الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

بعد 140 سنة على رحيله

الأميـــر عبـد القـــادر ما زال يلهـــــم

تمر هذا الأسبوع الذكرى 140، لوفاة الأمير عبد القادر الجزائري (6 سبتمبر 1807/ 26 ماي 1883). الذي يوصف بمؤسس الدولة الجزائرية الحديثة وأوّل قائد للمقاومة ضدّ الاِحتلال الفرنسي.
كراس الثقافة  يحاول تسليط الضوء مع مجموعة من الباحثين، على إرث الأمير البطولي النضالي والسياسي والعسكري والدبلوماسي والمعرفي والأدبي والصوفي والكوني، و سرّ استمرار هذه الشخصية في حياتنا وتاريخنا رغم تعاقب الأجيال.  فضلا عن أثره في العالم هو الذي تحمل مدينة أمريكية اسمه وتقام له التماثيل في نقاط بعيدة ويشيد بفضله الخصوم، ويعتبره باحثون الرائد الحقيقي للنهضة العربية.

إعداد: نوّارة لـحـرش

جهاد شارف باحث في الدراسات الثقافية والنقد وتحليل الخطاب- جامعة السوربون
الأمير إنسان كوني لا تحدّه الحدود ولا تستهلكه الأيديولوجيات
ما يزال الأمير عبد القادر يُحيلُ إلى فردانيّة معقّدة سكنت الذاكرة الجماعية العربية والغربية، في الصيف الماضي، خصّص له متحف الحضارات الأوروبية والمتوسّطية بمرسيليا طبعة خاصّة، أتاحت لآلاف الزائرين من مختلف الجنسيات اِكتشاف سيرته من خلال شاشة حائطية عرضت وثائقيًا يسرد المُنعطفات الكُبرى في حياة الأمير، بالإضافة إلى العديد من الوثائق والرسائل والصور والأغراض التي عَرَّفت بشخصيته.
لم يشغل مسار الأمير الباحثين في حقل التاريخ فحسب، بوصفه جدار المقاومة في بدايات الاِعتداء الاِستعماري الفرنسي على الجزائر والعزيمة على لم شمل القبائل للدفاع عن الأرض، بل اِمتد التساؤل ليطال حقل الدراسات الدينية والعرفانيّة والشِّعرية من خلال قصائده الصوفيّة ونصوصه الفكريّة مثل كتابه «المواقف الرّوحيّة في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف والإلقاءات السبوحية»، الّذي قال عنه مترجم القرآن الكريم، المستشرق جاك بيرك بأنّه قد تجاوز المراجع التي سبقته، بل يعتبر بيرك كما جاء في كتابه «المغرب من الداخل» بأنّ كتابات الأمير «تُؤسّس للنهضة العربية الحقيقية التي طالما بحثنا عنها في غير موضعها».
البُعد العرفاني للأمير أي الاِشتغال على معرفة الله من خلال أسفار النفس والكشف عن الغواية للتحلي بالحقيقة، هذا المنزع الرّوحي لم يعزل الأمير حيثما اِرتحل عن المجتمع وقضاياه، فبمجرّد أن حطّ الرحال بدمشق سنة 1855، أجبرت حينها القِوى الغربية الدولة العثمانية على منح الأقلية المسيحية بعض الاِمتيازات، مِمَّا أحدث فتنة في لبنان ودمشق بين الدروز الذين تحالفت معهم بريطانيا والمارونيين الذين ساندتهم فرنسا، في هذا السياق العصيب الّذي كاد أن يؤدي إلى اِضطهاد عشرة آلاف مسيحي، تدخّل الأمير ووضعهم تحت حمايته ليشهد له بعدها الداني والقاصي بحكمته وأُفقه الإنساني. كما يعتبر الأمير عبد القادر علامة وطنية تصدّت بكلّ شجاعة للجيش الفرنسي وعقلانية فائقة اِنتبهت إلى ضرورة توحيد الأفراد ومن ثمّة بناء الأمة الجزائريّة الحديثة مع أفول العهد العثماني بالجزائر.
تلك الرؤية المستقبلية التي تقمّصها الأمير طيلة حياته صنعت منه إنسانًا كونيًا لا تحدّه الحدود ولا تستهلكه الأيديولوجيات ولا تورّطه الهويّات في الصراعات الدونيّة، لذلك دافع بكلّ إرادته عن مشروع قناة السويس في مصر وحمى المسيحيين في دمشق...إلخ.
إنّ الأمير عبد القادر ليس خرّيج كبريات الجامعات العالميّة وإنّما تربّى وتلقّى تعليمه في زاوية والده، ذلك المكان المُشع بنور المعرفة الحقّة، المستقرّة في الضمير والمتجلّية في السلوك. أوّل من ترجم جزءاً من كِتاب المواقف إلى الفرنسية هو الفيلسوف ميشال شودكيفيتش الّذي وضع مقدّمة مستفيضة حول أهميّة كتابات الأمير، وبعد وفاة شودكيفيتش واصلت اِبنته كلود عدّاس -المتخصصة في شِعر الشيخ الأكبر محي الدين اِبن عربي- في ذات النهج الّذي كان عليه والدها.
خلّفَ الأمير عبد القادر إرثًا معرفيًا يبدو أنّنا لم نكتشفه بعد، إذ يكفي أن نقرأ نصوصه ومُراسلاته مع الملك لويس فيليب وعُلماء جامع القرويين أو الدروس التي قدّمها في دمشق حول كِتاب «الفتوحات المكيّة» لمحي الدين اِبن عربي، لنجد أنفسنا أمام صرح معرفي وثقافي وإنساني كوني.

