخريب المصباح الوحيد في الحي حتى صار يلقب في غيابه بـ [إبراهيم اللمبة- أي مصباح الإنارة]، وهنا يلقي المخرج بأول إشكالية في العرض (وهي الإشكالية القائدة والمسببة لكل تداعيات الأحداث وبعدها، باعتبارها الفعل المشعل للتأزم l’acte déclencheur) حين تتحول بذرة التنوير والثقافة إلى بذرة فساد وتخريب، أي يتم إلباس الحق بالباطل، لتسير المسرحية بأسرها خلف هذه القاطرة التعقيدية التي ستتبعها كل تطورات الأحداث، وتجر خلفها بقية العقد التي تأتي بعدها والتي ستكون فرعية ووليدة عنها، كما ستجر خلفها ذهن الجمهور المشاهد الذي سيشارك في العرض بدوره وسيحاول مع فريق العرض فك هذا التعقيد، كونه قد فهم منذ البداية: من الضحية ومن المذنب، ويسمى هذا الفعل في الفنون الركحية، بلحظة الهجوم على المشاهد. وكلما كان هذا الهجوم مبكراً، وفهم المشاهد اللعبة قبل الدخول في تفاصيلها، احتسب ذلك لصالح نجاح العرض وتمكنه من تثبيت المشاهد، وكسب تعاطفه.
في توالي الأحداث.. تبدأ الإشاعات تلفق للشاب إبراهيم تهماً أخرى وعقوبات متفاوتة بين ألسنة الجيران الذين تسري بينهم عدوى التنابز، وبسبب عدم تعاون بعض أهل الحي مع أم إبراهيم، صاروا جزءاً من المشكلة بدل أن يكونوا جزءاً من الحل، حيث وصل مستوى الفتنة والانحطاط حد التشفي في مصيبة الأم في ابنها، وهكذا يبدأ تعفن الوضع من الداخل، وتخرج للعيان أحقاد قديمة، وتستيقظ فتن دفينة، ليصبح الحي حلبة صراع، مبكي ومضحك، في الوقت ذاته.
وتمتد الفتنة من هذه البثرة المتقيحة إلى أحياء وشوارع وولايات أخرى لتعم جسد الأمة بأكملها وتلتهمها كالنار في الهشيم.. وهي رؤية ديستوبية ذات طابع أخلاقي أكثر وضوحاً من طابعها الفني بسبب كثرة الرسائل السياسية، والاجتماعية والإنسانية، التي كادت أن تحول العمل إلى موعظة صريحة بسبب خطابها اللغوي المباشر.. ولم يبق من الجانب الفني (حسب هذه القراءة) سوى طريقة التعقيد وتركيب المشاهد. اللتان ينسب إليهما أي نجاح للعرض. (أي في بعده العمودي)
وحتى الجانب الفني هنا جاء مكرساَ لملء كل جزئية في العرض بالرسائل الأخلاقية والسياسية الكثيرة جداً، والتي غشيت الفكرة البسيطة للعرض التي هي بدورها رسالة تحمل دعوة ثلاثية الأبعاد: بعد سياسي يتجه إلى دعوة ولي الأمر إلى معالجة المشاكل الصغيرة قبل تفاقمها، ونقد تعامل السطلات مع مشكلات الشعب وتعقيدها بدل البحث عن حلول جادة. ودعوة إلى المجتمع لنبذ الفرقة والتعصب والعنصرية، ودعوة إنسانية يحملها الطابع الأخلاقي للخطابات الحوارية والإنشادية والتمثيلية.
وهو ما جعل المستوى الأفقي الشكلي هو الطاغي من حيث الإنجاز والتلقي، على المستوى العمودي الذي لم تكن له المساحة الكافية للبروز.
ثالثاً- التواتر المشهدي وصناعة الإيقاع الداخلي للعرض (قراءة في البناء الدرامي)
لا شك أن البعد الفني لأي عرض يرتكز أساساً على القدرة التنفيذية لفريق الإنتاج، للفكرة النصية، وفق الرؤية الإخراجية، التي تنحو إلى تغليب خيار فني ما على آخر. وهنا نجد بأن التأطير الدرامي للعمل كان تراجيدياً، بينما اللوحات الضمنية، التفصيلية للعرض كانت في معظمها كوميدية ساخرة، حد السواد، وهو ما يدخل العرض ضمن المسرح الواقعي الساخر (وهو التوجه الغالب على مسرح أحمد رزاق)، المنفذ بأسلوب السخرية السوداء. الذي يضيف السمة النقدية إلى هذا الطابع الواقعي. لكن ولا بعد من هذه الأبعاد كان كاملاً وحاسماً لتصنيف العرض نهائياً ضمنه، وهذا ما غلب فكرة التجريب -في هذا العرض، (أو المشروع المسرحي بالأحرى) -على أية فكرة مدرسية أو منهجية أو فنية أخرى.
