هل اِنفتح المسرح على العولمة بالشكل الّذي يخدمه، وما الّذي أضافته العولمة للمسرح العربي؟ وما هي أهم الرهانات والتحديات والإشكالات بهذا الخصوص؟ وهل أزاحت العولمة البصمة أو الخصوصية التي ظل المسرح العربي يتميز بها ويتكئ عليها لعقود طويلة؟ ومن جهةٍ أخرى هل اِنتبه المسرح العربي –حقاً- لإشكالية العولمة –كما يقول الدكتور محمّد الأمين بن ربيع. أم أنّ موقفه منها أو إزاءها لا يزال موقفًا مُلتبسًا رغم خوض الكثير من المسرحيين العرب لغمار التجريب في المسرح.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
حول هذا الشأن «المسرح والعولمة»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، مع مجموعة من النقاد والكُتّاب المسرحيين وبعض الباحثين المشتغلين في حقل المسرح.
زبيدة بوغواص باحثة أكاديمية مختصة في المسرح العربي
مواجهة العولمة بمسرح يحترم هويته
يعد الطرح الّذي يتناول الهم المسرحي العربي من حيث إشكالاته المُتعلقة بكيفية تطويره، دون أن يفقد خصوصيته، ما فتئ يتواصل مع المُمارسين والباحثين في هذا المجال، ولعلّ الإشارة تكون للرواد الأوائل في المسرح العربي مثل توفيق الحكيم ويوسف إدريس وسعد الله ونوس وغيرهم، وسعيهم إلى مسرح عربي أصيل، يُحافظ على هويته، في ظل التجريب الّذي أفرزته التيارات المسرحية الغربية التي تأخذ مفرداتها من بيئتها الخاصة بها.
نقول هذا، لنحاول ربطه بالراهن، كيف لا؟ ونحن في هذا القرن نواجه نظامًا عالميَا جديداً، يقوم بتنميط سلوكيات البشر في المجتمعات كافة، كما يؤدي إلى طمس الفروق الحضارية وإخضاعها لمركزية نظام المفاهيم والقيم السائدة، إذ تكمن غاية النظام الشرق الأوسطي في تفتيت الخصوصية القومية، والقضاء نهائيًا على فكرة العروبة كإطار سياسي واقتراح العولمة كإطار للدولة الصُغرى، وهو يستهدف في حقيقته المستقبل، في هذا الإطار برزت منذ أوائل هذا القرن مجموعة من التحديات، تمثلت في سعي الغرب إلى فرض ثقافته لطمس كلّ ثقافة وطنية، وفي الإحساس بالضعف أمام التقدم الغربي، وبالحاجة الضرورية إلى مسرح عربي يُواجه به هذه العولمة، خاصة العولمة الثقافية التي تعد الجانب الأخطر من الجوانب الأخرى.
إنّ المسرح اليوم بشكلٍ عام يعيش هجرة الجمهور والتلاشي، بفعل التطوّر التكنولوجي الكبير، فقد ظهرت وسائط قوية تنافس هذا المسرح كالانترنت، والفيديو والفضائيات...، وهو ما يؤدي بنا أن نطرح سؤالاً آخر، أين يتجه مسرحنا العربي؟ في ظل هذا الصراع الّذي تفرضه العولمة كمُمارسة وكمفهوم يخلق في الذات العربية الكثير من التوجس والخوف والشكّ والحذر، على أساس أنّها النظرية التي تقوم بتنميط الثقافات المحلية، يمكن القول إنّ المسرح ليس متحفًا يحتفظ بقداسة العمل الفني، وفي قوالبه الفنية والفكرية الجامدة، لهذا فالعولمة تفرض نفسها، ووجب على مسرحنا أن يفرض نفسه أيضا بالتواصل مع التجارب الجديدة في العالم، التي قد تكون تحمل سمة الخلق والإبداع، والاِندماج في الوعي والتجدّد، ولِمَا لا المغامرة باِستضافة تلك التجارب بروح مسؤولة، واعتبار هذه العولمة مشروع اِختلاف، لا مشروع رفض، وهذا حتى يبتعد هذا المسرح عن ذلك الصراع الذي يؤدي إلى متاهات قد يشقى فيها الوعي، وينأى عن النقاش الموضوعي والمتزن، وهذا يتطلب تحديد مفهوم المسرح وتأطيره من جديد، وهذا على أساس أنّ التجريب يستمر، وسيستمر مع الظاهرة المسرحية عامة، ولا يمكن أن يُنظر إليه إلاّ كسؤال فلسفي لا يتولد عنه إلا سؤال جديد، لأنّ المسرح «رحلة مغامرة في المستقبل» على حد تعبير المسرحي عوني كرومي، وهو ما دلت عليه التجربة المسرحية العالمية والعربية، حين تأثرت بطقوس الشرق، وبالتيارات المسرحية التجريبية الحديثة والمعاصرة، فكان الاِحتكاك ومعرفة أشكال الفرجة: فالمسرح العالمي أخذ من طقوس الشرق وسحره: بريخت، وأنطونين أرطو، بتر بروك...، وفي المسرح العربي تأثر بالمسرح الملحمي مثلاً، وإسهامات المسرحيين العرب: سعد الله ونوس، سعد أردش، عز الدين المدني، عبد القادر علولة... وغيرهم.
