المذكرات تقدم شهادة من الداخل على مسار الأحداث
يؤكد المؤرخ و الكاتب البروفيسور دحو جربال، بأن الاستناد إلى الشهادات الحية في عملية التأريخ، ليس عيبا، خصوصا إذا تعلق الأمر بمذكرات فاعل تاريخي حقيقي، قادر على رواية الأحداث من الداخل، كما هو الحال في الجزء الثاني من مذكرات لخضر بن طوبال، التي جمعها و كتبها خلال سنوات لقائه و تعاونه مع المجاهد الراحل.
حاورته هدى طابي
ـ النصر: ما الذي يحمله الجزء الثاني من مذكرات بن طوبال؟
ـ دحو جربال : الجزء الثاني امتداد للنسخة الأولى من المذكرات شكلا و مضمونا، سواء من حيث المنطق أو المنهجية أو من ناحية الموقف من التاريخ. يتناول المجلد الثاني قضية عبان رمضان مع تفصيل في عمق الأحداث، و شرح للمسار التاريخي الذي انتهى باغتيال عبان، وهو أمر مهم جدا، باعتبار القضية جدلية، وقد كانت هناك محاولات عديدة لتوظيفها، ضمن سياقات غير تاريخية و توجيه سياسي معين للحكم على العسكريين من قبل المدنيين، انطلاقا من استغلال الفروقات والاختلافات والتناقضات في التفكير، ناهيك عن تغذية التأويلات الهوياتية و غيرها من الأمور التي لا تندرج ضمن إطار التاريخ، بقدر ما تعتبر توظيفا لتصورات غير حقيقية، لذلك فإن المذكرات تقدم شهادة من الداخل لمسار الأحداث.
ثانيا، يقدم الكتاب ولأول مرة، تصورا أعمق وأدق لمخطط شال و يعكس تخطيط الحاكم الفرنسي للقضاء على جيش التحرير و على النظام السياسي لقيادة حركة التحرير، بغية تعبيد الطريق نحو وصول الجزائر إلى استقلال بغير استقلال، وذلك بمساعدة جزء من الجزائريين الذين كانوا يتبنون فكرة الانفصال الصوري عن فرنسا مع الحفاظ على الارتباط والعلاقة الوطيدة بين البلدين، وهو ما يبين بأن مشروع شال، لم يكن عسكريا، بقدر ما كان سياسيا الغرض منه قطع رأس قيادة التحرير و دفع رجالاتها إلى التراجع عن الموقف الأول للاستقلاليين القائم على فصل الجزائر عن فرنسا فصلا نهائيا وكليا.
أما النقطة الثالثة من العمل، فتتعلق بالوصول إلى مرحلة المفاوضات، و الحديث عن المسار الذي اتخذته هذه الرحلة و انتهى بتنازل الإمبراطورية، وكيف تجاوز القادة السياسيون الجزائريون محاولات الفرنسيين لجرهم إلى ما يعرف بـ « سلام الشجعان» أو الاستسلام و وضع السلاح، مقابل الاعتراف و المبايعة، و كيف أجبروهم على الجلوس معهم على طاولة واحدة و القبول بهم كممثلين عن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وكلها نقاط تتقاطع في الرؤيا السياسية، بعيدة المدى للثورة من منظور سي لخضر بن طوبال، بما في ذلك سيادة الجزائريين على أرضهم و وحدة الأرض و وحدة التراب و الوطنية القطرية و وحدة الشعب.
المذكــــرات مصـدر للتاريـــخ
ـ هل يمكن اعتبار المذكرات الشخصية جزءا من عملية التأريخ رغم جدل تمجيد الذات و احتمال تجاوز شرط الموضوعية؟
ـ منهجيا ونظريا هناك كفاح في كتابة التاريخ، لأن المنظور الأكاديمي السائد يقدم الوثيقة المكتوبة كمرجية وحيدة، ويلغي صفة العمل التأريخي على كل نشاط غير موثق، وهو منطق يقيد كل محاولة لكتابة تاريخنا و يربطها مباشرة بمنظور الإدارة الاستعمارية، ولذلك قررنا نحن كجزائريين بداية من 1980، مقاطعة هذا المنطق و العودة إلى الشاهد بوصفه الفاعل الأساسي في الأحداث، فالفاعل الحقيقي لا يرتبط بقضية فردية، بل هو فاعل تاريخي يفكر و يتحرك لأجله ولأجل الشعب.
ـ كيف تفسرون الإقبال الكبير للجزائريين على الإصدار التاريخي خلال معرض الكتاب الأخير، هل هي محاولة للبحث عن بدائل للرواية الرسمية مثلا؟
ـ فعلا هو ذلك، لأننا لا نزال إلى يومنا هذا،نعيش حالة استيلاب للفكرة و للذاكرة و للقصة الحقيقية، بخصوص ما وقع في الجزائر من تاريخ حديث ومعاصر.
التاريخ الرسمي أصبح مرتبطا بتاريخ حزب جبهة التحرير و ليس بجبهة التحرير الوطني، و هو احتكار للتاريخ و للكتابة و لكل ما وقع وحدث، و ذلك على اعتبار أن الاستيلاء على الوقائع يعني الاستيلاء على تشريع القيادة، وهو ما أوقع طلاقا بين الحكم و الفكرة التي تنتمي للشعب، لذلك فقد حاولت في المذكرات أن أمنح للفاعل منبرا للحديث عن نفسه وعن الثورة من الداخل، ليوصل للقارئ حقيقة ما وقع فعلا بغض النظر عن الانتماءات و التصورات السابقة.
ـ كيف أثر مسار الحركة الوطنية منذ مؤتمر الصومام و وصولا إلى اتفاقيات إيفيان على بناء الدولة الجزائرية بعد الاستقلال؟
ـ هناك أخذ ورد كثير في هذا المجال، و الجواب يكمن في ضرورة التعامل بجدية أكثر مع فكرة كتابة التاريخ، و ألا يقتصر الأمر على الهواة و بعض الشهادات السطحية، و الواجب فعلا لفهم الأحداث و ترتيبها ضمن سياق متسلسل و صحيح، هو توفر إمكانية الوصول إلى الوثائق والمصادر الأصلية في الأرشيف الجزائري، بما في ذلك وثائق جيش و جبهة التحرير الوطنيين و القيادة السياسية للحكومة المؤقتة و غير ذلك.