في البعد النقدي الساخر للعرض، تم التركيز الواضح على عنصر المفارقة الدرامية، وهذا من خلال الهندسة الإخراجية القائمة على الثنائيات المتضادة، التي تنبثق عن الثنائية الكبرى [البعد الأفقي للشكل والعمودي لتعميق الفكرة]، ثم تتولد عنها ثنائية ثانية وهي: الفكرة الإطارية (ذات الطابع التراجيدي الذي تتفاقم فيه المشكلات الصغيرة لتكبر وتصبح معضلة) والحكايات الضمنية الصغرى التي تبني الفكرة الكبرى لكن بطابع كوميدي. وهذا ما جعل الإيقاع الدرامي بأسره يستجيب لهذا التواتر بين التراجيدي العام كإطار فكري وموضوعاتي (thématique)، والكوميدي الخاص في المشاهد الصغرى (les micro-scènes) الموزعة على مفاصل العرض. وقد اعتمد المخرج في إبراز هذه المشاهد الصغرى على ممثلين كوميديين بارزين، كان دورهم مفصلياً في صناعة المفارقات الساخرة، والزج بالجمهور في موجات ضحك تكسر كل ما تم بناؤه من جدران الإيهام، عبر تواتر فني تقتحم فيه لقطات الإضحاك التهريجي التي صنعها الثنائي: [حورية بهلول، ورياض جفافلية] في دور الزوجين: [زغبة وزهور]، على وجه الخصوص.
وقد أوكل لعدد من الممثلين صناعة هذا الكسر الكوميدي للفضاء التراجيدي، محدثين تواتراً بين الفضاء الكوميدي الكاسر والتراجيدي المكسور، أو بين الإضحاك المؤقت، والسوداوية الشاملة لموضوع العرض. وهو التواتر الذي صنع إيقاعاً ثنائيا متعدد الأوجه استطاع أن يتلاعب بمشاعر الجمهور، يشدها تارة ويطلقها تارة أخرى، وهو التواتر الذي انعكس على تلقي الجمهور الذي انتابته بالموازاة مع ذلك الريتم، لحظات صمت تراجيدي وتأملي مطبق، ولحظات ضحك هستيري على المشاهد المفصلية الصغرى. تحت تأثير هذا البناء الدرامي المتواتر، بين الإطار التراجيدي العام، ومشاهده الضمنية الكوميدية الصغرى، وبين الجدران الإيهامية الكبرى للفكرة، ولحظات كسرها بالخطابات المشهدية المضادة، وهذا التواتر البنائي التراجي كوميدي، هو ما ولد الإيقاع الجدلي للعرض الذي ظل صداه يتردد في كل ثنائية متضادة من ثنائيات هذا العرض في بنائه الجدلي. [الظلمة / النور]- [الخوف/ والشجاعة]- [التفكك/ الالتحام]- [الفرد/ والمجتمع]- [الفساد/ الرشاد]- [الضحية/الجلاد]-[الفتنة/ العقل]- [الحرية/القمع]- [الجهل/ الثقافة]- [التعصب/ التفتح]- [العنف/ التسامح]. وغيرها من الثنائيات التي بقيت تتجادل في كل مشهد في إيقاع ضمني متجاوب مع البناء الدرامي والنوع التراجيدي الساخر الذي يحكم الرؤية الإخراجية للعرض.
ومن حيث التأثيث الركحي، اعتمد المخرج على خلفية ثابتة تحولت فيها خلفية الركح إلى شاشة إلكترونية كبرى ثلاثية الأبعاد تعكس للجمهور مجسمات ثلاثية الأبعاد أيضاً، تمثل حياً عاصمياً مشكلاً من مجموعة عمارات تتقاطع في عمق الخشبة، ويتم التحكم في زمنها الليلي والنهاري وتغيراتها الفضائية عن طريق الإنارة التي تظلم وتضيء حسب تغير الفضاءين الزمني والمكاني للمشهد، بينما يستعين الممثلون بأدوات محمولة كالكراسي، وعربات متحركة لتأثيث بعض المشاهد التي يقتضيها كل مشهد.