ويمكن القول أيضًا إنّ مواجهة العولمة تكون بتقديم مسرح يحترم هويته وخصوصيته بالعودة إلى التراث، وهذا لِمَا يزخر به من أشكال تعبيرية شعبية يمكن أن تكون آليات إجرائية في تحقيق هوية المسرح العربي المُتميزة، وربط الظاهرة المسرحية بالمجتمع العربي، وتعبيرها عنه وتكوينها ظاهرة تحمل سمات هذا المجتمع، وتمثل هويته في اللّغة والتاريخ والتكوين الفكري والحضاري والروحي، والتحرّر من هيمنة تداعيات هذه العولمة، وتحقيق خطاب حداثي ضمن عملية التجريب، من خلال ممارسة الاِنفتاح على العالم على أساس أنّه أضحى عالمًا صغيراً تُؤطره وسائل الإعلام، دون أن يعني ذلك الاِنصهار والذوبان في ثقافة الآخر، وحتى لا يكون هذا الاِحتماء بالتراث موقفا تقليديًا قد لا يصمد مع تيار العولمة المتوحش.
سمير رابح باحث في المسرح
المسرح اِستفاد من منجزات العولمة ولكنّه فقد كثيرا من خصوصياته
اِستطاعت العولمة أن تُلغي فكرة الحدود سواء في الثقافات أو الجغرافيا، واستطاعت أن تجعل العالم كلّه عبارة عن قريةٍ صغيرة أو غرفة كونية، بل أكثر من ذلك اِستطاعت العولمة عن طريق وسائلها وأدواتها المختلفة أن تفتح الحدود بين الأجناس الأدبية، بل يذهب بعض النقاد إلى أنّه لم يعد هناك جنس أدبي خالص، لأنّ مفهوم هذا الأخير يرتبط بالأساس بالمجتمعات النقيّة أو الصافية. وبالتالي لم يعد الحديث مُتاحًا لنتكلم عن جنسٍ أدبي واضح المعالم كما اِستطاعت العولمة أن تنسف الحدود الجغرافية بين الأوطان اِستطاعت كذلك أن تُزيح الحدود بين الأجناس الأدبية.
أصبح المسرحُ يعيش وضعًا قلقًا بالنسبة للتطور الهيكلي على مستوى اِمتصاصه لوسائل العولمة من خلال التقنيات الحديثة للإضاءة أو بتوظيف بعض الإكسسوارات، وحتّى على مستوى المؤثرات الصوتية، الشاشات الرقمية...الخ، مِمَا أثر في شكل المسرح بشكلٍ عام وربّما ستعمل العولمة على إلغاء المسرح تمامًا حيث ستظهر تطبيقات إلكترونية ينتعش في عُمقها المسرح خارج العلبة الإيطالية.
وقد يكون المسرح اِستفاد من منجزات العولمة وتقنياتها، ولكنّه فقد كثيرا من خصوصياته، وربّما فيما يزعم المختصون سنفقد خلال السنوات القادمة ما يُسمى بالمسرح التقليدي لصالح المسرح الاِفتراضي، حيثُ سيتداخل فيما تقول فاطمة البريكي في كتابها (مدخل إلى الأدب التفاعلي) ويتطوّر إلى شكل تفاعلي بين الإنسان والآلة، إلاّ أنّه اِستطاع أن يأخذ من العولمة ويطور نفسه ويتناول موضوعات جديدة على مستوى النص لم تكن مطروحة من ذي قبل. بمعنى أنّ العولمة أمدت المسرح من جهة الموضوعات ما جعلته يثري النص المسرحي، ومن جهة الأداة والأدوات ما جعله يتخلص من الأشكال التقليدية كالجوقة والديكور الثقيل.
