جمــاليــةُ العمــــارة و بـلاغــــةُ التـأريــــخ
تُقدّم العمارة المتفرّدة لقصر الحاج أحمد باي بقسنطينة، أدق وأبلغ الصوّر التي تحفظ الموروث الثقافي للمدينة و توثّق لذاكرتها، فجدران المكان تنبضُ بالحياة، و تعيد تصوير مختلف أشكالها من خلال سيميمولجيا اللّون والشكل في جداريات القصر و على قطع الزليج التي تُزينه، وذلك بفضل القدرات الاتصاليّة والتعبيريّة الكبيرة، التي تعكس المحيط الاجتماعي و الاقتصادي و الثقافي الذي أنجزت فيه، وهو ما يجعلها مرآة عاكسة لفترة حكم الباي أحمد لبايلك الشرق بين سنوات 1826 و 1837.
هدى طابي
جدران من لوحات
جماليّة الهندسة و العمارة و النّقش والزينة في قصر الحاج أحمد باي، فرضت تصنيفه كمتحف وطني للفنون و التعابير الثقافيّة التقليديّة، كونه عبارة عن كتلة ضخمة من المنجزات الإنسانية الفريدة، التي تجتمع معا و تنصهر بعناية لتشكل الهيكل العام للقصر و مختلف تفاصيله، فهذا الفضاء الممتد على مساحة تعادل 5609 أمتار مربع، هو واحة فسيحة للفن و الجمال، تزيّنها لوحات مرمرية تُؤرّخ لوقائع تاريخيّة و لمعارك خاضها الباي نفسه، كما تروي قصصًا عن مختلف الرّحلات التي قام بها، وتُقدّم هذه التّحفة المعماريّة أيضًا قراءة لمختلف الأحداث التي ميّزت بايلك قسنطينة، خلال سنوات الازدهار والرخاء، إذ تحملُ رسالة ثقافية وأخرى جمالية، كما تعد الجداريات عمالا توثيقيا يسترجع أحداث الماضي والحاضر ويتأمل المستقبل، لأنّ الفنّ الجداري هو مهارة مرتبطة بوجدان الإنسان، و لغة تعبيرية تترجم مكنونات تستمد أصولها من دوافع ومرجعيات عديدة، على غرار العالم الديني، الذي يظهر جليا عبر تجليات العمارة الإسلامية في القصر، وهو نمط يتضمن عناصر تسجيلية تحاكي التاريخ و تغازل الذوق العام وترتقي به من خلال التفاصيل الجمالية على اختلافها.
ويعد القصر من بين المعالم التي تترجم كل هذه المفاهيم و تقدمها بصورة أقرب إلى المثالية، كونه جامع للعديد من عناصر العمارة و فنياتها، سواء تعلّق الأمر بهندسة البناء العام أو بنقوش المشربيات و الدرابزين المنمّق المُمتد على طول 188 مترا، فضلا عن تصاميم و ألوان الأبواب والنوافذ الخشبية الفاخرة وعددها 45 بابا و 63 نافذة تتوسط جدرانا بديعة، مزينة كليا بـما يعادل4.7000 قطعة من الزليج بما يزيد عن 65 نوعا مستوردا من هولندا و إيطاليا و إسبانيا و تونس.
تتراوح أحجام القطع بين 6 سنتيمتر إلى غاية 18 سنتيمترا و يعد الزليج الهولندي « ديلفت» من أفخم الأنواع و أندرها في العالم، تميزه جودته العالية و سمكه الذي لا يزيد عن 3ميليمتر وحجمه المحدد من 6 إلى 9 سنتيمترات، ناهيك عن ألوانه الزاهية خصوصًا الأزرق والبنفسجي، و برسوماته الدقيقة التي تصور تفاصيل الحياة اليومية و رحلات الصيد و الرجال الآسيويين والسفن.