ونشير إلى أن الفكرة السينوغرافية لهذا العرض تعتمد بشكل شبه كلي على عنصرين: الشاشة الخلفية الثلاثية الأبعاد، والإنارة، كدلالة فنية وفكرية وموضوعية. (متعلقة بموضوع العرض)
فبالإضافة إلى أن البوستيشة الأساسية تندلع من مشكل إنارة (تخريب مصباح النور الوحيد في الحي)، بما يحمله النور والتنوير من دلالة سيميائية وثقافية ورمزية، يفضي تخريبه إلى بروز نقيضه الظلام والظلاميين الذين لا هم لهم إلا محاربة النور في هذا البلد، بداية من العصابة التي لم تتح للناس سوى مصباحاً واحداً ليستنيروا به في لحظات الظلمة، وانتهاءً بمن خرب هذا البصيص من النور، وأدخل العالم في ظلام مستديم، صار الفضاء بعده مسرحاً لكل الفتن والصراعات والاقتتال. بالإضافة إلى مفارقة الفكرة الشيطانية التي يلبس فيها الحق بالباطل وتقلب فيها الموازين، ويعاقب الضحية بتهمة الجلاد.
ليسير العرض بأسره متجاذب الدلالة بين الحقل الدلالي للنور المفقود، والحقل الدلالي للظلام المفتعل. وهي ثنائية سينوغرافية تكشف ثنائية رمزية، تؤطر روح وخلفيته الذهنية، وهي النور والظلام النفسيين والأخلاقيين. والإيديولوجيين. وليسا الفعليين الذين تتحدث بهما إشكالية العرض.
ونستنتج من هذا التواتر الإيقاعي لفكرة البوستيشة، إخراجاً وسينوغرافياً وبناءً فنياً، بأنها إشكالية ثنائية التركيب بالأساس، أي إنها إشكالية مزدوجة. ذات وجهين نقيضين.
تتأسس في تطورها الدرامي على مبدأ كرة الثلج التي يتعاظم حجمها وخطرها كلما تقدمت الأحداث، فتنطلق بوستيشة، فمشكلة، فمعضلة.. لكن الكرة لا تواصل التدحرج، بل تنفجر في منتصف مسارها، إلى شظايا وبوستيشات أخرى تواصل نموها على نفس نسق البوستيشة الأولى.. وهكذا.
تبدأ الإشكالية الأولى أو بالأحرى: يبرز الوجه الأول للإشكالية حينما يتم تخريب مصباح الإنارة، وهو المصدر الوحيد للضوء في الحي، وهي إشكالية صغرى سرعان ما تتعاظم، لتتولد عنها إشكالية جديدة وهي حبس الشاب إبراهيم (بتهمة باطلة، بتخريب المصباح وهو منها برئ)، والتي تصبح مشكلة أم تبحث عن سبل الخلاص لابنها، الضحية البريئة لهذه البوستيشة الصغرى، وتبدأ مشكلة إبراهيم في التعاظم لتصبح قضية رأي عام بين المواطن البسيط ونظام لا يرحم.
وحين تبدأ مشكلة إبراهيم تتعاظم أي تتطور، وتتحول من مجرد بوستيشة، إلى معضلة كبرى تقتضي تضامن أبناء الحي، لكنهم يسيرون عكس ذلك فيتفرقون ، ويخترعون بوستيشات صغرى، أو مشكلات بينية صغرى تشغلهم عن معضلة إبراهيم الضحية. وحين تضعهم أم إبراهيم على محك الواقع لمواجهتهم بالوقوف معها، يهربون إلى بوستيشاتهم المصطنعة، ويتركونها في مواجهة المعضلة، وهذه هي المشكلة الثانية للعرض التي تولد عن الأولى.
أي إن البوستيشة تتكون من هروبين إلى أمام أحدهما وليد عن الآخر: الهروب الأول هو هروب من معالجة المشكلة الصغرى في بدايتها. والثاني هو هروب المجتمع من مواجهة هذه المشكلة الصغرى حين تكبر وتصبح معضلة. عن طريق اصطناع بوستيشات صغرى ينشغلون بها عن القضية الأساسية، والتي قد تكبر بدورها ليهربوا منها عن طريق اصطناع غيرها.. وهذا ما سميناه انفجار كرة الثلج إلى كرات صغرى مرشحة للتعاظم.