وهنا يمكننا أن نُشير إلى أنّ المسرح العربي ليس بمعزلٍ عن المسرح العالمي، بل تأثر بالعولمة ولكن الثقافة العربية عملت العولمة فيها على تحويل المسارح إلى سوبرماركات لأنّه لم يُعد مجزيًا ولا مربحًا مادياً أمام تخلي الدول الوطنية عن مسؤوليتها الأخلاقية في حماية المسارح من الاِندثار، ومع التجارب القليلة يمكننا أن نقول أنّ العولمة أثرت المسرح العربي بموضوعات جديدة تجاوزت البنية التقليدية له، بل واستطاعت أن تمنحه فرصة جديدة ليعيد النظر في قواعده، فراجت عروض مسرح الشارع في مقابل المسارح القومية، وظهرت كذلك المسارح الخاصة بدل المسارح الحكومية.
وهنا نقول أنّ التحديات الجديدة التي عكستها العولمة على المسرح العربي أنّه اِستطاع أن يبرز الخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية وأن يقدمها للمجتمع الإنساني، بل اِستطاع هذا المسرح أن يحمي المجتمع العربي من حالات التهجين والمسخ أمام الهجمة الشرسة للعولمة خصوصاً ما يُعرف بأزمة الربيع العربي، كأن يُناقش ملامح الشخصية العربية وأن يتطرق إلى الأنظمة السياسية في البلدان العربية، ويحاول أن يقدم حلاُ لهذا الواقع السياسي.
محمّد الأمين بن ربيع روائي وكاتب مسرحي
العولمة فرصة للاِنفتاح
هذا العصر هو عصر الاِنفتاح الحضاري، وإذا كان كلّ مجتمع في هذا العالم يسعى للمحافظة على خصوصياته الهوياتية فإنّه في الوقت نفسه يسعى للاِنصهار في بوتقة العولمة التي لا تُبالي بتلك الخصوصيات، وتجعل من كلّ العالم كيانًا متقارب المكونات حتّى لا يكاد أحدها يبدو نافراً عن غيره، وإذا كانت العلوم أقدر على الاِستجابة لنظام العولمة لخصيصة الموضوعية فيها فإنّ الآداب والفنون مازالت تحاول الاِستجابة لهذا النظام الّذي سيسمح لها بتأسيس منظومة أدبية عالمية مقوّمها الأوّل هو الإنسان. ولأنّ المسرح رافق الإنسان كفن أدبي قديم اِرتبط ظهوره بظهور الحضارة كفعل إنساني مختلف عن طور البدائية، فإنّ مكوناته اِرتبطت بدايةً بثقافة الشعوب المُنتجة لهذا المسرح، في محاولة من رواد المسرح الأوائل، لتقديم صورة ثقافية متكاملة لمجتمعاتهم. لكنّ المسرح اليوم وعلى قدر اِهتمامه بصورة المجتمع الثقافية بقدر ما اِنفتح على التعدّد الثقافي في العالم لغةً وثيماتٍ وفنونَ عرض وتقنياتٍ كانت في البدء حكراً على بلد دون آخر، ثمّ لم تلبث أن غدت من ضروريات الإنتاج المسرحي.
إنّ المسرح اليوم هو اِمتداد لمسرح الأمس في خصيصة البحث عن الاِنتشار، الّذي صار مرتبطاً بالدخول في نظام العولمة، وتقديم فرصة الاِنفتاح الكوني، على فرصة العزلة الاِختيارية، ولأنّ المسرح فن فقد كان حضوره في المنظومة الثقافية الإنسانية تعبيراً عن جوهر هذه الإنسانية الباحثة عن إزالة الحدود الفاصلة بين مكوناتها المختلفة المبثوثة عبر أنحاء العالم، ولذا اِشتغل المسرحيون على تلك التفاصيل التي تصنع تعبيراً خالصاً عن جوهر الإنسانية، وإذا كان المسرح المرتبط بالفلسفة الوجودية قد سعى إلى اِقتراح حلول للفراغ الّذي يُحيط بالإنسان وهو يبحث عن معنى لحياته، من خلال تثبيت مواقف أخلاقية واضحة مستقلة عن المنظومة الدينية، كسارتر رائد المسرح الوجودي الّذي يرى أنّ للمسرح مهمة تغيير العالم عن طريق الاِلتزام والوقوف في صف التقدّم ودفع النّاس نحو التغيير، فإنّ المسرح المرتبط بالعولمة يسعى إلى الاِنفتاح على العالم، مزيلاً الفواصل بين شعوبه عن طريق الاِستفادة من وسائل التواصل التي أنتجها الإنسان في الحقبة الأخيرة، وساعيًا إلى التقريب بين أُفق تلقي المسرح عند جمهوره على اِختلاف ثقافاته وتعدّد خلفياتها.
