يتحدث الروائي والكاتب المسرحي محمّد الأمين بن ربيع، عن السينما الجزائرية، التي –برأيه- لم تتجاوز تيمة/موضوع الثورة، وظلت تستثمر فيها أحيانًا برؤية تاريخيّة ومرات برؤية إيديولوجية. وعن بعض الأفلام التي شكلت علامة مهمة أو فارقة في المشهد السينمائي العربي، وبفضلها صار للسينما الجزائرية بصمتها ومكانتها. صاحب "موت الذات الثالثة"، يتحدث في هذا الحوار أيضا عن اِهتمام السينما الجزائرية بمضامين واقعية، تُقارب الواقع وتتناوله وتطرقه فنيًا وسينمائيًا. وهي سينما حاملة لهواجس وتنبؤات كثيرة. موضحاً أنّه وبالإضافة إلى المضامين الواقعية لم يُهمل صُنّاع السينما المواضيع التّاريخيّة، بخاصة تلك المُتعلقة بالثورة الجزائرية أو المقاومات الشعبية. وبهذا فضّلوا التناول والطرح التاريخي أكثر.
حاورته/ نوّارة لحـرش
للتذكير، محمّد الأمين بن ربيع، روائي من مواليد 1987، له مجموعة من الأعمال المسرحية والأدبية في القصة والرواية، من بينها: "عطر الدهشة"، و"بوح الوجع"، "قدّس الله سري، "نوبة الغريبة". تحصل على عِدة جوائز وطنية، منها: جائزة "ثقافة وفنون" في القصّة القصيرة، وجائزة عبد الحميد بن هدوڤة للرواية، وجائزة عبد الحميد بن باديس، وكذلك جائزة محمّد العيد آل خليفة في القصة القصيرة، وجائزة رئيس الجمهورية "علي معاشي"، عن نصه المسرحي "موت الذات الثالثة"، فضلاً عن جائزة المهرجان الدولي للأدب وكتاب الشباب، وكذا جائزة الطاهر وطار للرواية. وجائزة الهيئة العربية للمسرح عن نصه المسرحي "كفن البروكار" 2018.
لماذا لم تتجاوز السينما الجزائرية تيمة أو موضوع الثورة، وظلت تستثمر فيها أحيانًا برؤية تاريخيّة ومرات برؤية إيديولوجية؟
محمّد الأمين بن ربيع: لم يكن من السهولة بمكان أن تتجاوز السينما الجزائرية موضوع الثورة، بكلّ ذلك الثقل التّاريخي والخسائر الكبيرة التي قدمها الجزائريون أثناءها، جرح الثورة كان لا يزال ينزف وكان لزامًا على كلّ مبدع أن يُحاول الُمساهمة في لأْم ذلك الجرح، عن طريق تصوير التضحيات الجسام التي قدّمها الجزائريون في سبيل حرّيتهم، أو إدانة الاِستعمار الفرنسي الّذي مارس وحشيته الطاغية على الجزائريين، مِمّا يعني أنّ أفلام الحرب شكّلت النواة الأولى للسينما الجزائرية واِنعكاسًا لحقائق تاريخية عرفتها البلاد، ولذا كانت الأفلام في بداياتها وثائقية كما هو الحال بالنسبة لفيلم "فجر المعذبين" لأحمد راشدي 1965، ويعد فيلم ريح الأوراس لمحمّد لخضر حمينة المُنتج سنة 1966، أوّل فيلم سينمائي روائي طويل، يقدّم صورة الجزائر إبان الثورة برؤية إخراجية فنية تخييلية، تستلهم من الواقع ولكنّها لا تنقله.