رابعاً- بوستيشات داخل بوستيشة (قراء في إشكاليات العرض)
ومن خلال مشاهدة المسرحية يبدو أن هذا العرض التجريبي (أو المشروع المسرحي المشترك) لم يكن متوازناً في مستوييه الأفقي (الشكلي) والعمودي (الدلالي)، حيث غلب الأول على الثاني، بل وسبب له إكراهات عديدة وجب أن نتوقف عندها في الأخير:
- سياقياً، برزت سيطرة التوجه الأخلاقي على الفني في هذا العرض، وطغيان غايات لا مسرحية (ذات توجه شعبوي وإنساني)، على طبيعة العمل وقيمته النهائية.
- في الفضاء السينوغرافي يبدو أن ما سبب فوضى حقيقية على الركح وتشويشاً في حقل الرؤية المشهدية هو العدد الكبير من الممثلين الذين شغلوا جانبي الكواليس وجزءاً هاماً من عمق الركح. حيث مثلوا جمهوراً إضافياً من المتفرجين داخل الخشبة. وهذا خلل فني ظاهر. شكّل صداماً شكلياً وكمياً بين فريق التمثيل وفضاء الخشبة. حيث صار الممثل هنا؛ عبئاً على الخشبة، وسيحدث هذا في أي خشبه أخرى إن اتباع نفس توزيع الممثلين على الخشبة في العروض الثلاثة الأولى على خشبة المسرح الوطني الجزائري. لأن المعيار الكمي للممثلين فائض بفارق كبير على المقاييس الهندسية لأي خشبة.
- وقد شكل الحضور المكثف لجمهور الممثلين غير المؤدين على الركح، شخصيات زائدة، حاضرة جسدياً غائبة أدائياً وهو خلل ثان. (حشو الخشبة بأجساد غير مؤدية) لأن ليس كل ممثل حاضر كان عاملاً. وبالتالي تنتفي عليه صفة الممثل. وحتى إن احتسبناه كديكور، فإن وظيفته في غالب الأحيان غير مبررة. عدا تلك المشاهد التي يمثل فيها حشود الفنانين سكان الحي المتجمهرين.
- وقد خلقت حشود الممثلين المتجمهرين على الخشبة إكراهات فنية واضحة في إدارتهم على الخشبة، شوشت على التلقي والفرجة معاً، حيث كان الجمهور على جانبي المسرح يرى طوابير وصفوف الفنانين المحتشدة على طرفي الكواليس، جالسين على كراسي في انتظار دخولهم، وهو أسوأ ما قد يقع في عمل مسرحي، حيث يختلط العمل داخل الكواليس (الهوامش) بالعمل داخل إطار الخشبة، وكل ذلك أمام الجمهور الذي يشاهد الفضاءين معاً، حينما اكتسحت الكواليس فضاء الخشبة أمام الجمهور، مما يربك الفرجة ويفصل الجمهور عن التلقي الكامل للعرض، ويبقى بصره متذبذبا بين الخشبة وكواليسها المنكشفة أمامه. والمليئة بالممثلين المحتشدين الجالسين على مقاعدهم، في انتظار أدوارهم..؟
- في الأداء التمثيلي انقسم العرض إلى ثلاثة أنماط فنية، أو بالأحرى ثلاثة أشكال من التمسرح، الشكل الأول: مسرحية، هو صلب العرض الذي تدور فيه قصة المسرحية،
والشكل الثاني كان أوبيرات بحتة، التي تميزت بخطابها وبنائها الفني المنفصل عن خط المسرحية،
والتي تميزت بفرقة كورال كثيفة العدد تقف في عمق الخشبة، يتقدمها راقصين مهمتهم التجاوب مع أناشيد الكورال بالأداء الجسدي الفردي والجماعي، وقد أدى التركيب الأوبيراتي البحت للفواصل الغنائية والكوريغرافية إلى فصلها خطاباً وبنية وأداءً وإيقاعاً فنياً عن الجسد المسرحي. من جهة، وتسببت في فصم وتباعد فصول المسرحية من جهة ثانية، بدل ربطها، إذ نشعر بعد نهاية كل فاصل أوبيراتي، وتصفيق الجمهور عليه ثم الدخول في فصل جديد بفضاء سينوغرافي وتأثيث جديد للمسرحية، بصعوبة ربطه بالفصل السابق. مما يؤشر إلى هوة الفصم والتفكيك التي مارستها تلك الوصلات من فن الأوبيرات على البنية العضوية للعرض. (وليست الدرامية المرتبطة بالأحداث التي كانت متسلسلة بإحكام نصاً وتمثيلاً).