ومن الواضح أنّ المسرح العربي قد اِنتبه لإشكالية العولمة، فعقدت مجموعة من الندوات التي حاولت مقاربة هذه الإشكالية في ضوء إصرار المبدع العربي على الحفاظ على مقوّمات هويته، واعتباره مدّ العولمة ما هو إلاّ محاولة لاستلابها، وكان من أهمها الندوة التي أُقيمت خلال الدورة الثانية عشرة من مهرجان المسرح الأردني عام 2004، التي جاءت معنونة بـ»المسرح والعولمة»، وندوة «المسرح الخليجي في مواجهة العولمة» ضمن مهرجان الشارقة المسرحي عام 2006، مِمَا يعني أنّ المسألة لم تكن بتلك البساطة بالنسبة للعرب، فقد وجد المسرحيون العرب أنفسهم في مواجهة نظام طموح ليسود العالم، وهم واقفون في ركن الهوية يحاولون الحفاظ عليها، ناظرين إلى نظام العولمة على أنّه تهديد لهذه الهوية.لا يزال موقف المسرح العربي إزاء العولمة موقفًا مُلتبسًا رغم خوض الكثير من المسرحيين العرب لغمار التجريب في المسرح، ورغم أنّ العلاقة بين التجريب والعولمة قد توطدت بشكلٍ كبير مع بداية القرن الواحد العشرين، إلاّ أنّ المسرحيين العرب اِكتفوا بالتجارب الفردية، بعيداً عن التأسيس لفعل مسرحي خاضع لنظام العولمة، ولعلّ السبب في ذلك يرجع إلى تأثر الفرد العربي بالغرب، دون الحاجة لإعلان ذلك وجعله ظاهرة عامة، حتّى لا يكرّس الهزيمة الداخلية والدونية التي يشعر بها إزاء الآخر المتفوّق حضاريًا وفنيًا، وخوفًا من اِتهام الفاعلين في هذا المجال بتغريب المسرح وعولمته، وإقحام عناصر دخيلة عليه، لذا يبدو أنّ المسرح العربي مازال بعيداً عن تقبّل العولمة والتعامل معها كما تقبلتها المجالات الأخرى الاِقتصادية والسياسية وتعاملت معها على أنّها واقع لا يمكن تجاهله.
محمّد بن زيان ناقد
العولمة ليست شرا مطلقا أو خيرا مطلقا
منذ بدايات تبلور المُمارسة المسرحية في فضائنا الوطني والإقليمي، كان سؤال الهوية والغيرية هو الهاجس الّذي شغل التفكير منذ بداية ما عبّر عنه أدونيس بــ»صدمة الحداثة»، صدمة اقترنت بعنف الاِستعمار، والمسرح كتعبير فني اِنتشر بالتواصل مع الآخر الغربي، مع الاِستناد على ما في الرصيد التراثي من ممارسات قد تندرج في ما يُوصف بِمَا قبل المسرح. وذلك بديهي فالتفاعل ملازم لكلّ التجارب الحضارية والثقافية.
