الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

محمود بوزيد: شاعر مسكون بالروحانيات والتصوّف و كتاباته بيانات حياة

  

في أدغال الرؤيا ومسافات الرؤية شاعرٌ مُنفلتٌ عن الضبط، متواريًا وفي تواريه ينكتبُ بسيرته نصًا، النص يتبعثر ومضات تحتويها عبارات مختزلة ومُكثّفة، تقول ومضة الحُلم وتُؤشر لرؤية تنبثقُ من عين ثالثة، تنشدُ الحلول في بهجة عارفة. ذلك هو شِعر محمود بوزيد، الشاعر الّذي اِحتجبَ وكتبَ باِحتجابه «المانفيستو»، المانفيستو الخاص بهِ الّذي يُعلن التمرد على الخراب ويدعو للتوغل في أدغال الرؤيا لتمثل وتحديد مسافات الرؤية. وصفه مرّة مازحًا المرحوم بختي بن عودة بآخر السرياليين وقال عنه الشاعر عبد الله الهامل: «محمود بوزيد شاعرٌ بدون مناسبة، منفلتٌ عن أي تصنيف، عالمه الإبداعي لا تحده حدود، يكتبُ أشياء قليلة، لكنها عميقة جدا».
يكتبُ الإشارة باِختزال يُراوغ العبارة لكي يستوي العبور نحو «الميتا» بلغة تقول الرؤيا وتحملُ الرؤية.. فاِتساع الرؤية يجعلُ مدى العبارة ضيقًا كما عبّر النفري وفي قليله العميق كما أشار الشاعر الهامل. شاعرٌ منفلتٌ عصيٌ على الضبط والقولبة.. ممتلئٌ بالغياب وفي الغياب حضور الحضور. يكتبُ بقناعة أن الكتابة كما قال لي في حوار خاص هي: «تجربة مُضادة لكلّ ما هو واضح» وأنّها: «حالة قبل أن تكون نصًا».
يُمارس الكتابة في إطار ما يُسميه فيليب سولار بتجربة الحدود أو التخوم فالشاعر بوزيد مسكونٌ بالروحانيات والتصوّف، بالصور والطقوس الموصوفة بالغرائبي، بالسينما وبعوالم مُتعدّدة، تعدداً ينصهر في بوتقة واحدة.
ومن يعرف بوزيد سيدركُ أنّ نصه تجليًا له، تجلي لاِنفلاته ولتلبسّه بهاجس اِستحضار البهجة العارفة والحلول فيها.. وذروة اللّغة في شعريّتها وفي الشِّعري كثافة العبارة وفي الكثافة شفافية الصورة والإيقاع. بوزيد يحيا عزلته وابتعاده عن الأضواء، يحيا شعريّته كحالة أكثر من مُمارسته لها ككتابة. اِستيعاب منجزه يُحيلنا إلى شخصيته المسكونة بتفكيك شيفرات الوجود، ومُكابدة سفر ثقف «الميتا» فقراءة نصوصه تُحيل إلى ما يشتغلُ عليه باِستمرار، إلى البرابيسكولوجيا وعالم الأحلام وأسرار النفس الإنسانية واللعب وإعادة تمثل المُهمّش تاريخيًا.. نصوصه حملت هواجسه وتغذت بكلّ ما هو غرائبي وعجائبي، بكلّ ما تختزله عبارة «الميتا».