- النوع الثالث من التمسرح، هو مسرح الشارع الذي تم إدخاله بعدة طرق إلى الخشبة، فطبيعة الخلفية الشارعية، والزخم الشعبي المتمسرح أمام الجمهور، صورة وحركة وخطاباً، مضاف إليهما العدد الهائل من الممثلين الذين كانوا أفواجاً متوالية على الركح، بكواليس مكشوفة تماماً أمام الجمهور أعطت للعرض طابع مسرح الشارع، حيث كل شيء مكشوف للجمهور واللعب يتم بلا كواليس، وهذا الانطباع هو ما تم تقديمه حرفياً في هذا العرض، حيث أشرنا منذ البداية إلى أن العدد الهائل من الممثلين خلق مشكلة في حقل الرؤية وكشف الكواليس للجماهير التي على جوانب المسرح. وخلق إشكالية إدارتهم أيضاً. فدخل الفريق ككل في طابع مسرح الشارع، في أغلب مشاهد العرض. وهو أسلوب يبدو وقد فرضه الكم على الإخراج.
- الملاحظة الأكثر وضوحاً لدى متتبعي مسرح أحمد رزاق هي أن مسرحية بوستيشة تكرر معدة مشاهد بصورة نمطية سبق للجمهور رؤيتها في المسرحية ما قبل الأخيرة لأحمد رزاق وهي:
العنصر النمطي الأول- أن شخصية إبراهيم الذي يعتقله الأمن لسبب بسيط يتعلق بإشاعة تخريبه للمصباح. هو نفسه شخصية خاطيني الذي يعتقله الأمن لسبب بسيط، هو المشاركة في المظاهرات. وكلاهما شخصية ثانوية، وكلاهما يمثل عنصر الشباب المثقف المستنير، وكلاهما يتم إخفاؤه. وكلاهما يمثل محور إشكالية العرض، ومحور الحديث في فصول العملين ومحور أزمة عائلته، ليكون محور التعاطف لدى الجمهور. في تطابق نمطي حرفي، لا تتغير فيه سوى أسماء الشخصيات دون أدوارها. كأننا أمام مشهد يتم نقله من عرض لآخر. دون مبرر لذلك؟؟
لذلك فالتطابق الوظيفي للشخصيتين، في خطاب وإشكالية المسرحيتين، هو ما جعل المسرحية الثانية نمطية الطرح (أي نمطاً مستنسخاً في هذه المسرحية من حيث الإشكالية الأساسية، ومن حيث التطابق الوظيفي لصورة الشاب الواعي المعتقل، وأزمة عائلته، عن مسرحية خاطيني).
- والعنصر النمطي الثاني المكرر هو تكرار نفس الأفكار في عرضي خاطيني وبوستيشة، وخاصة تلك الفكرة التي سبق وأن رأيناها في مسرحية خاطيني، التي تقدم طرحاً إيديولوجياً للثنائية النمطية التي يجب حسب فكرة المخرج أن تكون متصارعة بين: [الدولة والمواطن]، حيث تقتصر فيها وظيفة الدولة على اعتقال المواطنين، وتقتصر فيه وظيفة المواطنين على دور الضحية، بين خائف من الدولة، وثائر ضدها وفي كلتا الحالتين المواطن ضحية بريئة: وهو ما تجسده حرفياً شخصية الشاب خاطيني من جهة وشخصية أبيه من جهة ثانية، في مسرحية خاطيني، وتقابلها بشكل نمطي في مسرحية بوستيشة: شخصية الشاب إبراهيم من جهة، وسكان حيه من جهة ثانية.
- أما العنصر النمطي الثالث في مسرحية بوستيشة، فيتجسد في دخول رجال الأمن بالزي العسكري ليؤدوا نفس الدور الذي لعبوه في مسرحية خاطيني، وهو اعتقال المواطنين، فيختفي في ذلك الاعتقال عنصر الشباب (خاطيني في الأولى/ إبراهيم في الثانية). فيما تواجه إحدى المواطنات عناصر الأمن، (والدة خاطيني في المشهد الأمني) (وزهور في مشهد افتكاك زوجها من قبضة الأمن).
