هل أفسد تسجيل الأدوار متعة المسرح؟
أصبح، بعض المخرجين المسرحيين يُسجلون أدوار الممثلين قبل العرض المسرحي المباشر، وهذا لخوفهم أحيانًا من الأداء المُباشر ومن بعض الأخطاء التي يقع فيها بعض الممثلين مثل: نسيان فقرات من أدوارهم أو التلعثم أو التأخر في مواكبة الدور. وأحيانًا تكون الأصوات المُسجلة لأشخاص آخرين وليست للممثلين أنفسهم الذين يقدمون العرض على ركح الخشبة. ما يُسبب بعض التنافر وكذا عدم التناسب واللا اِنسجام بين الحركة والصوت المُسجل والأداء. فكيف ينظر أهل الاِختصاص من (نقاد وكُتّاب ومُمثلين ومخرجين مسرحيين) للظاهرة، وهل المسرح المُسجل يخدم الفن المسرحي وجمهور الخشبة أم العكس؟ أي أنّه يُفسد حقاً الإخراج المسرحي كما يقول البعض، لأنّ هذا النوع يصيبُ الممثل بنوعٍ من الكسل في إتقان الدور وببعض الاِنسلاخ عن الدور وكذا السطحية في معايشة أحداث وسياقات العرض. أيضا متى يمكن أن يتم الاِشتغال بهذه التقنية في العروض المسرحية وفق ضرورات فنية معينة ووفق شرط الفن المسرحي والعروض المسرحية من أجل بلوغ المتعة الفنية المـأمولة؟ أم أنّ المجتمع المسرحي الجزائري أمامه الكثير من الأشواط -كما يقول الأستاذ هارون الكيلاني- لبلوغ المتعة التي تمنحها هذه التقنية وتعدّد أشكال وطُرق وكيفيات اِستعمالها.
إعداد/ نـوّارة لـحـرش
* سمير رابح
المسرح المسجل.. الصوت المزيف والممثل الضعيف
يعتقد الناقد المسرحي سمير رابح، أنّ المسرح هو فن تحويل الواقع إلى تمثلات تتزاحم فيها الأصوات والأفعال على الخشبة، أي أنّ المسرح فنُ الصوت حيثُ تستطرب أُذن المُتلقي وتستقبل شتّى أنواع الأصوات (صرخات، بكاء، قهقهات، آهات، صمت..) والصوت مساعد مهم للجسد في التعبير عن حركة، عن موقف، عن قضية، أي أنّ الصوت في حقيقته هو ما يبني الفعل المسرحي وإذا سقط اِختل ركنٌ هام من الأركان التي تُؤثث المسرحية.
ويواصل في ذات السياق قائلاً: "حين نتحدث عن الكلام باِعتباره الأداء المُباشر للمُمثل فإنّنا نتحدث عن ظاهرة مقيتة في المسرح الحديث، حيثُ أصبح المخرج يخاف من الأداء المُباشر للممثلين فيقوم بتسجيل الأدوار، وفي الغالب معظم الأصوات التي يعتمدها المخرج في التسجيل بالأستوديو ليست هي أصوات المؤدين على الركح، هذه الظاهرة البائسة لا تجعل المُتلقي يُتابع بشكلٍ جيد أحداث المسرحية لأنّ المُمثل نفسه يشعر بمسافة بين أدائه والصوت الّذي يُحاول إتباعه، ولا يمكنه أن يصل إلى تمثل التجربة الشعورية للفعل المسرحي مادام هو لا يتكلم بشكل مباشر في المسرحية".
الأستاذ سمير رابح، يرى أنّ هذا التنافر بين الحركة والصوت يُؤدي إلى أمرين في غاية السوء: أوّلاً؛ أنّ المُمثل لا يشعر بدوره كاملاً لأنّ الصوت لا يخرج منه بشكلٍ مباشر. ثانيًا؛ أنّ المُتلقي لا يمكنه أن يصل إلى مرحلة الكاتارسيس مادام المُمثل غير مُقنع على الخشبة.