غالبا ما تكون مواضع قطع الزليج الهولندي مستقلّة، بمعنى أنّ كلّ قطعة تشكل لوحدها لوحة فنية مستقلة، وقد يحدث أن ترسم خمس أو ست قطع منفصلة لوحة واحدة، تماما كلعبة التركيب أو «البازل».
قصة السفينة الهولندية التي زينت قصور البايات
يروي الملحق بالترميم في المتحف حيدر رواق، بأن قصة استخدام الزليج في قصور بايات إيالة الجزائر، بدأت مع مصادرة الأسطول الجزائري سيد البحر الأبيض المتوسط لسفينة تجارية هولندية، دفع ملك هولندا لأجل استعادتها ما يعادل سفينتين من الزليج الفاخر، فكانت تلك المقايضة أول عملية تسويق للزليج و بداية دخوله للجزائر واستخدامه لتزيين جدران القصور والمنازل الراقية.
يحتوي القصر كذلك، على نسبة معتبرة من الزليج الإيطالي الذي ينفرد بخاصية ألوانه الصفراء و الزرقاء وبمقاسات تتراوح بين 15 إلى 18 سنتيمترا، وعلى خلاف النوع الهولندي، تصف القطع الإيطالية بشكل متداخل في العادة لتشكل لوحة جدارية واحدة تتوسطها زهرة، أما الزليج الإسباني فتميزه رسومات الحيوانات الخرافية كالتنين، إضافة إلى رسومات الآلات الموسيقية و النافورات، يمكن أيضا حسب حيدر، التفريق بين أنواع الزليج بفضل الرموز الموجودة خلف كل قطعه، فمثلا يطبع شكل الهلال على الزليج التركي و الصقر على النوع الإسباني، ويقلد الزليج التونسي جميع الأصناف الأخرى تقريبا، لكنه يبقى الأقل جودة بسبب سمكه، ناهيك عن أن كل قطعة منه، تشوبها ثلاث نقاط لا تغفل عنها العين، وهي نقاط الحوامل التي تستوجبها عملفية الطهي، مع ذلك، فإن الزليج التونسي الأصلي مميز بزخارفه الهندسية على غرار الطبق النجمي و رمز الهلال.
يخبرنا زميله، الملحق بالترميم عبد الرؤوف بن خليفات، بأن زليج القصر يضم بالإضافة إلى ذلك، قطعا يثار حولها نوع من الجدل، إذ يعتقد بعض الباحثين بأنّها صناعة محلية جزائرية، فيما يؤكد آخرون بأنه زليج تونسي، ويتعلّق الأمر بالقطع المعروفة « بجناح خطيفة»، وهو زليج باللونين الأخضر والأبيض.
أما أفخم نوع في القصر، فهي قطع بسمك سبعة سنتيمترات توجد عند مدخل السلالم المؤدية نحو الطابق العلوي، وتعد تشكيلة نادرة وفريدة من الزليج الهولندي، عليها أشكال سفن بحرية متناهية الدقة وتعتبر كل واحدة منها بمثابة لوحة متفردة.
دليل على الرخاء و رفاهية العيش
تؤكد المهندسة المعمارية مريم زياني، وهي واحدة من أصحاب مكاتب الدراسات الذين أشرفوا على مخطط ترميم جزء من القطاع الحضري المحفوظ بقسنطينة، بأن استخدام الزليج في الفضاءات المنزلية و القصور، كان سمة غالبة على نسبة كبيرة من البيوت في قسنطينة، و تحديدا في القطاع القديم، و قد وجدت أجزاء كثيرة منه أعيد استنساخها خلال الترميمات، وكانت بالعموم قطعا جميلة بألوان زاهية و رسومات جميلة لزهور عديدة أبرزها القرنفل، وبعكس قسنطينة، فإن الزليج لم يستخدم أبدا في منازل ميلة القديمة رغم التقارب الجغرافي الكبير بين المدينتين و اشتراكهما في العديد من العادات و التقاليد، فالزليج كان دليلا على الرفاهية التي عرفها سكان قسنطينة في فترة حكم أحمد باي، و مؤشرا اقتصاديا و اجتماعيا يبين مستوى العيش والرخاء، وهو ما تبينه الدراسات التاريخية و العمرانية.
