الكتابـــة بالعربيـــة كـالعـــودة إلى رحــــم الـــولادة
يقدم الروائي أحمد رشرش، لقرائه عملا مختلفا هذه السنة، حيث تسلح لأول مرة بحروف اللغة العربية، ليحارب النسيان و ينصر « الذاكرة»، في أحدث رواياته « الذاكرة الماكرة»، وهو عمل يبحر في العوالم الإدراكية للإنسان، ويصور قدرة هذه الملكة الذهنية على التلاعب بالزمن و استرجاع حالات شعورية يمكن أن تحبس الرجل في قفص الماضي.
حاورته: هدى طابي
صدرت الرواية عن دار خيال للنشر،و يصف الكاتب من خلالها الإعجاز الرباني في تشكيل هذا الوعي الزماني، كما يخاطب عبر صفحاتها ذاكرة المجتمع، مؤكدا في حواره مع النصر، بأن الرواية تستحضر روح الفيلسوف مولود قاسم نايت بلقاسم، لتشارك في رحلة عبر عوالم متداخلة يصعب فهمها، فرغم شغف الإنسان بالمستقبل، تبقى لذاكرته قبضة قوية تحبس أجزاء من هوية الفرد، يحررها الروائي عبر فصول يستهل كل فصل منها بمقولة فلسفية تبين « كيف يمكن أن ينجلي الخوف عند بداية النهايات و يختفي عند نهاية البدايات» و كلها مقولات سيجمعها، مستقبلا في كتاب واحد سيكون ثاني إصدار معرب له، و سابع عمل ضمن مجموعة انتاجاته الأدبية.
يشبه «مادراش»، كما يعرفه قراؤه، ذاكرة المدن بذاكرة الإنسان، في هذه الرواية، التي تحكي قصة « رجل غمرته مياه وادي الرمال، بعد أن طفت ذكرياته على سطح البوسفور، فانجذب إلى أزقة مدينته و سافر عبر الأمكنة، و سابق الأزمنة مخترقا الصخور، لتحتضنه قسنطينة السخية و تقول له أهلا ...رجل كان يتأبط حلما حميميا، لم يبح به لأحد، عن امرأة وردية مخبأة في هيكل كتبه، تمد له يدها، لكنه لم يلتفت إليها ساعتها لأنه كان حبيس الذاكرة».
تقترح الرواية قصّة حب انتهت بانفصال غير قابل للهضم، وقصّة سقوط «مثقّف» في أوحال الحياة. حول الرواية والكتابة كان هذا الحوار مع الكاتب.
. النصر شخصية البطل في الرواية بلا اسم، لكنها تتقاطع معك في دور الكاتب، فما مدى الذاتية في العمل، وهل نحن أمام سرد واقعي لقصة عشتها؟
ـ مادراش: هي عبارة عن فخ أدبي، ليست الرواية سيرة ذاتية، بل خليطا تمتزج فيه العديد من الشخصيات، حيث تظهر شخصية الكاتب بشكل مستقل جزئيا من خلال مواقف معينة، كالحديث عن الاستدمار الفرنسي، و عن الانحلال الخلقي الذي أفرزته التكنولوجيا، وهو جانب تعكسه معاناة البطل نفسه، لذلك فإن هناك مقاطع يتكلم فيها الكاتب بلساني، كما أن هناك أيضا مرورا لشخصيات واقعية أعرفها، مثل ذلك الصديق الذي سافر إلى اسطنبول و أصبح مهربا للعملة الصعبة، وكأنه التحق بركب الفاسدين.
بطل الرواية صاحب شخصية مركبة، تجمع بين أجزائها قطعة من الواقع، ولعل ذلك هو ما دفع بكثير من القراء، و تحديدا أصدقائي، إلى طرح نفس السؤال حول التشابه بين جوانب من حياتي و جوانب من شخصية الكاتب في الرواية، و الإجابة هي أن 90بالمئة من شخصيات « الذاكرة الماكرة»، مستنبطة من الواقع دون ذكر الأسماء، فقد أردت أن أترك باب التأويل مفتوحا، ليرى كل شخص نفسه في تلك الشخصية أو في فصل من فصول العمل.