وبالتالي تصبح المسرحية برّمتها -حسب ذات المتحدث-: "وكأنّها رجعُ صدى لصوتٍ يأتي من بعيد دون أن ننسى المواقف الحرجة التي يمكن أن تطرأ على المسرحية كعدم التناسب بين الصوت وحركة شفاه المُمثل أو حركته فوق الخشبة، والتي تجعل الجمهور في أحيانٍ كثيرة يستهجن عدم التناسق الّذي تترتب عليه اِختلالات من بينها: -عدم التناسب بين حركة الممثل والصوت المُسجل. وعدم التناسق بين المؤثرات الصوتية واندماج الممثل في دوره (ففي الغالب ينتهي التسجيل ويبقى المُمثل يؤدي دوره على الخشبة أو العكس قد يخرج المُمثل من الخشبة والتسجيل ما يزال شغالاً".
ثم يُضيف في هذا المعطى تحديداً: "يؤدي هذا الأمر إلى إفساد المسرحية برّمتها، فهذا النوع من المسرحيات المسجلة لا تعطي اِنطباعاً حقيقياً بأنّ المخرج قد أعطى للمُمثل حقه في إتقان الدور وفي تمثل أهم القواعد التي ينبني عليها المسرح وهو التوافق بين الكلام والأداء، لأنّ نُقاد المسرح يربطون بين الكفاءة اللسانية والأداء (compétence et performance)، فتكون المسرحية في الغالب خالية من التشويق ومليئة بالتقطيع غير المبرر".
وعليه فإنّ هذا النوع من الأعمال حسب الأستاذ رابح: "يجعل الناقد في حيرة من أمره من أين ينطلق ليحكم على أداء ممثل ما؟ وذلك لاِنعدام العلاقة بين اللسان والأداء".
وفي الأخير خلص إلى القول: "المُلاحظ على المسرح المُسجل أنّه أفسد الإخراج المسرحي لأنّ هذا النوع يصيبُ الممثل بنوعٍ من الكسل في إتقان الدور، ومن جهةٍ أخرى يمكننا أن نجد له تبريراً خصوصاً في الملاحم الكبيرة التي نجد فيها عدداً كبيراً من الممثلين فيلجأ المخرج إلى التسجيل ليضبط العملية المسرحية ويسهل عليه التحكم في الممثلين، إلاّ أنّها غير محببة فشرف المسرحية وقوتها في أن يسمع المُتلقي صوت المُمثل مباشرةً على الخشبة، ومنه يمكن للمُمثل أيضاً أن يتفاعل مع صوته ليصل إلى ذروة الأداء الحقيقي للدور، فهذا النوع (المسرح المُسجل) وهمٌ أفسد مزاج المسرحي وباتت المسرحيات باهتة ومتشابهة".
* هارون الكيلاني
لستُ ضدّ توظيف هذه التقنية بشرط أن تقدم باِحترافية
أمّا الكاتب والمخرج المسرحي هارون الكيلاني، فيرى أنّه لا أحد يمكن أن ينكر ما وصلت إليه التكنولوجيا من تطوّر سريع تمكن في الكثير من الأحيان من قهر الأساليب والتقنيات التي لم تتمكن من مواكبة العصر وباتت تُسمى وسائل قديمة. وواصل في ذات النقطة: "في نفس الوقت ونحن نتحدث عن المسرح والفنون المُجاورة، أكدت أنواعٌ من المسرح على قدرتها في التفاعل وبعض الأحيان اِستطاعت أن تتمسك بتقاليد كيفيات وطرائق العرض، لتحفظ طابعها المؤسس لشكلها المعروف كمسرح النو، أو مسرح القراقوز التركي".
صاحب "بوغا أو الرمل الحار" اِستدركُ قائلاً: "إنّ ما جاءت به التكنولوجيا جاء ليضفي تنوعًا ويُساهم في كسب رهان آخر في طُرق التعبير وتبليغ الرسائل وبلوغ المُتعة، وتهافت المجتمع المسرحي من تقنيين ومهندسين ومخرجين لتوظيف هذه الوسائل، ومنها الصوت المُسجل، من محاسنه أنّه يُوصل صوت المُؤدي بشكلٍ واضح، يكون في مستوى الموسيقى المُرسلة. اِشتغل الكثير من المبدعين في الجزائر على هذه التقنية خاصةً في الاِستعراضات سواء أكانت تاريخية أو اِحتفالية أو راقصة، ولنفس الغرض ربّما ولأغراض ذكية حسب البعض في أن يتمكن من تعويض ممثل غائب".
الكيلاني أضاف مؤكداً: "أنا كمخرج لستُ ضدّ توظيف هذه التقنية بشرط أن تُقدم وتُستعمل باِحترافية تسجيلاً وأداءً وإرسالاً. فالّذي لاحظته أنّ هذه الطريقة تُكبل المُمثل المبتدئ وتحرمه الإحساس الكامل وتُقلِل ردات فِعل جسده فيتحوّل من المُمثل المكرر أوّلاً إلى دمية متحركة بمشاعر باردة".
