- ملو - .. تمثال ميلة - المجهول - الذي يغذي الأساطير
يعتبر تمثال «ملو» بميلة القديمة، معلما تاريخيا شاهدا على تعاقب الحضارات التي مرت على المنطقة، حيث اكتشف خلال الحقبة الاستعمارية، و تتواصل اليوم جهود الحفاظ على هذا الكنز التاريخي من الضياع بوصفه نصبا ذا قيمة كبرى رغم أنه مجهول بالنسبة للكثير من الجزائريين كونه لم يحظ بالترويج السياحي والإعلامي اللازمين كغيره من الآثار والشواهد التاريخية بالمنطقة.
مكي بوغابة
إرث نوميديا
و تتوفر مدينة ميلة القديمة على الكثير من الشواهد التاريخية و الحضارية التي تعود للعهد النوميدي، ولم يتم الكشف بعد عن كل خباياها على غرار العين الرومانية «عين البلد» بالإضافة إلى تمثال «ملو» أقدم أثريات المدينة، و الموجود حاليا داخل محيط المتحف أو كما يحلو لسكان المنطقة تسميته «الثكنة القديمة».
أكتشف تمثال «ملو»، خلال الفترة الاستعمارية من طرف ضابط الحالة المدنية ببلدية ميلة آنذاك، وقد قام الطبيب «ريبو» والقائد العسكري «غوي» بين عامي 1879و 1880 ميلادي، بحفريات أسفرت عن و ضع مخطط للمعبد الموجود خلف الثكنة العسكرية و الذي وجد بداخله التمثال الرخامي الذي يزين حاليا حديقة متحف ميلة.
بعد الاستقلال تم إخراج التمثال الرخامي من المعبد من طرف الباحث رشيد دوكالي، كما أوضحه للنصر، رئيس مصلحة التراث الثقافي بمديرية الثقافة و الفنون بميلة لزغد شيابة، مشيرا إلى أنه خلال عملية جر التمثال من المعبد إلى المتحف تم كسره جزئين جزء علوي و آخر سفلي ما أدى إلى تعرضه لأضرار بليغة و المعلم مهدد اليوم أكثر بسبب وضعيته.
جنان ميلو
يزين التمثال حديقة المتحف المعروفة بـ « جنان ميلو» و يعد إضافة مهمة جدا لما تتوفر عليه المؤسسة من أثريات مختلفة، تؤرخ لأزمنة غابرة فالمكان يحتوي على عدد من القطع و المعالم التي يعود تاريخ بعضها إلى الفترات النوميدية و الرومانية و الإسلامية على غرار أول مسجد بني بالجزائر، كما يتوفر متحف ميلة كذلك، على تابوتين قديمين تزينهما منحوتات إلى جانب نافورات رومانية وفسيفساء، والعديد من الكتابات والرسومات الحجرية التي تصف و تصور بعض الطقوس القديمة، عثر على معظمها خلال حفريات قام بها المستعمرون وواصلها الباحث «رشيد دوكالي» بعد استقلال الجزائر.
و تحكي هذه المنحوتة، عن عراقة ميلة و عمق تاريخها و يعتبر العديد من المختصين والباحثين في علم الآثار بأن قيمتها تكمن في حجمها، فالتمثال عبارة عن قطعة رخامية بيضاء اللون يبلغ طول ارتفاعه 2.94 م و يناهز عرضه 1.39 م.
خلال زيارة قادتنا إلى الثكنة القديمة مؤخرا، وجدنا التمثال الذي يتوسط الساحة المقابلة لمدخل مسجد «أبو المهاجر دينار»، كان التمثال شامخا كعادته مهيبا يزيده الظل غموضا خاصة وأن معالمه غير معروفة و لا يمكن لمتفحصه أن يعرف جنسه، تزينه التفاصيل البسيطة كتلك الخطوط التي تحدث حركة في الجزء السفلي منه، فيخيل إليك وأنت تنظر إليها، بأن المنحوتة ترتدي ثوبا من المخمل وهو ما يظهر براعة الصانع في تطويع الرخام الأبيض، الذي ظل طيلة عقود يقاوم قسوة الطبيعة، مع ذلك فإن وجود التمثال في الحديقة المفتوحة على عوامل الطبيعة والمناخ، خلف رواسب و طبقات على الجزء العلوي منه.
بين ملكة كتامة و آلهة الرومان حقيقة يخفيها الظل
و رغم تنوع التحف الأثرية يبقى «ملو» القطعة الأهم بوصفه أكبر كتلة منحوتة من الرخام الأبيض في العالم، ويعرف أن هذا النوع من الرخام محلي و قد طابق باحثون سابقا، بينه وبين النوع الذي يستخرج من منجم «فلفلة» بمدينة سكيكدة.