ـ البطل في الرواية كان مثقفا و صاحب قيم، لكنه خضع في النهاية لسلطة الفساد، فهل في هذه المفارقة محاولة لإدانة المثقف الفاسد مثلا؟
ـ لابد لنا بداية أن نفرق بين الأمور، ولا نخلط بين المثقف و الإنسان، هناك أصناف مختلفة من المثقفين، فهناك المبدع وهناك البسيط الذي لا يغوص في عمق القضايا ويفضل أن يطفو قلمه على السطح، عكس المثقف الملتزم بقضية، و الذي يحارب الفساد و الرشوة و انعدام القيم، و يواجه تحديات كثيرة يمكن أن تنتهي به إلى السقوط في الفخ، فحتى المثقف لديه سقطات. و قد سبق لي و أن شرحت هذه المعادلة في روايتي السابقة، أين ذكرت بأن نسبة من السياسيين الفاسدين في بلادنا، هم مثقفون في الأصل، بل أنهم من نخبة المجتمع، حتى أن بينهم من يملكون مؤلفات، والقصد هنا أن القيم ليست ثابتة عند الإنسان، بل هي مفاهيم نسبية، لذلك يمكن أن يقع الشخص في شرك الفساد خلال فترة معينة من حياته، بسبب غريزته البشرية، كما أن للأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية وحتى النفسية، تأثيرا كبيرا على واقع المثقف الجزائري، و قد تنزل بالإنسان إلى الدرك الأسفل، بدليل ما أفرزته جائحة كورونا من نقائص عند النخبة ومدى طغيان الجانب المادي على طريقة تفكير الكثيرين.
شخصيا أرفض حتى فكرة البيع بالإهداء، لأنني أعتبر كتبي كأبنائي، و أرى بأن ربط الفعل الثقافي بالكسب أو المردود المادي، أمر مقزز وسقطة حقيقية للمثقف.
ـ اللغة في « الذاكرة الماكرة» كانت معجمية بنسبة كبيرة، لماذا اخترت النبش في فهرس الكلمات في وقت يفضل الكثير من الكتاب لغة أقرب إلى القارئ؟
ـ مبدئي في الكتابة هو أن أكون أو لا أكون، لست الكاتب الذي ينزل إلى القارئ بل أفضل أن يجاريني هو، فحين اختار لغة للكتابة ألتزم بالغوص فيها، وأحبذ أن يتعب القارئ في فك تشفير كلماتي، تماما كما تعبت أنا في صفها و ترتيبها، كتابة هذا العمل أخذت مني وقتا، و حتى وإن كنت قد أنهيته في ظرف أربعة أشهر، إلا أن جهد الكتابة كان مضاعفا، بمعدل 12ساعة يوميا، دون توقف.
تعمدت استخدام كلمات تترفع عن السطحية، لأنني لست ممن يكتبون الرواية السهلة، أو رواية محطات القطار، بل أصر على أن تكون كلماتي موقرة و منقحة و مشبعة بالعاطفة، تماما كزهير بن أبي سلمى، الذي كان يكتب القصيدة في سنة وينقحها خلال أربعة أشهر، و يعيد قراءتها خلال ذات المدة، و ذلك لقدسية اللغة العربية لغة المعلقات و القرآن.
ـ ما هو دافعك وراء هذا الانتقال اللغوي من الفرنسية نحو العربية، هل هو الاغتراب الذي تحدث عنه مالك حداد أم لك خلفيات أخرى؟
ـ يذكرني السؤال برشيد بوجدرة، الذي قال، بأنه ليس ابن اللغة العامية الفرنسية، ولذلك عاد إلى العربية التي تعبر عن جذوره، بالنسبة إلي كان أول سبب دفعني إلى رفع التحدي بعد 42 سنة من الكتابة بالفرنسية، هو سؤال استفزني طرحه صحفي جعلني أقرر أن أتعلم لغتي الأم و أتقنها و أكتب بها، المعربون بالنسبة إلي يشكلون عبئا على اللغة العربية، لأنهم إلى الآن لا يزالوا يكرسون مغالطات كثيرة، أبرزها كلمة « الاستعمار»، التي تحدث عنها الفيلسوف مولود قاسم نايت بلقاسم، وبين من خلال ترجمته لمعناها، كم نحن مخطئون في استخدامها وصف المستدمر الغاشم، على اعتبار أن لها دلالات إيجابية، فالمستعمر هو من يعمر المكان وفرنسا لم تعمر الجزائر بل دمرتها.
المعربون لم يتمكنوا من وضع اللغة العربية ضمن قالبها الصحيح، لذلك أخذت على عاتقي هذه المهمة، حيث قررت أنا المفرنس المتهم بلغة الآخر و بالفرانكوفيلية و الفرانكوفونية، أن أناضل من أجل الحرف العربي.