رحلة حج على أشرعة الفن
ارفع نظرك قليلا عن الزليج و مده نحو الأعلى، لترى جمال جدارية القصر، التي تجسد على امتداد 1600 متر مربع تصور الباي لشكل منزله، والذي يقال بأنه ولشدة إعجابه به فتح أبوابه أمام الزوار من العامة، لمدة أسبوع كامل بعد نهاية ورشاته، وقد وزّعت خلال تلك الفترة أصناف من الحلوى والطيبات، قبل أن يعود الباي لقوقعته البديعة ويسبح سارحا في ذاكرة أسفاره المصوّرة على الجزء العلوي من جدران البناء.
تعد هذه اللوحة خاصة و مميزة من حيث المضمون، إذ يؤرخ جزء هام منها لرحلة الباي إلى الحج سنة 1818، كما تصوّر العديد من المحطات التي مر عليها خلال أسفاره، ولذلك تعتبر، مرجعية بحثية للمهتمين بمجال العمران الإسلامي ، لما تحتويه من تفاصيل مثيرة للاهتمام فيما يخص العمارة، وثقها بدقة النقاش والرسام الحاج يوسف بين سنوات1830 و1835، وهو فنان من الجزائر أنجز العمل بمعية رسامين من قسنطينة.
تتميز الجدارية حسب حيدر رواق الملحق بالترميم في القصر، بالعديد من العناصر الفنية على غرار اللون و الشكل و الحجم، و تغلب عليها رسومات النباتات والأغصان المحورة، كما أنها وخلافا لما هو متعارف عليه في الثقافة الإسلامية، تضم صورا لحيوانات و لآدميين، فضلا عن مزهريات و أشكال هندسية، وتعتبر الأجزاء التي تحكي عن رحلة الباي إلى البقاع المقدسة، سابقة من نوعها في مجال العمارة الإسلامية، حيث تظهر فيها التفاصيل بشكل دقيق على غرار أشكال البنايات والتسقيف والمنارات، ناهيك عن أن الجدارية ترسم مسار الرحلة عبر الطريق البحري، فتجد الموانئ وما يجسد السفن الإسلامية الحربية والتجارية مع إبراز اختلاف السواري و الرايات.
يظهر في الجدارية أيضا، البحر الأبيض المتوسط و نهر النيل، إلى جانب شارع الأسلحة في مدينة القاهرة و المنارات الفاطمية بجامع الأزهر ، كما يبرز معلما آيا صوفيا و السلطان أحمد في اسطنبول و يظهر لنا أيضا من خلال تفاصيلها لباس جندي انكشاري، و تحاكي اللوحة الحائطية الضخمة، عرسا قسنطينيا مع تصوير عروس على هودج و امرأة تحمل قفص حمام، وغير ذلك من الأشكال والتفاصيل ذات الدلالات الاجتماعية والفنية.
أكثر الألوان التي تميز جدارية القصر حسب محدثنا، هي الأوان ذات البعد الحضاري الإسلامي كاللون الأخضر.
الرمزية الدينية لتفاصيل زهرة اللالة
يقول حيدر، بأن الجداريات تتضمّن العديد من الأشكال و التعابير فجزء كبير من الأقواس المحيطة بالحدائق، مزيّن برسومات ستائر زرقاء يحيط بها اللون الأحمر، الذي نجده كذلك في صور المزهريات و الزهور المنتشرة عبر كل فضاءات القصر تقريبا، وتجسد بالعموم صور النباتات المحورة و زهرة السوسن والقرنفل و عباد الشمس، إضافة إلى زهرة اللالة التي تحظى بمكانة خاصة ومقدسة عند العثمانيين نظرا لجمال تفاصيلها كونها تشكل اسم الجلالة « الله».