التفاعل بديهي والواجب يفرض تَمثّل مختلف التجارب والاِستفادة منها باِستثمار مبدع يثري رصيد الخصوصية ويسهم في إثراء رصيد المشترك الإنساني الّذي هو محصلة أرصدة الخصوصيات وللدقة في الصياغات، هناك اِنزياح في الدلالة حملته صيغة العولمة بطرحها منذ تسعينيات القرن الماضي، طرحًا يتناقض مع ظاهر الدال فالعولمة المسوّقة في الحقيقة تعويمٌ للخصوصيات وفرض قالب مُحدّد يختزل العالم في منظومة محدّدة منذ بدايات تبلور الممارسة المسرحية في مطلع القرن الماضي وطنياً وعربيًا، كان هناك اِنفتاحٌ على التجارب المسرحية الغربية واستثمار لما في رصيدها من تراكمات، استثمار بإعادة صياغات مرتبطة بخصوصيات المجتمع والسياق التاريخي، واقترن الاِنفتاح بخصوصيات المراحل المتعاقبة فمن اِستثمار نصوص كلاسيكية لشكسبير وموليير إلى الاِلتفات مثلاً للمسرح الملحمي البريختي، ومسرح العبث ومسرح القسوة والمسرح الفقير ومدرسة ستانسلافسكى في إعداد الممثل ومختلف التجارب الرائدة. نرصد ذلك في مسار مسرحنا الجزائري من بداياته مع رواد مثل بشطارزي وعلالو ثمّ تجارب كاكي وعلولة ومصطفى كاتب..
ومن المُؤكد أنّ الإبداع في مخرجاته مكسب إنساني مشترك، وكانت الاِستفادة كبيرة في عملية التفاعل. ولكن الاِستفادة تحقّقت بحس إبداعي لا يستنسخ ولكن يستوعب وينتج بالعلاقة التثاقفية القيمة المضافة.كان لهاجس الخصوصية حضورا وكانت رحلة التجريب بحثًا عن إبداع يمزج بين اِستثمار ما في تجارب الآخر وما في الرصيد التراثي نصوصًا وأشكال أداء وتعبيرا، رحلة بتجارب متنوعة، حملت تسميات مثل الحلقة عندنا والحكواتي في لبنان والاحتفالي في المغرب... تجارب مع رواد مثل كاكي وعلولة وطيب الصديقي وروجيه العساف وسعد الله ونوس...الخ. راهنًا تضاعفت التحديات مع ما أفرزته الثورة الاِتصالية وانتشار الوسائط وتبلور عروض مرتبطة بهذا المعطى العولمي.
والأمر لا يتعلق بحتمية ومهما قِيل فالعولمة لا تعني أنّها شر مطلق ولا خير مطلق بل هي اِختبار. وفي تاريخ البشرية اِختباراتٌ في كلّ مرحلة، اِختبارات جعلت فيلسوف التاريخ أرنولد توينبي يلخص تاريخ الأُمم في كلمتين هُما التحدي والاِستجابة، أي أنّ المصير تُحدّده نوعية الاِستجابة.لقد لخّص الموضوع الفنان اللبناني رفيق علي أحمد في رسالة اليوم العربي للمسرح في جانفي الماضي، إذ قال بهذا الخصوص: «في زمنٍ جعلته القِوى المُهيمِنة زمنَ صراعِ الحضارات، تغدو تلك الحاجة إلى المسرح ملحة أكثر، لأنّ عالمنا يتعرض إلى عملية تدمير مُمنهجة من خلال فرض ثقافة وحيدة سائدة تحت شعار عولمة متوحشة، جعلت الكوكب كله بمثابة (سوبر ماركت) هائلاً، والإنسان مجرّد زبون تُقاس قيمته بقوّته الشرائية لا بقوته الفكرية والإبداعية. وفي ظلّ هذا الواقع الّذي تَسَلَّعَ فيه كلُّ شيء، يقف المسرح المُنفتح على الفنون جميعها، والقادر على الاِستفادة من العلوم جميعها، يقف في خط المواجهة الأمامي، لأنّه لا يستطيع أبداً التخلي عن القيم الإنسانية الفكرية والروحية والمعنوية التي تشكّل جوهر وجوده وسرّ استمراره عبر الزمن. ولئن كانت العولمة في معناها الحقيقي لا كما هي سائدة اليوم، تعني اِنفتاح العالم على بعضه بعضاً، وتفاعل البشر في ما بينهم، وتلاقح الثقافات والأفكار. فإنّ المسرح يُمثل المُختبر الأهم لهذا التفاعل بين الأفراد والجماعات».