ـ لماذا اخترت هذا التوقيت بالذات في وقت يعيش الكتاب هجرة عكسية نحو اللغة الفرنسية؟
ـ أنا فخور بجزائريتي و بعروبتي ، وربما الأصح أن أقول بعربانيتي، فنحن لسنا عربا بل عربنا، بمعنى أننا نتكلم العربية فقط، تماما مثل نايت بلقاسم، الذي تبنى لغة الضاد و أتقنها بدقة، عن نفسي لم أهجر الفرنسية، لكنني قررت فقط أن أكتب باللغتين، وأن أحمل الشعلة و أناضل من أجل الكلمة العربية، ربما يرتبط موضوع التوقيت بسبب شخصي أكثر، ففي المرحلة التي قررت فيها أن أخوض تجربة العربية، كانت والدتي رحمها لله قد غادرت هذا العالم، وكنت قبل ذلك قد قضيت معها وقتا طويلا، فشعرت حينها، بأنني أعيش مرحلة ولادة جديدة، وكأنني أعود إلى رحم الأم منبع الحياة الأول، لذلك يمكن القول بأن الكتابة باللغة العربية، هي بالنسبة إلي كعودة إلى جذوري وإلى رحم الأم.
ـ و أي من اللغتين عبرت عنك أكثـر؟
ـ أصدقكم القول بأنني لا أزال مفرنسا، و أستعد لإصدار أعمال جديدة بلغة موليير، أهمها روايتي القادمة « البرقية» أي « لاديباش» إلى جانب الجزء الثالث من مجموعتي « ما فيزين3»، بمعنى أن فكري لا يزال فكرا فرانكوفونيا، حتى وان اخترت الحديث بلسان عربي، صحيح أن الأفكار بالنسبة إلي تبقى مجردة من القالب اللغوي، إلا أن اختمارها في ذهني، غالبا ما يكون بالفرنسية، لأنني لم أنسلخ بعد عن هذه اللغة، أحاول مع ذلك أن أصوغ أفكاري إنسانيا، و أن لا أسجنها بأي شكل ضمن قالب لغوي واحد.
ـ كيف تقرأ الأدب المكتوب بالفرنسية، ولماذا يجنح الروائيون الجزائريون في جلد الذات و المجاهرة بعدائهم الصريح لجزائريتهم عند الكتابة بهذه اللغة، هل هي محاولة لمخاطبة ودّ الكولونيالية الجديدة ؟
ـ قرأت كثيرا من انتاجات الأدب الجزائري باللغتين العربية و الفرنسية، وخلال مرحلتي الاستعمار و الاستقلال، و كثيرا ما أقول بأنني أنا نفسي أعيش تبعات وآثار الكولونيالية، رغم أنني لم أعايش المرحلة، الفرنسية بالنسبة إلي هي وثيقة سلام، و ليست غنيمة حرب، كما قال كاتب ياسين، أو منفى، كما وصفها مالك حداد، بدليل أن هناك من الكتاب من يفكر بالعربية ويكتب بالفرنسية و لذلك فإن التعامل مع هذه اللغة، يجب أن يتحرر من قيد الكولونيالية، وأن يرتكز أكثر على فهمها و إتقانها الجيد كأداة للإبداع و للتعبير عن الذات و مخاطبة الآخر دون أخطاء، وهنا أشير إلى الأخطاء اللغوية التي تتضمنها كثير من الإصدارات الأدبية و مذكرات الدكتوراه في الجامعات.
ـ هل ساعدتك الفرنسية على الانتشار في الغرب أو على الأقل في فرنسا، و ما مدى مقروئية رواياتك هناك؟
ـ هو سؤال مؤلم حقا، كتبي في فرنسا تباع على موقع أمازون، و المقروئية هناك كبيرة جدا مقارنة بالجزائر، في أوروبا تباع الأعمال الأدبية بملايين النسخ، لدرجة أن كتابا مثل «هاري بوتر» لامس 450 مليون قارئ، هناك المقروئية تلاحظ بالعين المجردة في المقاهي و في المواصلات و في الساحات العمومية.
أما هنا فالوضع مختلف تماما، شخصيا لم يسبق لي كأستاذ جامعي، أن لمحت طالبا يقرأ، وحتى الجريدة لم يعد لها قراء، أما القرآن فيقرأ بطريقة محاسباتية، بمعنى أن كل عشر كلمات، هي مرادف لعدد من الحسنات و انتهى، أما القراءة التأملية، فلا مكان لها بيننا ولعل ما ذكرته قد يكون كافيا للإجابة على سؤالك.