كتابة تميّزت بالكثافة والاِختزال، يكتب برقيًا، يكتب الموجة، الإشارة، يكتب مُتسللاً إلى عوالم مختلفة وفاتحًا آفاقًا مُتعدّدة، فتحًا بحوارية وتهجين لأنّ الإبداع العظيم كما قال أدونيس: «هو التهجين العظيم». عند قراءة ما كتبه بوزيد يحضرنا حديث أندري بريتون عن السريالية في علاقتها بالطبيعة، وافتراض السرياليين كما قال: «إنّ الإنسان أضاع مفاتيح كان يمتلكها فطريًا وكانت تبقيه في تواصل حميم مع الطبيعة»، ويقول: «لن تكون للمعرفة العلمية للطبيعة أية قيمة إلاّ شريطة أن يتم التماسّ مع الطبيعة بواسطة الطّرق الشِّعرية، وأجرؤ على القول الطرق الأسطورية».
تحرّر بوزيد في كتابته من تقنوية رهنت الإبداعي في بعض التجارب، كتبَ اِنزياحًا، كتابة الحالة وعبّر عن ذلك قائلاً: «أنا لا أبحث بل أجد على حد تعبير بيكاسو» وعبّر شعريًا عن ذلك بقوله: «لا تزخرف الصرخة.. حتّى لا تهرب حيوانات المخيلة».
نصوصه مسافات تتمددُ اِنزياحًا لثقف ما اِنزاح عن ضبط معياري.. تتمدد بتجريب يقتحمُ مدارات ومتاهات، يتسلل ليغوص في الهوامش وينفلت ليتجه نحو الأقاصي. يقول في نصٍ له: «أنا عين الميتا ورقصتي في حضرة الإيماءات كنتُ أشبه شيئًا ما غامضاً مثل شيء ما إذن من أنا؟».
وفي نصٍ آخر يقول: «حتّى لا أصل أمشي وأمشي. أقصى النون حجرٌ يحرسه المعنى».. الشِّعر يتجلى ليكون ذروة الإحساس والوعي فالفكر عندما يفكر بكيفية عميقة يصبح كما قال جون فيليب لاكان: «شعريًا بالضرورة».
اِنمحاء الذات هو اِنوجادها شِعريًا.. والشِّعري تأسيسٌ لِمَا يُؤرقُ ميتافيزيقيًا واَنطولوجيًا وإبستومولوجياً، تأسيسٌ بخلخلة التأسيس وتأجيجُ القلق سفراً باِستمرارية لوعة وشوق واشتعالاً لجمرة نشوة الوصال التي لا تُدْرَكُ إلاّ بحرقة الفصل، يقول بوزيد: «أنا قربك.. افقدني.. تجدني فيك».
أشعار بوزيد تتميّزُ بخصوصيّتها وبعُمقها واتساعها وانفتاحها على الجوانيات.. يكتبُ إشارات تُداهمُ وتنفلتُ عن المُتلقي لتبقيهِ في حالة اِستيقاظ مُلتبس بالحُلم، إشاراتٌ تهزُ الحواس وتُحركها وتحركُ الباطن لكي ينظر المُتلقي حتّى يجد نفسه بنفسه، نصوصٌ تتوغلُ في اللحظة فتخترق العابر والسطح، دخلها لينمحي بمحنتها وينبعثُ سفراً مُنزاحاً عن قبضتها، مُؤسسًا اِنبعاثه بِمَّا يهبُ بهاءً ينسخُ ما مسخه الهباء، نصوص تُحيلنا إلى شذرات المتصوّفة، بحمولة ثقيلة.. لكنّها كتابة لا تسعى لكي تُخاطب فهم المُتلقي وإنّما تنفثُ الرغبة، الرغبة في الحياة ببهائها وبهجتها، إنّها بيانات حياة.