لم يكن عقد الستينيات حافلاً بالإنتاجات السينمائية، رغم وجود المؤسسات السينمائية التي تمّ إنشاؤها في الجزائر المُستقلّة، إذ تمّ "عام 1963 إنشاء الديوان الوطني للأحداث الجزائرية وإنشاء مركز التوزيع الشعبي. عام 1964، إنشاء المركز الوطني للسينما. عام 1965، إنشاء مصلحة السينما بالمحافظة السياحية للجيش الشعبي الوطني. عام 1967 تكوين الديوان الوطني للتجارة والصناعة السينمائيين. عام 1968 إنشاء مركز للتوزيع السينمائي". لكن ذلك لم يُساهم كثيراً في رفع وتيرة الإنتاج السينمائي، وظلّ الإنتاج شحيحًا، إلاّ أنّ ذلك لا يعني تدني المستوى الفني لِمَا كان يُقدّم في تلك الفترة، إذ اِختتم أحمد راشدي ذلك العقد بفيلمه "الأفيون والعصا" الصادر سنة 1969، وهو العمل الّذي اِقتبسه عن رواية بالعنوان نفسه لمولود معمري، ويبدو أنّ هذا الفيلم كان إيذانًا بوفرة إنتاجية سينمائية كبيرة سيشهدها عقد السبعينيات، إذ أُنتج ما يزيد عن الثلاثين فيلمًا ما بين روائي درامي وكوميدي وتاريخي، وبين وثائقي تناول واقع الجزائر وتاريخها، وقد قدّمت تلك الأفلام بالإضافة إلى موضوع الثورة مواضيع أخرى مستلهمة من واقع جزائر ما بعد الاِستقلال كالهجرة ووضع المرأة الجزائرية، وظروف العمّال ومستقبل الشباب، ومن ذلك ما قدّمه سيد علي مازيف في فيلمه "ليلى وأخواتها". و"تُجار الأحلام" لمحمّد إفتسان، بالإضافة إلى مواضيع أخرى تمسّ قضايا المجتمع العربي، كفيلم "العائدون" لمحمّد سليم رياض الّذي سلط من خلاله الضوء على القضية الفلسطينيّة.
هل يمكن القول أنّ هذه الأفلام شكلت علامة مُهمة أو فارقة في المشهد السينمائي العربي، وبفضلها صار للسينما الجزائرية بصمتها ومكانتها؟
محمّد الأمين بن ربيع: لقد اِحتلت السينما الجزائرية بفضل تلك الأفلام مكانةً هامّة في المشهد السينمائي العربي والعالمي، اِنطلاقًا من قوّة الإنتاجات التي شهدتها هذه السينما، ومَكْمن تلك القوّة هو قدرة ما تمّ إنتاجه من أفلام على تقديم الواقع من جهة، واحترافيّة صُنّاع السّينما على مقاربة الصورة من الواقع من جهة أخرى، وقد بلغ مجدُ السينما الجزائرية الفتيّة ذروته عندما تُوّج محمّد لخضر حمينة سنة 1975 بالسعفة الذهبية في مهرجان "كان" الدّولي عن فيلمه "وقائع سنين الجمر"، حينها اِستبشر الجميع خيراً بواقع السينما الجزائرية، وتطلّعوا إلى أن تغدو رائدة على الأقل في الوطن العربي، وتُزاحم السينما المصريّة مكانتها، إن لم يكن كمًّا فبالكيف وذاك كان مُنتهى مطمح السينمائيين الجزائريين والمهتمين بالسينما. لكنّ ذلك لم يحدث بالمنظور الّذي كان يتوقّعه الجميع، فقد شهدت السينما الجزائرية تذبذبًا في خط الإنتاج ما بين الكمّ والكيف، ولم تكن كلّ الأفلام في مستوى "وقائع سنين الجمر".
المضامين الاِجتماعية بمختلف تمظهراتها كانت مادّة غذّت السينما الجزائرية
شهدت السينما من جهةٍ أخرى بعض الاِهتمام بمضامين واقعية، أي بمقاربة الواقع وتناوله وطرقه سينمائيًا.