حمزة قريرة كاتب مسرحي
المسرح العربي في حاجة إلى تأسيس أولا
اِنطلاقًا من أنّ العولمة في أحد وجوهها تُعنى بالاِنتشار العالمي وكسر الحواجز بين الشعوب والثقافات، فإنّ المسرح أكثر الفنون تحقيقًا لذلك الهدف خصوصاً أنّه فن إنساني عابر للحدود ومُؤثر على اِختلاف اللغات، لكن مع ما يعيشه العالم العربي من اِضطراب في مجالات كثيرة (سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية..) أصبح من العسير الكلام عن مسرح عالمي ينقل ثقافتنا أو يستقبل الآخر فنيًّا ليُقدّمه لنا، إنّ المسرح العربي في تصوّري وقبل أن يفكّر منظّروه في الطرح العالمي يجب أن يؤسسوا له فنيًا وتقنيًا وجماهيريًا، فالسؤال الّذي يجب طرحه قبل سؤال ما الّذي أضافته العولمة للمسرح العربي؟ أو ما هي العلاقة بينهما؟ هو سؤال هوية المسرح العربي: فهل أسسنا مسرحًا عربيًا مستقلاً فنيًا وتقنيًا؟ هل وصلنا إلى وعي جماهيري لتتبع المسرح؟ بوصفه منبراً تثقيفيًا هامًا. هل قدّمنا ما يكفي للمسرح تأليفًا وإخراجًا وإنتاجًا؟
كلها أسئلة يجب أن نجيب عنها قبل الطرح العالمي، فما الّذي سنأخذه أو نقدّمه للعالم ونحن مازلنا نتخبّط في البدايات، بل توجد مناطق كثيرة في الوطن العربي وفي الجزائر بالأخص لم تصل البدايات بعد، حقيقة يجب أن يدركها الجميع، فالمسرح مهمّش ولم يأخذ حقه كباقي الفنون، وهنا تُطرح مسألة تثمين العمل المسرحي، وهي من القضايا التي من شأنها رفع المستوى المسرحي وإلحاقه بالركب العالمي، فهل يتقاضى المسرحي الفنان في الجزائر -مثلاً- أجراً يكفيه بصفته فنانًا؟ الإجابة لا. المسرحي في الجزائر يعاني ماديًا وهذا يجعله يضعف ويتخلى عن مشروعه، لهذا فالمطلب الأوّل لرفع مستوى المسرح وإيصاله للعالمية هو دعمه ماديًا والأولى بالدعم هو الفنان المسرحي ثمّ توفير ما يتطلّبه المسرح لتقديم العروض الفنية بتقنيات عالية.
في مستوى آخر لا بدّ من التطرق إليه بخصوص عالمية المسرح هي النصوص المسرحية ومؤلفيها، ففي الجزائر تعد النصوص المسرحية قليلة جداً مقارنةً بالقصصية والروايات، وهذا راجع لعدم التكوين الصحيح في المجال المسرحي، وخوف الكُتّاب من عدم الاِنتشار أدبياً إن كتب للمسرح، لهذا نجد التأليف في المسرح يعاني الندرة، كما تعد ظاهرة الاِقتباس أكثر طغياناً على الساحة وهذا رغم إيجابيته في اِنفتاح المسرح الجزائري على العالمية إلاّ أنّه بالمقابل وعبر اِنتشاره الواسع يسبّب ذوبان الشخصية الجزائرية في التأليف، فالمطلب الرئيس نصوص جزائرية تنبع من عُمق ثقافتها وتعبّر عنا نحن وبلغتنا ووفق أنساقنا الثقافية كي يصبح للمسرح تأثيره المرجوّ منه، فكثيراً ما تابعنا نصوصًا مسرحية مقتبسة رغم عالميتها وبُعدها الإنساني إلاّ أنّ تأثيرها بسيط على الجمهور لأنّها في نسق ثقافي مختلف عن الّذي أُلّفت فيه، لهذا فالتأليف المحلي موضوعاً ولغةً هو المنطلق الحقيقي نحو العالمية، فالعولمة رغم إيمانها بالاِنتشار إلاّ أنّها ترغب في معرفة المحلي الّذي ستنشره، فالاِنطلاق منا نحوهم ويجب أن يكون هذا التيار هو الأكثر حضوراً من العملية العكسية كي لا يجرفنا تيار العولمة ونتماهى مع الآخر، فالخيط الفاصل بين التفرّد والامحاء في الآخر يجب أن يُراعى على الدوام من طرف الكُتّاب المسرحيين.