نصوص


 - 1 -
وجـه يبتسم فـي الضـوء
يحاول الإمسـاك بلحظـة العبور
خارج السيـاق
لم أتمم تلوين هذا الشكل
الّذي لا يشبـه الغمـوض
أخرجنـي من التعريـف
وضجر الأسئلـة المنـذورة
لرغيـف العتمة
لا أعرف الاِتجـاه لكني أعرف
السكوت الّذي يحدق في وجوه الغرباء

 - 2 -

القبيلة تأتي من كلّ الجهات
وحده..
صهوة الوجـع
ملح الحكايـات
قُداس الخطوة الآتيـة
وحده...
حافيًا بـلا اِسم
يحرس الذاكرة
والقبيلة تأتي من كلّ الجهات

 - 3 -

سـؤالٌ أخرس، ووضوح أقلّ
لا لون، لا سقف، لا اِتجاه
لافتـةٌ، وقبعـةْ
وسيـّدٌ شـغوفٌ بالتسمياتْ
يـجـرّبُ فرضياته في المفترق

 - 4 -

لم يكن يعرف أنّ للرمل ميقات
فذهبـت خطـاه مع الرّيـح
***
لا أفتقـد الأمكنـة
لكنّي أفتقد الحنـين

 - 5 -

تـحدّق ولا تـــرى
بسمتـك ترسـمُ
تفـاصيل الرقصـة

 - 6 -

فـي لحظـة مـا
اِختارتك الصدفـة
لتكـون أنـت
أتـرك سؤالك الملـح
عـن العيش قرب التخوم
لا تشبه لتتـآلف مع اللون المشاكس
فراشـة أو تفاحـة
لا يهم أن تسمـي...
عانـقْ لتــرى

 - 7 -

الآن مستمر في الآن
لا تنتظر فالقسوة تغفو قليلاً
ارفـع،، افتـح...
شكل الصورة بنكهة التفاح
أو الأنوثة
سافر الآن
حلماً تُضيئه نجمـة موعودة
لصبيـة جنوبيـة تعشق
السفـر فـي اِتجاه الرّيـح

 - 8 -

أنـا اللحظـة التي مرّت
قبـل أن يرحل السنونـو
وبعد أن طار النورس
تدفـأت على دمعـة
مسحتْ جبيني
نسمة مـن عبـير الأرض
حينها كنت رقصة الضوء
على ضفاف الرّيـح

- 9  -

نثرت حولي السكر والضحكات
خذ مفتاحك
لتعبر من الإيـماءة لفعل
يشبهُ حالة الدخول فـي سياق
الجملة التي لا تفيـد الاِتجـاه
***
هذه المـرة تفاصيلُك
تضيفُ للكينونة
الرغبة في الإمساك برأس الخيط

 - 10 -

اِحترس من الظـل...
صمتك الجائع لا يرضى بالأحرف العجاف
عجاب الأنوثة كبدء الزمان الأوّل
حينها لا أوّل للبدء
من نهار بابـل
إلى نهار يثرب
إلى نهارٍ آخر جاء بعد التأويل
لا أرض موعودة
ريـحٌ ورايـات
وحنيـنٌ أبدي للطفولـة.

-11-

هذه قطفـة من عبقـي
ورشـفة من ألقـي
وتهليلـة من وقتــي
المعشـق بتلاويـن الفـرح
اسـأل لتجـرب متاه السـؤال
ثمّ قـف خارج المتاه
لترى وجهك العجيب كالصمت
من هنـا...
ما تبقى من شجـرة الحكمـة
وظـل رجل يُـؤرخ للقبعات
ويحلمُ باِمرأة تلبس الرّيح
وتتـطيب بالضحكـات

-12-

فتـح أيّامه للرّيـح
غـّرب صوب الحكايـة
حكاية امرأة
تحوّل كلّ ما تلمسه أو تنظر إليه
إلى طفولـة...

-13-

صلاتي صمتـي
وعتمتي قمري وشمسي
وخطوتي الحافيـة
تفتحُ في الآه سُبل الكلام
أصحو من صحوي
أحتفي في المهب بالمهـب
أزف أريج اللحظة لتسابيح المـاء

-14-

اِختصريني في وجعي
أعزفيني فـي مقام المحو
لتبصرني الخطوة
أنا عيـن الميـتا
ورقصتي في حضرة الإيماءات
جسدي خرافة لا تستجيبُ للضوء
شهقة صوب المعنى
وللمسافات هذا الحجر
***
حتّى لا يذبل الإيقاع
أشربْ نخـب المعنى
رتّلْ بهجـة الجمرات
عصفورة الوقت
ستـأذنُ لصباحات المدينة
بالرحيل إلى عطش البدايات

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com