محمّد الأمين بن ربيع:هذا صحيح. فمع حلول سنوات الثمانينيات من القرن العشرين، خاصةً سنوات (1980/1989) كان المجتمع الجزائري قد اِستوفى ما يمكن تسميته بالمجتمع الجزائري الجديد، الّذي يحمل من سمات المجتمع العربي والمجتمع المغاربي ملامح مُتعدّدة ومُتعايشة، تنضاف إليها ملامح كانت لا تزال باقية من العهد الاِستعماري البائد، هذه التوليفة التي اِكتنزها المجتمع الجزائري لم تكن لتغيب عن عين الكاميرا، التي تستهويها مثل هذه التناقضات المُتعايشة في شبه سلامٍ ظاهر، في حين أنّها تُضمر غليانًا داخليًا يُنذر بالاِنفجار في أية لحظة.
وقد اِفتتح محمّد افتسان هذا العقد بفيلمه الدرامي "جلطي" الّذي كتب نصه عبد القادر علولة، كان جلطي اِستقراءً للواقع الجزائري الأليم، الّذي يعيش حالاً من الاِنهيار بسبب الأوضاع المادية المزرية.
كانت المضامين الاِجتماعية بمختلف تمظهراتها مادّةً غذّت السينما الجزائرية على مدار عقد من الزمان، وبادر المخرجون إلى الاِشتغال على مختلف الثيمات الاِجتماعية التي برزت إبان الثمانينيات كظواهر تستدعي المُعالجة، وذلك ما قام به مرزاق علواش من خلال فيلمه "رجل ونوافذ" 1985، وقد كان للمرأة نصيبٌ من الحضور السينمائي من خلال معالجة أهم القضايا المُرتبطة بها، كالتعليم والعمل والزواج، وكان لكلّ من علي غالم في فيلمه "امرأة لابني" 1982، ولسيد علي مازيف في فيلمه "حورية" وجهة رأي خاصة تُبْرِز مدى خوفهما على وضع المرأة الجزائرية، التي كانت وضعيتها لا زالت تُراوح مكانها رغم مرور أزيد من عشرين سنة على الاِستقلال، إذ إنّها لا تتقدّم مثلما هو الحال عند الرجل الجزائري، على الرغم من أنّها تُسهم مثلها مثل الرجل في بناء المجتمع. حيثُ أنّ توزيع الأدوار –كما يقول الدكتور أحمد حسن الخولي- "أصبحت تتّسمُ بطابع ديمقراطي حيثُ تُشارك المرأة في بعض الأدوار الأساسية من خلال اِلتحاقها بالعمل ومساهمتها في توفير بعض الاِحتياجات المادية للأسرة".
وقد تناولت السينما الجزائرية المضامين الواقعية برُؤى متنوعة ومختلفة، تراوحت ما بين الدرامي والكوميدي والكوميديا السوداء.
السينما الجزائرية تنبأت بالأزمة الجزائرية. فكانت هذه السينما حاملة لهواجس وتنبؤات كثيرة. إلى أي حد رافقت السينما أزمة أو أزمات الجزائر؟
محمّد الأمين بن ربيع: فعلاً، فلقد شكلت الأزمة الجزائرية هاجسًا سينمائيًا، فمع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن العشرين شهدت الجزائر تحوّلات كُبرى، كانت نتيجة متوقّعة للضّغط الاِجتماعي والأزمة الاِقتصادية والفشل السياسي، وكما تنبأت السينما في العقد السابق بهذا الاِنفجار، فقد رافقت الاِنفجارَ وإفرازاته على المجتمع، من خلال مجموعة من الأفلام قدم من خلالها صانعوها صورة للجزائر الدامية، على الرغم من أنّ الإنتاج السينمائي في التسعينيات كان يشهد تراجعًا كبيراً بفعل تخلي الدولة عن دعمها للإنتاج السينمائي، بالإضافة إلى حلّ العديد من المؤسسات السينمائية وكذا خوف السينمائيين من خوض غمار الإنتاج السينمائي، في ظل تهديدات القتل التي كانت تطالهم.