وفي ذات المعطى أضاف موضحاً: "ما لم يكن المُمثل متمكنًا من أدوات أدائه ويعي جيداً التنوع الحاصل في الساحة المسرحية تقنيًا وفنيًا فإنّه يسقط في فخ الأداء النمطي الّذي كثيراً ما شاهدته في هذه الاِستعراضات المسرحية، فكلّ الحركات تتشابه إلى حدٍ كبير، كأن يفرد المُمثل يديه كالجناحين ويتحوّل إلى دمية مسرحية لا تملك إلاّ رجلين مستيقظتين تحملان جثة لا منفذ لها في أن يفهمها النّاس إلاّ من خلال ما يحيطُ بها من عناصر السينوغرافيا".
الكيلاني خَلُصَ في الأخير إلى أنّ هذه التقنية في الجزائر تحتاج إلى تمرسٍ كبير على صعيد المخرج الّذي لابدّ أن يُعيدَ النظر في التوقيت المُناسب لتسجيل أصوات الممثلين وإسقاطها على الأداء النهائي المُتفق عليه أو على صعيد الممثلين الذين لابدّ أن تُفتح أمامهم ورشات التدريب على الصوت المُسجل وتنويع الأحاسيس وتوضيح أدوات الأداء. ومع هذا يبقى أمام المجتمع المسرحي الجزائري الكثير من الأشواط لبلوغ المتعة التي تمنحها هذه التقنية وتعدّد أشكال وطُرق وكيفيات اِستعمالها.
* محمّد الأمين بن ربيع
إذا شاعت التقنية أفسدت متعة ولذة المسرح
من جانبه الروائي والكاتب المسرحي محمّد الأمين بن ربيع، يقول: "المسرح فنُ المُتعة والتثقيف، فهو ليس مجرّد ترف فكري غايته الإضحاك والتسلية، بل حَمَلَ على عاتقه مهامًا كثيرة غايتها الاِرتقاء بالذوق العام للمُتفرج، من خلال دفعه نحو التفكير والتحليل، ولذا نجد أنّه اِرتبط بالصرامة في التحضير من خلال اِنتقاء النص المسرحي الجيد، وكذا الجدة في التعامل ما بين المُمثل والمخرج الموجه للممثل والمرتقي بدوره والقادر على إخراج أقوى ما فيه لتجسيد الدور، وما بين العامل البشري والعامل الفني الإبداعي من صوت وديكور وإضاءة".
صاحب "نوبة الغريبة"، استدرك موضحاً في هذا السياق: "لكن كثيراً ما يجد المخرج نفسه أمام بعض المشاكل التي قد تحول ما بين العمل ونجاحه، خاصةً ما تعلق بأداء المُمثلين والتناسق ما بين الحركة والموسيقى والحوار، لذا نجد أنّ بعضهم يلجأ إلى تفادي تلك المشاكل من خلال تسجيل الحوار كما تُسجل الموسيقى المُرافقة للعمل المسرحي، ولعلّ أبرز النماذج التي يمكن الوقوف عندها الأوبيريت أين يكثر الممثلون وتتداخل الأصوات وتلتبس الأدوار، مِمّا قد يُوقع الممثلين في الخطأ أو النسيان، فيلجأ المخرج إلى تسجيل أصوات الممثلين وحواراتهم وبثها تزامنًا مع أداء الممثلين لأدوارهم". بن ربيع، يرى من جهةٍ أخرى، أنّ الأمر لم يقف عند الأوبيريت بل وصل إلى الأعمال المسرحية الدرامية، فقد يعجز الممثل -حسب رأيه- "عن حفظ الحوار وتلك مشكلة لا ينبغي أن يقع فيها الممثل، حيث يفترض في الممثل أن يكون ذا قدرة على الحفظ تُؤهله ليؤدي دوره دون الحاجة إلى المراجعة، ولعلّ التحضير المكثف قد يُسهل ذلك، لكن إذا حدث وعجز المُمثل عن الحفظ فالمخرج مطالب بتسجيل حواره ومُزامنته مع أدائه أثناء عرض المسرحية".