- إن ما يجعل هذه الأفكار تتكرر في المسرحيتين بشكل نمطي، ليست فكرة فنية أبداً، بل هي فكرة خارج مسرحية، تعيدنا إلى بداية هذا المقال حين قلنا إن المستوى الأفقي الخارج مسرحي، هو المتحكم الذي يقود المستوى الفني العمودي. وهذا السبب الخارج مسرحي المسيطر في المسرحيتين جلي وظاهر للعيان، وهو أن هذه الأفكار النمطية في العملين معاً ذات طبيعة شعبوية بالأساس، كونها مأخوذة بشكل مباشر من الشارع، وتم الزج بها في الركح، باعتبارها أدلوجة سياسية الخطاب والطرح والتمثيل، أبقى المخرج على طابعها السطحي والمباشر في خطاب جمهوره (شارع يخاطب جمهوراً مسرحياً) دون منحها أي تكييف فني، أو جمالي تياترالي.
- والشيء الذي منع هذا الخطاب الشارعي من أن يتكيف فنياً، يتمثل في سببين:
السبب الأول هو أسلوب تقديمه الخطابي المباشر، الذي تم الإبقاء عليه في حالته الشكلية الأولية، الخام. أي نقله حرفيا من الشارع. دون مسافة جمالية فاصلة بين خطاب الخشبة وخطاب الشارع. ولا إعادة كتابة ركحية لذلك الخطاب (مسألة أسلوبية). وهذا النوع من الخطاب النقلي، هو ما أثر كثيراً على المستوى الرمزي في هذه المسرحية، الذي كان قوياً بدوره، لكن تصادمه مع الخطاب المباشر للشارع أدى إلى فصام صارخ بين هذين الأسلوبين النقيضين، في العمل نفسه.
والسبب الثاني هو طبيعة الخطاب الخارج مسرحية، التي سميناها (شعبوية) في العملين معاً. [ينظر مقالنا السابق بعنوان: مسرحية خاطيني لأحمد رزاق- الرهان الفني للمسرح الشعبوي- منشور في موقع الهيئة العربية للمسرح].
ومعنى الشعبوية في الفنون، هي أن لا يقود الفن الجماهير إلى غاياته السامية بأساليبه الجمالية والفنية، بل العكس نجد الفن هو الذي ينقاد للشارع. ويعيد إنتاج خطاباته حرفياً حسب طلب الجماهير أو طلب طائفة منهم، وليس حسب مقتضيات الفن ووسائله الخاصة التي لا تنتمي للواقع (وإن كانت تشير إليه أو تحاكيه) بل تنتمي إلى عالم الفن أسلوباً وغايات. كما قال أرسطو في نظرية المحاكاة.
- وهذه التطابقات النمطية للمشاهد والشخصيات والوظائف والإشكاليات المكررة، والنزوع الشعبوي المشترك في طرحه المباشر لخطاب الشارع أمام الجمهور، هي ما أدخلت العملين في بوتقة نمطية صرفة، غلبت فيها الفوارق الشكلية على الفوارق الفنية. التي أشرنا إليها في هذه القراءة عبر ما سميناه بالمستويين الأفقي والعمودي.
- وما نخرج به كنتيجة من هذه القراءة، هو أن تعدد أفكار العرض قد يؤدي إلى تصادمها، مما يؤثر على تلقي الأفكار جميعاً وإبهامها معاً، فتنطمس الرؤية الفنية. تماماً كما أن الغايات الشعبوية للمسرح تسير بعكس غاياته الفنية.
- كما أن فكرة المسرح الكمي طالما تمت معالجتها إعلامياً أكثر من معالجتها نقدياً وموضوعياً في عالمنا العربي، لدرجة أننا صرنا نسمع الكثير من شركاء الساحة الفنية من مختصين ونقاد يطلقون على المسرح الكمي، عبارات إعلامية، مثل [أضخم عمل فني]، وهو الوصف الذي قرأناه في معظم أعمدة ومقالات الصحافة التي تحدثت عن هذه المسرحية ووصفتها بالعمل الفني الضخم.. ولو تأملنا هذا المصطلح الإعلامي (الضخم) لوجدناه فارغاً فنياً، ولا معنى له في واقع التجربة الفنية، حين يقصد العدد والكم وليس النوع والكيف والعدة، فما معنى ضخامة العمل في مفهوم أعلامنا الثقافي والفني؟ وهل يقصد بها التعداد والكم وجمع أكبر حشد من العنصر البشري؟ أم أن الضخامة في العدة، والإمكانات المسخرة، والتجهيز اللوجستي والتقني والتعاقدات النوعية، وحجم الاستثمار الثقافي في العمل، وما يتركه كل ذلك الجهد من أثر فني وجمالي لدى النقاد والمختصين والمتابعين من إعلاميين وجمهور على حد سواء؟؟