وتختلف الآراء والروايات حول طبيعة التمثال و ما يرمز إليه، فالقصة الأولى تتحدث عن ملكة، و يقال بأن المنطقة قديما كانت ذات طابع زراعي وقد سكنتها قبيلة « كتامة» و كانت تحكمها ملكة اسمها « ملو أو ميلو»، و حاربت الرومان و منعتهم من احتلال الأرض، فاعتبرت حامة، ثم أنزلت منزلة الآلهة لاحقا، والتمثال تجسيد لها.
أما الرواية الثانية، فترتبط بالرومان أنفسهم، حيث يقول البعض بأن التمثال منعدم المعالم و المنحوت وفق تقنية الظل، يعود للإله «ساتورن»إله الزراعة.
وتجمع الفرضية الثالثة بين الروايتين، و تقول بأن الرومان عندما دخلوا ميلة بعد سقوطها، وجدوا تمثال الحامية « ملو» فوضعوه بالقرب من ساحة الفوروم و قدموه كتمثال لساتورن.
و ذكر لنا، رئيس مصلحة التراث الثقافي، أن العديد من الباحثين تعمقوا في دراسة تمثال «ميلو»، و حاولوا الوصول إلى أصل هذا المجسم وهويته و كان من بينهم الباحث «توتان» الذي يري بأن التمثال يمثل آلهة أنثوية يعتقد أنها الإلهة الأم « mater deum magn idaea» ورجح أن يكون التمثال تجسيدا، لشخصية الآلهة كايلستيس أو الآلهة سيبال.
فيما ربط الباحث «جاكو»، بين التمثال والأسطورة الشعبية التي تروي قصة «غولة جنان الملو» و التي يؤكد أنها كانت قصة متداولة حتى قبل اكتشاف التمثال، و لا تزال تروى إلى يومنا هذا للأطفال، و تحكي عن راهب يدعى «ملو»، قدم إلى مدينة ميلة مع زوجته ماريوسا، هربا من اضطهاد الإيطاليين آنذاك و استقر الزوجان بجنان الملو، أين شيدا لنفسيهما معبدا وسوقا وحددا ثلاثة أيام في سنة، لتقدم القرابين شكرا للآلهة على نجاتهما من الاضطهاد، وهي مناسبة توزع خلالها الهدايا على الشعب.
يقول محدثنا، بأن الراهب ملو مات بعد سنوات، وعاد الإيطاليون إلى ميلة، فقامت زوجته ماريوسا بتنظيم المقاومة، حيث تروي الأسطورة أنها صعدت فوق أحد الأبراج المطلة على المعبد و استطاعت أن تدحر جيوش الرومان بظل ردائها فهرب الجنود واضطر قائدهم لإمضاء معاهدة السلام معها، وتقديرا لهذه البطلة قام السكان بنحت تمثال بمدينة «بونة» و نقلوه إلى ميلة أين وضع في المعبد تخليدا لها.
أما الباحث «بارقولا» فيرجح أن التمثال يعود إلى الإله ساتورن، ويعزز نظريته بالنصب و الإهداءات التي عثر عليها بجوار التمثال وكلها مهداة للإله «ساتورن».
وحسب محدثنا، فإن الباحث «لوقلي» يؤكد هذا الطرح كذلك، وقد انتقد كل الفرضيات التي ترجح بأن يكون التمثال تجسيدا لشخصية أنثوية، ويقول أن التفاصيل الفيزيولوجية للتمثال تميل نحو الجسد الذكوري، حيث يظهر جليا الصدر العاري والذي لا يمكن أن يكون صدر امرأة و كذلك وضعية الجلوس على العرش وميلان جدع الجسد نحو الأمام و طي الرجل اليمني فوق اليسري ناهيك عن اللباس الطويل الذي يغطي كل الرأس وأسفل الجسد ويترك الصدر عاريا، و كل هذه المعطيات يقول «لوقلي» أن فناني النحت الإفريقيين جسدوها في الإله ساتورن الإفريقي بداية من القرن الثاني ميلادي.
نحو تصنيف التحفة الأثرية
وينتظر في القريب العاجل، أن تتدخل الجهات المختصة للحفاظ على هذا المعلم التاريخي الكبير من الضياع وحسب رئيس مصلحة التراث الثقافي، فإن قطاع الثقافة بالولاية قام بإعداد ملف خاص بتمثال «ملو» لتصنيفه كتراث مادي منقول و تم إيداع الملف لدى أمانة اللجنة الوطنية للممتلكات الثقافية بتاريخ 7 جوان 2022 للتكفل به وإعادة الاعتبار لهذا المعلم التاريخي و اتخاذ إجراءات عملية لحمايته، في انتظار إنجاز مشروع متحف بميلة، خاصة وأنه مطلب بات أكثر من ضروري لجمع الآثار و الحفاظ عليها و تشجيع السياحة كذلك.