بن ربيع أعطى في هذا السياق مثالاً عن عرض مسرحي مُسجل شاهده منذ فترة: "قد سبقَ لي وأن حضرت عرضًا مسرحيًا موجهاً للفتيان كان حواره مُسجلاً بأكمله، وقد أخبرني مخرجه أنّ ممثلي العمل وأغلبهم من الصبيان الذين تتراوح أعمارهم ما بين العشر إلى الخمس عشرة سنة، وغالبًا ما كانوا يعجزون عن حفظ أدوارهم مِمَّا يُؤدي إلى تداخل جُملهم الحوارية أثناء التدريب فاضطر المخرج إلى تسجيل الحوار تجنبًا لتلك المشكلة، خاصةً وأنّ الأمر لم يتعلق بممثل واحد بل بِجُل الممثلين الذين كان يتجاوز عددهم على الركح عشرة ممثلين في بعض المشاهد، لكن المُشِاهد غالبًا لا يجد متعة في مثل هذه العروض إذ يبدو واضحًا اِنفصال الصوت عن الحركة وعدم تزامنهما في أحيان كثيرة. لكن قد يجد لها مبرراً كما في المثال الّذي طرحته". وفي الأخير اِستدرك قائلاً: "لكن لا يمكن أن يكون الأمر شائعًا وإلاّ فقد المسرح متعته ولذته القائمة على الجرأة في مواجهة الجمهور والاِرتجال إذا تطلب الموقف، وذلك لا يتأتى إلاّ إذا كان المُمثل قادراً على الأداء مُتمكنًا من دوره".
* جميلة مصطفى الزقاي
لا حرج في التسجيل إذا دخل في إدارة الممثل
الكاتبة والناقدة المسرحية الدكتورة جميلة مصطفى الزقاي، تقول في هذا الشأن: "قلما يلجأ بعض المخرجين الجزائريين في المسرح الجزائري إلى تسجيل أدوار المُمثلين قبل العرض المسرحي المُباشر. ولا يحدث ذلك إلاّ لِمامَا لأنّه حتّى المُمثل لا يقبل بذلك -أو بعضهم- لأنّه يلفي في ذلك مسّاً بقدراته وإمكاناته الأدائية. وقد لا يستسيغ ذلك إلاّ في الملاحم الغنائية التي تنشد الغنائية والمرافقة الفعلية للموسيقى بمقطوعاتها ونوطاتها وأنغامها وإيقاعاتها التي تتطلب التسجيل في الأستوديو ضماناً لجودة الصوت والأداء. ونظراً لآنية العروض المسرحية، كما أكّد على ذلك آرتو فيما معناه (عرض الهنا والآن) فإنّ المخرج لا يتعذر عليه تغيير ممثل أو تعويضه، وكثيراً ما يحدث ذلك بصفة غير متوقعة ولا مقصودة".
وهنا تضيف الزقاي: "وحتّى نُراعي مبدأ الموضوعية، فإنّ بعض المخرجين –وهم قلة– يتعمدون تسجيل أدوار الفنانين في مثل هذه العروض من ملحمة وأوبيرات حتّى إن وُزِعت مثل هذه الأعمال المسرحية في ولايات أو دول أخرى، واقتصاداً في ميزانية الجولات يستغنون عن بعض الممثلين الذين تمّ تسجيلهم مسبقًا، وعوض أن يرتحل العرض بفريقه كاملاً، فإنّه يُختزل في ثلاثة أو أربعة ممثلين يؤدون أكثر من دور مكتفين بتغيير الملابس وبعض الروتوشات في الأداء حركةً ورقصاً وغيرها".
وفي ذات السياق تواصل قولها "لئن كان ذلك التصرف من مايسترو العرض المسرحي اِقتصاداً في الجانب المادي وترشيداً للنفقات، فإنّ ذلك يُؤثر سلبًا على نفسية المُمثل الّذي يعتبر الحجرة الأساس في كلّ العروض؛ إذ قد يغيب الكاتب ويعوض بالاِرتجال أو بالبانتومايم، وقد لا يكون هناك مخرج ويعوض بالسينوغراف أو الكوريغراف، لكن المُمثل لا سبيل للاِستغناء عنه، فكيف يهضم حقه معنويًا وماديًا؟ ويغيب عنوّةً بعدما اِضطلع بدوره كاملاً في العرض المسرحي، معتقداً أنّه لا يمكن أن يُستغنى عنه في الجولة الفنية إلى أن يأفل نجم هذا العرض".