كما أُشيرُ في هذا الموضع إلى مسألة الهوة بين المسرح والأكاديميين، فكثيراً ما نجد تناقضات صارخة بين الطرحين وكلٌّ في واده يدعي مُلك زمام المسرح، بينما الأصح أن يحدث التلاحم بينهما ويقدّم كلّ منهما للآخر ما ينقصه فنياً وتقنيًا، ولنا في عملية التزاوج بين الأكاديمي والمسرحي ما يقوم به الأستاذ الدكتور محمد الأمين بحري الّذي يعد بحق ناقداً ميدانيًا للمسرح الجزائري وهي مهمة شاقة في تتبع العروض بعد تحوّلها من نصوص ورقية. المطلوب من المسرحيين الكثير للوصول إلى العالمية في طرحهم أو تقديمنا للآخر لكن يجب أن نوفر لهم ما يحتاجونه من إمكانات وبيئة ثقافية صحية تمنحهم القدرة على التحليق إبداعيًا للقيام بدورهم الثقافي.
وأختم هذه الإطلالة عن علاقة المسرح بالعولمة بالإشارة إلى حال المسرح في جنوبنا الكبير هل واقعه يجعله مقبولاً وطنيًا قبل الكلام عنه عربيًا أو عالميًا؟. إنّ العالمية تنطلق منا، فإن لم نكن فعّالين ومؤثرين بذواتنا لن يقبلنا الآخر بتقليده أو اِستنساخه. والمسرح يظل بوابة ومهاداً للدخول إلى العالمية فإن طوّرناه حقّقنا مبتغانا وإن همشناه لن نأخذ من العالمية سوى القشور ونسخًا مشوهة.
مصطفى بوري كاتب مسرحي
العولمة صارت واقعًا يتجاوز المجتمعات وليس الفنون فحسب
لقد بات من الواضح أنّ العالم في تطوّر مُتسارع جداً، وكلما حاولت المجتمعات اِمتطاء صهوة الحضارة المُتجدّدة كلما كان التغيير قد تسابق مع طموحاتها وآمالها تسابقًا سريعًا لم تستطع كثير من المجتمعات أن تتغلب عليه. والفن بصفة عامة والفن المسرحي على وجه الخصوص أحد أهم العناصر الثقافية التي تواجه التحديات التي تفرضها الظاهرة المستحدثة، بل إنّ العولمة ومكوناتها أصبحت تبدو وكأنّها عائق في وجه الذائقة العامة للمجتمعات، فصارت توجهها وتستسيغها واضعةً الإنسان (أهم العناصر المجتمعية) موضع الآلة، بل إنّ الفرد لم يعد يُساوي بالنسبة للظاهرة اليوم إلاّ رقمًا من الأرقام أو مُتتالية حسابية ولم يعد المجتمع إلاّ معادلة رياضية يمكن حسابها بطريقة فيزيائية متناهية الدقة أحيانًا، ففقدنا بذلك المكونات الجمالية الطبيعية التلقائية، أو على الأقل ما كنا نراه من الجماليات.
إنّ العولمة لم تعد تحديًا كبيرا للمسرح فحسب، بل أضحت تحدياً كبيراً للدول والمجتمعات، فكلّ مناحي الحياة اليوم تواجه ما تفرزه من تبعات هذه الظاهرة الكونية، فقد علمتنا الجائحة مثلاً أنّ الأوبئة في زماننا هذا قابلة لأن تمس العالم بكامله، وقد علمتنا الحركات الشعبية في السنوات الأخيرة أيضا أنّ تغيير منظومة سياسية في بلد ما لا يعني أنّ باقي البلدان في منأى عنه، وما يحصل في بعض الأوطان من فوضى وما طال بعض المجتمعات من خراب لأكبر دليل على أنّ الظاهرة قدِمت كالسيل الجارف، وحتّى الاِقتصاد والتجارة والمالية وغيرها صارت تتحرك في نسق ما يُسمى بالعولمة، ولنا في أسعار المواد الغذائية التي اِرتفعت بشكل جنوني خلال الآونة الأخيرة خير مثال مهما كان السبب. الحروب مثالٌ آخر على تبعات الظاهرة، فلنا أن ننظر أنّه ومع مطلع القرن الفائت قد اِندلعت حروب عُولمت بشكلٍ ما إلى أن فُككت فيها دول. إنّ الشعوب اليوم تواجه رغبة جامحة لأطراف ما لا ندري ما غايتها ولا نعلم دوافعها. لم أرغب