ورغم أن الفن الإسلامي لا يجسد الإنسان و الحيوان، إلا أنّ بعض جداريات القصر توفرت على صور لآدميين و لحيوانات، بالإضافة إلى الأشكال الهندسية والنباتات، فنجد الأحصنة والجمال و الطيور ناهيك عن صورة لأسدين تحيط بها كتابات معينة، وهو نوعم من الطلاسم التي يشاع أنها تستخدم لحجب النظر و حماية الكنوز و الذهب، كما أوضح مضيفا بأن اللوحة تحمل زخارف على شكل الهلال، إلى جانب رسم لنجمة ثمانية بها زخرفة كتابية تمثل أسماء أهل الكهف.
كل هذه الدقة، جعلت جدارية قصر أحمد باي، مثارا للجدل كما أضاف عبد الرؤوف بن خليفات، فمثلا يحكي المستشرق العسكري شارل فيرو، عن قصة اسكافي كان الباي سيعدمه ثم تراجع عن ذلك حين علم بأنه يجيد الرسم، و قرّر أن يُخفّف عقوبته مقابل إنجازه للجدارية، وهي قصّة استخفّ بها كثيرا زميله كورتوا، و وجد بأنّها بعيدة عن المنطق، مؤكدا بأن من رسما اللوحة فعلا، هما الحاج يوسف والحاج برار وهما من أشهر الفنانين في تلك الحقبة، والمعروف عنهما أنهما درسا في مصر، وكانا من الرحّالة الذين زاروا فعليا المدن الموجودة على جدارية القصر، وهو ما يعكس الدقة في تجسيد تفاصيل العمران.
تتكوّن الجدارية من ثلاث إلى أربع طبقات، بسمك 2 إلى 3 ميكروميليمتر بين كل طبقة قشرية وأخرى، وتقسم وفق كرونولوجيا زمنية متسلسلة، بداية بالفترة التي سبقت حكم الحاج أحمد باي، ثم فترة حكمه تليها فترة سقوط الدولة العثمانية و دخول المستدمر الفرنسي، و تقدم اللوحة بالعموم صورة عامة عن كل مدينة زارها الباي، و الواضح حسب المتحدّث، أنّها صور التقطتها العين من زاوية بحرية، وذلك على اعتبار أن الرحلة كانت عبر الطريق البحري، فالمتأمل للرسومات، سيدرك بأن الرسام ضبط تصوره للوحة وهو ينظر إلى المكان من نقطة مرتفعة قد تكون سارية العلم في السفينة، بدليل الدقة في رسم البنايات والمعالم، وقد لجأ في بعض الأحيان إلى توظيف كلمات مفتاحية تشير إلى المكان المرسوم، مثلما هو ظاهر في الجزء الأول من الجدارية، أين جاء ذكر لمنطقتي «كنديا و خانيا»، اللتين تشيران إلى جزيرة كريت، وكلمة «اسكندر»، التي ترمز للإسكندرية ، كما تصف «المحروسة» مدينة الجزائر، و تشير «حلق الواد» إلى تونس، فيما يرمز وصف «أرجوان الريح» إلى مدينة طرابس الليبية، مع هذا فإن قراءة الكلمات وفك تشفيرها كثيرا ما يصعب على غير الباحثين حسب محدثنا، والسبب راجع إلى التغييرات التي سببتها عمليات الترميم المتتالية، خصوصا تلك التي تمت خلال الفترة الاستعمارية.