وحسب رأيها دائمًا: "يبقى تسجيل المخرجين لأدوار بعض الممثلين إذا دخل في إطار إدارة المُمثل وحرصاً منهم على السير الحسن لمجريات العرض المسرحي لتحقيق النجاح المأمول مقبولاً -نسبيًا- خاصة إذا ناشد الأداء المثالي الّذي يتماهى والجو العام للعمل فضاءً وفرجة جمالية متكاملة. أمّا إذا تمّ لاِعتبارات مادية أو تيسيراً للجولة الفنية للفرقة، فإنّ ذلك ينال من شخصية المُمثل، ويسلبه حقه المشروع في مواصلة أداء الدور الّذي قبله عن قناعة ووعي، وأيًا تكن اِعتبارات اِختياره للدور يبقى من أدنى حقوقه مواصلته لأدائه إلاّ إذا كان قد أمضى عقداً بينه وبين المخرج أو تنازل عن الدور لظروف قاهرة".
وخلصت الدكتورة الزقاي إلى القول "ما يُؤسف له حقيقةً أنّ المُمثل الّذي يعتبر محور العمل المسرحي وقلبه النابض، والمتسبب الرئيس في نجاحه أحيانًا، إلاّ أنّه لا ينال حقه وحظه، ليس فقط تحت سطوة بعض المخرجين، بل أيضا غالبًا ما يقصيه النقد المسرحي في ظل اِحتفائه بالنص أو بالكتابة الثانية أو باللغات المشهدية لإمبراطورية العلامات –كما اسميها دومًا–"
* مصطفى بوري
العرض المسجل لا يمكن أن ينافس العرض الحي
أمّا الكاتب والناقد والممثل والمخرج المسرحي، مصطفى بوري، فيقول "لقد اِقتحمت التكنولوجيا كلّ العوالم الفنية بشكلٍ صار فيه الفن في كثير من الأحيان يستعيض عن نفسه بالآلة، وهذا الأمر وإن كان قد لبى بعض الحاجة ورفع من مستوى المعروض الفني بعد أن أزاح العوائق في جوانب من الإبداع، إلاّ أنّه قد أحدث نوعًا من التراجع في القيمة الفنية للأعمال المقدمة. وتعد تقنية -البلاي باك-play back أو التسجيل الصوتي للمؤدين (الممثلين أو المغنين) أهم مظاهر هذه الظاهرة".
بوري، وفي ذات الشأن أضاف "في تقديري أنّ الظاهرة في المسرح على الخصوص تأخذ عِدة أبعاد؛ أوّلاها أنّ التسجيل قد يكون بدوافع مختلفة، التسجيل من أجل تفادي فظائع الأخطاء التي يقع فيها الممثلون، التسجيل من أجل تسريع عملية الإنتاج الفني ربحًا للوقت الّذي يستهلكه حفظ الأدوار، التسجيل من أجل إعداد العمل لقاعات عرض ذات طاقة اِستيعاب كبيرة... إلى غير ذلك من الأسباب والدوافع".
صاحب "الحوش" تحدث عن هذا الأمر اِنطلاقًا من بعض تجاربه الخاصة: "في بعض تجاربي الفنية كنتُ قد اِستعملتُ هذه التقنية في بداياتي الإخراجية، فإنّني وإن كنتُ اليوم لا أحبذ ذلك، غير أنّه من المُمكن أن أستعمل تقنية البلاي باك إذا اِستلزم الأمر وتوفرت الأسباب، ونحنُ نرى اليوم كثيراً من الأعمال خاصةً الملاحم تستعين بهذه التقنية ربحًا للوقت من جهة واستعداداً لعرض العمل أمام -الماس بيبليك- mass public بحيث لا يمكن للممثل إسماع صوته لعدد هائل من المشاهدين".
أمّا البُعد الثاني -حسب الأستاذ بوري- الّذي يمكننا أن نناقش على ضوئه هذه الإشكالية فهو البُعد الجمالي، وهنا يطرح السؤال: "هل يمكن لتقنية البلاي باك أن تقدم إضافة للعمل الفني؟ الجواب بطبيعة الحال يُحيلنا إلى مدى اِنسجام التقنية مع العناصر المختلفة التي تشكل بها العرض وأعني بذلك العناصر الدرامية والجمالية للعمل المسرحي. أمّا البُعد الثالث في هذه الإشكالية فهو المُتلقي، وهو البُعد الأهم في نظرنا، فأنت الآن أمام أناس اِقتطعوا تذاكرهم أو لبوا دعوة من أجل مشاهدة عرضك المسرحي، فإلى أي مدى يُسمح لك كصاحب العرض بتسجيل مقاطع من عملك، أو تسجيله كاملاً لعرضه أمام الجمهور؟".