كان مرزاق علواش أجرأ المخرجين طرحًا حين قدّم سنة 1994 فيلمه "باب الواد سيتي"، وهو الفيلم الّذي عرض من خلاله المخرج ظاهرة نشوء الإرهاب في أوساط الشباب بفعل غياب الوعي وتفشي غسيل الأدمغة، في حين أنّ منطلقاتهم ليست إيديولوجية بقدر ما هي دوافع قائمة على نوازع داخلية. وقد كان موضوع الإرهاب "حديث الساعة وحديث القانونيين والسياسيين والإعلاميين على حدّ سواء" لذا لم تنأ السينما بنتاجاتها عن هذه الظاهرة، بل وقفت محللة ومنتقدة وفاضحة الأسباب والدوافع التي جعلت هذه الظاهرة تنتشر وتتفاقم وسط المجتمع الجزائري، وهذا ما عرّض الكثير من السينمائيين إلى التهديد والتصفية أيضا.
السينما لم تتصالح مع تاريخ الظّاهرة، وظلّت تُدينها وتُدين كلّ تمظهراتها، لأنّ تداعيات الإرهاب ونتائجه لا زالت ماثلة للجميع، ويكفي الخوف الّذي صار يسكن الفرد الجزائري، لاِتخاذه دافعاً لتكون السينما مهتمة بإدانة الإرهاب، بل نجد أنّ السينما قد زاد إقبال صُنّاعها على معالجة هذه الظاهرة، إمعانًا منهم في اِستنكارها، فأخرج بلقاسم حجاج فيلم "المنارة" سنة 2004، ومحمّد شويخ "دوار النساء" في 2005، وفاطمة بلحاج "مال وطني" في 2005، وقبلهم تمكنت يمينة شويخ من رصد تبعات الإرهاب على الـمرأة الجزائرية من خلال فيلمها "رشيدة" سنة 2002، والمفارقة تتمثّل في كون جلّ الإنتاجات السينمائية التي تطرّقت إلى أزمة الإرهاب تعدّ إنتاجات مُشتركة مع مؤسسات تلفزية وسينمائية أجنبية (فرنسية أو بلجيكية...)، وما ميز أفلام هذه الشَّراكَات هو الصّدامية في الطّرح، وتقديم الصّورة على بشاعتها.
لكن ألا ترى أنّه ورغم زحمة التناول السينمائي لظاهرة الإرهاب إلاّ أنّ هناك من المخرجين من فضّل التناول والطرح التاريخي؟
محمّد الأمين بن ربيع: صحيح، فعلى الرغم من كثرة الإنتاجات التي تناولت العشرية السوداء وتبعاتها، إلاّ أنّ بعض المخرجين فضّلوا تعدّي هذا الموضوع والعودة إلى الطرح التاريخي كما فضّل بعض الُمخرجين العودة إلى الثورة الجزائريّة وتحديدا التاريخ النّضالي للشّعب الجزائري، من خلال مجموعة من الأفلام الهامّة التي قدّمت سِير بعض الشهداء. كما فعل أحمد راشدي الّذي ظلّ وفيًا للسينما التاريخية، وكان أشهر ما قدمه في فترة السنوات الأخيرة فيلم "مصطفى بن بولعيد" 2008، و"كريم بلقاسم" 2014، و"لطفي" 2015. وقد تطرّق من خلال هذه الأفلام إلى النّضال السياسي والعسكري لهؤلاء الشهداء. ويبدو أنّ النظام الجزائري له اليد الطولى في ذلك، من خلال رغبته في إعادة إحياء التاريخ النضالي لبعض الشهداء الذين قضوا إبان حرب التحرير.
لقد كانت السنوات العشر الأخيرة غنية بالإنتاجات السينمائيّة مُتعدّدة الثيمات، لعدة أسباب منها: دعم الدولة للإنتاج السينمائي. ظهور شركات خاصة مهتمة بالإنتاج السينمائي والاِستثمار فيه. التوزيع الجيد للأفلام السينمائية الجزائرية عربيًا ودوليًا. مشاركة بعض الأفلام الجزائرية في مهرجانات سينمائية دولية وعربية وتتويجها بجوائز هامة. رفع مستوى حريات التعبير مقارنةً بالفترات السابقة. لهذه الأسباب وغيرها ظهرت موجة إنتاج سينمائية هامّة في الجزائر، اِتخذت من حاضر الجزائريين وتاريخهم مادة لها، في أُطر دراميّة وأخرى كوميديّة.