عبد الرؤوف، قال، بأن الجدارية لا ترسم مسارا مستمرا غير متقطع، إلا فيما يخص الجزء الخاص برحلة الحج، والذي ينطلق من مشهد مدينة قسنطينة، عند مدخل القصر وصولا إلى مدينة جدة، فلوحة الجدارية تضم كذلك تصويرا لأسفار و رحلات أخرى مختلفة ولأماكن لا علاقة لها برحلة الحج، حيث نجد مدنا عديدة مثل اسطنبول ممثلة في المسجد الأزرق و آيا صوفيا، إضافة إلى مدينة الإسكندرية و المدينة المنورة ومكة، ما يضعنا حسبه، أمام لوحات تأريخية تعكس تصورا واضحا لنمط الحياة والعمران في الفترة الممتدة بين سنوات 1800إلى غاية 1826.
سر اللونين الأزرق والأحمر في جدارية الأسفار
يصف الكاتب التركي أورهان باموق، في روايته « اسمي أحمر» الاهتمام الكبير الذي كان السلاطين و الولاة العثمانيون، يولونه للرسم و النقش، وكيف كانوا يغدقون على النقاشين و ينفقون بسخاء على صناعة الكتب وتذهيبها وتزيين القصور، ويخبرنا صاحب جائزة نوبل للأدب، بأن الرسم بالنسبة إليهم لم يكن مجرد فن، بل كان لغة تعبيرية و دلالة على التحضر و طريقة للتأريخ، وأن الألوان و الأشكال حظيت لديهم بمكانة كبيرة نظرا لرمزية كل لون وكل شكل، فالأشجار مثلا تعني الخلود و الخيول تعني المعارك والتعب والواضح من خلال الرواية، بأن للألوان بعدا متصوفا عند النقاشين العثمانيين، و أن توظيفها في كل تفاصيل الحياة لا يكون اعتباطا، ولعل ذلك هو ما يعكس توزيعها وكثافتها في جدارية أسفار باي قسنطينة، فحسب عبد الروؤف بن خليفات، يعد استخدام اللون الأزرق بكثرة في الطابق الأول من القصر، امتدادا لزرقة السماء و الغرض هنا جمالي في الأصل، كما أن الترجمة النفسية لهذا اللون ترتبط بالعلو والرفعة، في حين تستخدم الألوان الترابية إضافة إلى اللون الأحمر و البني بشكل أكبر في الطابق الأرضي، لأن لها صلة بلون الأرض.
ورغم وضوح جميع الألوان و توظيفها بشكل جميل في مختلف أجزاء الجدارية، إلا أن الناظر إليها لن يغفل، أبدا عن زرقة الأشجار، وسوف يتساءل قطعا عن سبب اختيار هذا اللون لرسمها، والجواب كما يوضح محدثنا، هو التفاعلات الكيميائية التي أثرت مع مرور الزمن على ألوان اللوحة، و هي تفاعلات ناتجة عن تداخل الأصباغ الحيوانية والنباتية التي استخدمها الرسامون الأوائل، و تلك التي أضافها الفرنسيون خلال ترميماتهم.
وكما يحظى الأرزاق بمساحة كبيرة في الجدراية، فإن الأحمر يعد سيد كل اللوحات، وحسب حيدر رواق، فإن لهذا اللون رمزية معروفة عند العثمانيين، فهو لون السلطة و القوة، ولذلك فقد اختير « القفطان الأحمر» على مر العصور كزي رسمي لتتويج السلاطين الأتراك، و المعروف حسبه أن الأحمر كان اللون المفضل للباي أحمد باي مدينة قسنطينة.
* أستاذ السيميولوجيا بجامعة قسنطينة نور الإسلام غدار
الجدارية وثيقة عمرانية وحضارية لا تخلو من البعد القصصي
يرى أستاذ السيميولوجيا بكلية الإعلام بجامعة قسنطينة، نور الإسلام غدار، بأن قيمة الجدارية تكمن في البعد الحضاري والثقافي والتاريخي والإيديولوجي، الذي يظهر جليا من خلال قراءة تحليلية للجزء الذي يجسد مدينة الإسماعيلية مثلا حيث نجد رمزية دلالية في تصوير العمارة إلى جانب الرمزية القصصية، لمحاكاة رحلة الحاج أحمد باي إلى المدينة، خلال عودته من البقاع المقدسة، وهناك رمزية تاريخية تنم عن عراقة وأصالة هذه المدينة، كما توجد رمزية سياسية إيديولوجية، توحي بتبعية مدينة الإسكندرية للحكم العثماني و تظهر من هلال رسومات « الأعلام والرايات».