وبمعنى آخر -يتساءل ذات المتحدث- "هل تسجيل أصوات الممثلين في عملٍ ما يُعد إنقاصًا من قيمة الجمهور؟ طبعاً لا يمكن أن نأتي بإجابة قاطعة، ولكن لنا أن نبحث في مدى تقبل المُتلقي للتسجيلات الصوتية للممثلين في عرضٍ ما بسبب ما يمكن أن يحدث من نشاز في عملية التلقي".
وخلص الأستاذ بوري إلى القول: "ولأنّ في صوت المُمثل المنسجم مع أحاسيسه ومشاعره صدقًا أكبر من أن تنقله آلات التسجيل، فإنّه مهما كان مستوى العرض المسرحي المُسجل لا يمكن أن يُنافس العرض الحي الّذي يقدم على الخشبة صورةً وصوتًا أصيلين، كما أنّ بعض العوائق التي تطرقتُ إليها سالفًا يمكن تفاديها بِاستعمال مكبرات الصوت عندما يستلزم الأمر ذلك، وهذا لا يُعاب على العرض إذا كان له ما يُبرره، فقد اِستعمل الإغريق مثلاً قرون الحيوانات لإسماع أصوات الممثلين أمام عشرات الآلاف من الجمهور".
* عبد الناصر خلاف
لعنة «البلاي باك»
في حين تناول الكاتب والناقد المسرحي ومدير مسرح الجلفة الجهوي، عبد الناصر خلاف، الظاهرة من جوانب تقنية بحتة، قائلاً: "إنّ قدرة المُمثل تكمن في المنظومة الصوتية التي يمتلكها وهي عناصر فاعلة ومُؤثرة في العرض المسرحي، لذا دومًا فإنّ تقدير عمل المُمثل من طرف النُقاد والمختصين والممارسين تكمن في الصوت.. إنّ تقنية (بلاي باك) وُظِفت في أوربا من خلال المسارح التجارية التي كانت تُقدم سلسلة عروض مستمرة وبصفة يوميّة للجمهور مِمَّا يؤدي أحيانًا إلى تعب المُمثل وخاصةً التأثير على النطق..".خلاف أضاف مؤكداً: "في الجزائر صراحةً يعتمد المخرجون على صوت المُمثل سواء في المسرح المحترف أو مسرح الهواة وحتّى المسرح الجامعي، لكن فقط تظهر اِشارات لاِستعمال الصوت المُسجل أحيانًا في المسرح المدرسي، لغياب مختصين في الممارسة المسرحية..".ذات المُتحدث، واصل مستدركًا في هذه النقطة تحديداً: "ولكن مع ظهور بعض الأنواع الأخرى من المسرح وهي الأوبيرات أو ما يُصطلح عليها بالملاحم، تحوّل المسرح الجزائري في هذا المجال تحوّلاً كبيراً، حيثُ أثر على المُمارسة المسرحية خاصةً مسرح الطفل، حيثُ كلّ العروض الملحمية اِعتمدت على البلاي باك، هذا لأسباب عِدة، منها الكم الهائل من الممثلين وتوظيف عنصر الرقص والغناء، وسرعة إنتاج العمل.. وخاصةً أنّ هاته الأعمال تموت بعد العرض الخامس..".خلاف يرى، أنّ البلاي باك لعنة على المخرج وعلى صانع العرض المسرحي خاصةً حين يقع أي خلل تقني، فيتحوّل العرض إلى مهزلة كبيرة. لهذا يُؤكد -المتحدث- أنّ المخرج الّذي يفهم الصناعة المسرحية ويحترم نفسه، لا يقع في مثل هذه الأخطاء وهي تسجيل أصوت الممثلين، لأنّ أداء المُمثل يكون فاتراً وبارداً ولا يخلق تلك الخيمياء التي تجعل من المُمثل يتقمص الشخصية بعُمق. وخَلُص في الأخير إلى أنّه يمكن توظيف البلاي باك في العمل المسرحي لاِستدعاء شخصية أو في موقف حلم أو نوستالجيا، أمّا اِستعمال الصوت مسجلاً للعرض المسرحي فهذا ضدّ المُمارسة المسرحية.