راوية يحياوي
رسالة إلى يما (أمّي) لم يحملها ساعي البريد، في عيد ميلادها الحزين
كلّ ما تبقى مني-يما- هسيس يقظة، وبضع شتلات قرنفل بيتنا العتيق، ويد بيضاء أخرجها من جيبي الخلفي معفرة بالخدوش، ونصف قلب، وربع لسان. وعليَ أن أستعير منك كلّ اِنتباهك، حتّى أراك كما يجب، وكم أشتهي أن أُحرر اللّغة من العادة، وأكونك يما، وأنا اللاّجئة إلى حضنك المُمتد، كلّما هربت منّي الجهات.
البارحة وأنتِ تدفنين أختك الوسطى (خوخة) شلال الرّحمات لروحها، اصطفت أمامي أثلام الذّاكرة، وانتبهت إلى بداياتنا، ونحن نخرج من صلبك بصراخنا السخي وشدتني نهاياتنا، وعودتنا إلى أمّنا الأرض، بعويل ذوينا، هي دورة الاِمتلاء والاِنطفاء، ودورة الأمومة المديدة. ولم تشحي- يما- يوماً بخطواتك، وأنتِ تقطعين الطّريق إلى بيت أختك، حتّى تمنحيها بعض قطوف دفئك، وأنت الرّاسخة في العطاء، وكلّما بزغت عطاياك ينحني الكون خجلاً.
وها أنا أشتم عطرك النبوي، منذ يتمك الأوّل الذّي رواه لي أبي، وأنت ابنة شهيد، ولا أخ لك، وتخيطين للعمر قمصان الاِقتدار، وكنتِ الرّاسخة في البهاء، والنّفس الأمارة بالمحبة، والقلب الطاعن في فيوضه، والخُطى الواثقة.
عندما زوجوك، كم اِلتقيت بأبي في يتمه المديد -أيضا- وجمعكما الطّريق بحكايا مورقة، أوّلها حكاية زواجك وأنت الفتاة في ربيعها الرّابع عشر، وأشعلت قنديل الصبابة في قلب حواء، ومضيت في عطرك، بالكاد كنتِ تعرفين ما معنى مسؤولية بيت، إلاّ أنّك تحمّلت أعباءها بكلّ ما أوتيتِ من حرص، لكنك لم تكوني تعلمين أنّ الحياة ستعلّمك كلّ طقوس حزمها، مع كلّ سلالات الأولاد الذّين كنتِ ستنجبينهم الواحد تلو الآخر دون اِنقطاع، وعندما أحسبُ لكِ عدد الشهور وأنتِ حامل أندهش من قوتك مائة وثمانين شهراً، وتحملين الأولاد وهنًا على وهن، وكنت تفتلين الكسكس براحة يديك وتعجنين الخبز، وبهما قمطت جسدي وأنا طفلة الشغب. وكم آزرت أبي في فاقته، وسترتِ غبنه، وكنتِ تزرعين أثلام عمرك كداً، وتخيطين لليل ثوب عوراته كلّها في شجن متناسل، وتخرجين إلى مزرعة البيت لتغرسي خضر موائدنا، كنتِ تغرسين بصلة بصلة، ويظلّ الأمل يملأُ كأس بهجتك، كلّما صادفت النّمل الذّي يهديك حكمته، وكيف يتحوّل عبء الحياة إلى مواويل سخاء وجدّ.
عندما كنتِ تعلمينني أولى خطواتي في الحياة -أيّتها الرّاسخة في ملكوت قلوبنا- كنتُ أحفظ عطرك النبوي، وأنّ حرارة أنفاسك تسري في روحي، وأرى وجهك المنطلق في جذوة خطاي وممشاي.
كم كنتُ أفهم زفراتك الخجلى، وأنتِ تقولين: إذا مت الآن، لم ألحق حتّى قوت نهاري، لأننا كنّا نسرق اللّقمة من فمك، ونحن صغاراً ولم ندعك ترتاحين من زحام المشاغل، على رأسك الصّغيرة التّي علمتها كيف تدير الهموم الكبيرة.
هكذا أراك أمي، نصفك عطاء، والنصف الآخر دفء، قد تسقط أوراق العمر، الواحدة تلو الأخرى، وقد تنكسر حصالة السنين وتمضي، لكن فيوضات يما طاعنة في المحبة، راسخة في العطاء، وتشهد لكِ كلّ طرقات بلدتنا كم مررت إلى الهناك، وكم منحت من خير للغلابى، وأنتِ القديسة التّي ترتاد مساحة طهرها في سلامٍ عميم وأنتِ في مطلق الأنوثة، يدك هنا، ورجلك هناك، وعيناك هنالك، وكانت المشاغل متراكمة، ويما واحدة، وللأمومة عندك بابان باب السّخاء وباب الدّفء. ومراراً كنتُ أرمق روحك المعلّقة على مشجب الهزائم، لكنك تستعيدين شهية الحياة دون تقاعس، وفي كراسة العمر كنتِ تكتبين ما شئتِ من شجر البهاء، ولا أحد يتقن رتق الشروح غيرك أمي، وعندما أصرخ وأنادي على حسك، وأنا صغيرة، كان صوتي يرتد معفراً بالدفء.
ومن أوّل العمر إلى أخمص الكهولة الجمّة لم أكن موجودة في كلّ تفاصيل خيباتك يما، لكنني كنتُ أشتم قطع روحك العبقة، وهي على قيد المحبة رغم كلّ الأوجاع، التّي جعلتك أنبل النساء. وعندما أتحدث عنك يما تتعطل اللّغة، وأنا الضليعة في الكلام. وفي كلّ الوقت الضرير كنتِ فانوسا يمنحنا نور الطريق.
أمّا الآن يما وقد كبر عرش أولادك وبناتك، أصبحت أراك بقرب السّماء، منذ المحبة ومنذ العطاء ومنذ الدّفء، وكلّما اشتقت إليك دخلت غرفتي الدّاخلية، لأجد أثرك في كلّ روحي، وأنت تمدين يدك إلى وجهي، فيرتد العمر بصيرا، فهل يمكن لكلّ الخدوش التّي طالت يديك وروحك، أن تغفر لي!؟ وهل يمكن لكلّ الآهات التّي تزاحمت في صدرك، وأنت تترقبين أن أكبر، أن تغفر لي!؟
والآن وأنا أشاء أن أقرأ الحياة بعيني أمي، وتشاء هي أن أكون الحياة، كلّ عام وأنت أمي، وكلّ عام وأنت في ملكوت المحبة....