و تجعل الدقة في التصوير و كثرة التفاصيل، من الجدارية مرجعا للعديد من رجال الثقافة والباحثين الجامعيين والمؤرخين، حيث تحمل العديد من العلامات البصرية التي يصعب استخراج جميع تمثيلاتها، مع ذلك تسمح لنا بالعودة بالزمن إلى تلك الفترة ومعايشة الأحداث التي واكبت رحلة الحاج بطريقة فنية اعتمد فيها الحاج يوسف، على تقنية الفريسك، حيث قام بترطيب سطح الجدار الذي نفذ عليه الرسم، ثم غطاه بطبقة من «المونة»، وبعد جفافها قام بتغطيتها بطلاء أخر أكثر نعومة من سابقه، و رسم عليه بالفرشاة، وتنتمي جدارية مدينة الإسماعيلية حسب الأستاذ غدار، إلى المدرسة الواقعية، وقد شكلت كما قال، علامة فارقة في الفن الجزائري، لما تحمله من بعد جمالي وعمق تأويلي، لذلك تعد من أعظم اللوحات الجدارية في بلادنا رغم مرور ما يقارب 184 سنة على إنجازها، خصوصا وأنها تحمل العديد من الرسائل التقريرية والضمنية حول تاريخ المدن التي زارها الحاج أحمد باي وامتدادها الحضاري و الجيوسياسي.
تكمن هوية هذه الرسالة كما أضاف، في العناصر التي شملتها مثل العمارة والمالحة والزراعة والتجارة وغيرها وهنا يتضح نظام حياة المسلمين وطريقة عيشهم، والواضح من خلالها، أن العمران الإسلامي له مبادئ خاصة فمثالا كانت الميادين والأسواق متمركزة حول الساحة المجاورة للمسجد، فيما جاء تصميم المساجد بشكل بسيط، وقد اتجهت المدينة الإسلامية أفقيا، لأن الرسول نهى عن التطاول في البنيان، ومن أبرز ما يميز جداريات الحاج يوسف أنها أكثر تحريا للجانب النفسي، حيث عمل على إظهار الحياة الداخلية والشخصية الاجتماعية والثقافية والنفسية للمدن التي صورها، فتصويره لعمارة مدينة الإسماعيلية باللون الأبيض والرمادي، دل على نوع من الوحدة والتناغم في العمران، ولون الأراضي المحيطة بها باللون الأحمر الآجوري للدلالة على الخصوبة، وصور النهر والسفن بأنواعها للدلالة على الحركية والتنوع الذي ميز تلك الفترة كما صور الستار للدلالة على الحشمة والسترة والاحترام.
التحليل السوسيوثقافي للألوان الطاغية
يرمز اللون الأحمر الآجوري في الثقافة الشعبية، حسب أستاذ السيميولوجيا، إلى البهجة والسرور والحب، أما في التراث الديني، فيوحي بالشهادة من أجل مبدأ أو معتقد، أما اللون الأبيض، فيرمز إلى السلم والخير و الأمن، أما في التراث الديني فيدل على الصفاء والنقاء، فيما يرمز اللون الأزرق في التراث الشعبي، إلى كل ما هو واسع وذو أفق بعيد، و هو في التراث الديني رمز للمجرمين، ويعد اللون الرمادي في التراث الشعبي دلالة على النفاق والحيادية، أما في التراث الديني فيرمز إلى الضبابية والدخان، و اللون الأخضر في التراث الشعبي هو رمز السعادة والراحة النفسية، أما في التراث الديني فيدل على الجنة فيما يوحي اللون البني بالحزم والقوة المادية.
هـ.ط