بِمَا أقوله الآن أن أرسم صورة قاتمة أزيح عنها المسرح كفن وكأنّه في منأى عمّا يحصل، بل إنّ الأعمال المسرحية اليوم تكاد تكون خبط عشواء في ظل ما تفرضه العولمة على الجماهير التي كانت تتوق لمشاهدة عرض فني، وأذكر في هذا المقام أنّ الجمهور المسرحي منذ أن وُجد الفن المسرحي وإلى يومنا هذا في تناقص، فالمعروف أنّ الجمهور في العصر الإغريقي كان يصل إلى عشرات الآلاف في العرض الواحد، ونحن اليوم نقدم عروضنا إلى بضع عشرات أو في أحسن الأحوال بضع مئات من المشاهدين. وزيادةً على هذا التناقص الّذي يمتد بجذوره إلى أعماق التاريخ، فإنّ تكنولوجيات الإعلام والاِتصال اليوم تجذب إليها الجماهير جذبًا يكاد يكون منافسًا قويًا في ظل ما تقدمه من خدمات تلبي رغبة «المشاهد المسرحي» الّذي اِعتاد حضور العرض الحي وتصرفه عنه. ويعلم الجميع أنّ الجمهور (كما يذكر ذلك أرسطو) هو أحد أهم الركائز التي يقوم عليها العرض المسرحي، فلا يمكننا أن نتصور عرضًا بدون مشاهد. وهذا الكلام قد ينطبق على عموم الجماهير المسرحية في كلّ مكان مثلما ينطبق على شعوبنا نحن في أوطاننا العربية، غير أنني أركز غير جازم على أنّه ينطبق على الجماهير العربية بأكثر حدة.
الآن وقد وضعنا أيدينا على الجرح كما يُقال، وقد شخصنا الداء، وعرفنا مواطن العلة، السؤال الّذي يطرح نفسه: ما هي الحلول التي يمكنها أن تُعالج القضية؟ إنني كفاعل في الميدان ومُمارس للمسرح بشكلٍ يومي، ومن خلال تصادمي مع مثل هكذا قضايا، بل وأعيش كثيراً من مفرزات الظاهرة الكونية، فإنّ أوّل ما أقترحه على المجتمع الفني بالخصوص هو إعمال العقل. -التفكير-. قد يقول قائل أعطنا حلولاً عملية ودعنا من التفلسف، فأرد: هل تعلمون أنّ أكبر عائق وضعته العولمة في طريقنا هو تعطيل الفكر. وبعد ذلك فعلت ما أرادت، لقد طمست عقولنا قبل أن تقدم على طمس هوياتنا وثقافاتنا، وصارت العقول الحية الباقية لا يُسمع صوتها. فَكِّرْ ولا ترضخ للعطل الّذي أصاب عقلك، والعقل سيتحرك بمجرّد رغبة في إعماله. العولمة صارت واقعًا لا يمكن إخماده ولا يمكن تلافيه، لكن ثمّة شيء لابدّ من معرفته، فالعولمة فيها ما هو سلبي يعرفه القاصي والداني، وفيها ما هو إيجابي؛ فَكِّر لتضع يدك على إيجابياتها وتستغلها لصالحك ولصالح مجتمعك، فَكِّر في الكيفيات أيضا. أمّا أهل المسرح فأقول الأصل في هذا الفن أنّه يَقدَّم ساخنًا، ولا أعتقد أنّ العولمة قد تصيب الهدف في هذه الخاصية، فالعرض الحي لا يمكن أن نستعيض عنه لا بالمشاهدات في مواقع التواصل ولا بغيرها، يبقى العرض الحي جمالية في حد ذاته، لكن يجب أيضا أن نُعنى بالدراسات التي تخص الجمهور، حول رغباته وتطلعاته، وحول ما ينتظره كمشاهد، لأنّه لا يمكننا التغاضي عن أنّ العولمة لم تكن لتصيب هدفها فينا لولا أن ضيعنا نحن الجمهور، هذا الجمهور الّذي يشعر بشرخ كبير بين ما يعنيه من قضايا وهموم وما يقدمه الفنان المسرحي على الخشبة. وبذلك يجب علينا رأب الصدع الّذي أصاب علاقة الفن بمحبيه. نعم إنّ المشكلة الأكبر لم تكن في تبعات العولمة فحسب، بل في الممارسات المسرحية التي خلَّفت نوعًا من الهوة السحيقة بينها وبين المجتمع. ويبقى المسرح ذا مكانة مهما أصابه من علل، فالمسرح قد يمرض ولكنه لا يموت.