خليل شايب أستاذ الفكر الإسلامي المعاصر- جامعة الأمير عبد القادر
بين التسامح الديني والبُعد الإنساني
الخلافة الّتي حدّد بها الله ماهيةَ الإنسانِ قبل إيجاده على هذه البسيطة ذات بُعدين حسب الأمير عبد القادر: بعد أنطولوجيٌ عموديٌ من حيث هي خلافةٌ عن الله، وكسمولوجيٌ كونيٌ من حيث هي توظيف للخلافة عن الله في الكون، فالإنسان إذاً هو علة الوجود ومقصدُ إبداعِ هذا الكون، لذلك كان أشرف المخلوقات وأسماها حتّى وإن لم يُجاوز حيوانيته إلى الكمال، وبالتالي فإنسانيته ناتجة عمّا نفخه الله فيه من فيض روحه، وبهذا جعل الأمير عبد القادر من وِحدة المصدر بابًا مُشرعًا على الأخوّة الإنسانية، وكانت وِحدة الـمقصد (الله) نافذة على التسامح الديني. ومن خلال البحث في بعض محطات حياته يمكن أن نستشفّ تطبيقات هذين المقصدين:
أوّلاً: مرحلة الجهاد المـحليّةُ: وأهم خصيصةٍ في هذه المرحلة أنّه ضمن للأسير كامل الحقوق من مأكل ومشرب وعلاج..، رغم أنّها مرحلة حربٍ ودفاعٍ عن الوطن؛ ويمكن أن نعتبر الرِّسالة الشهيرة التي بعث بها الأمير إلى الأُسقف ديـبيش سنة 1841، وإطلاق سراح الأسرى الفرنسيين عام 1842 بعد أن لم يجد ما يطعمهم، من أهم المحطات المهمة التي تؤكّد على محورية التسامح والإنسانية في فكره.
ثانيًا: مرحلة السجن والمنفى العالمية: وفيها اِحتك الأمير بالآخر الإنساني -عربيًا وإسلاميًا وغربيًا-، وهذه هي مرحلة النضج الرّوحي في تجربته الصوفيّة؛ حاول في سجنه بفرنسا أن يكون سفيراً للإسلام، مُدافعًا ومُحاوراً للآخر الديني، مُصّحِحًا ومُقوّمًا لكثير من الشُبهات المتعلقة بالإسلام، فكان كِتاب «المقراض الحاد لقطع لسان الطاعن في دين الإسلام من أهل الباطل والإلحاد» ردّا علمياً لاِفتراءات الطاعنين في الإسلام.. في منفاه في تركيا الّذي دام ثلاث سنوات ألّف كتابه «ذكرى العاقل وتنبيه الغافل»، وهو كتابٌ تُرجم إلى الفرنسية، وفيه ظهر الأمير أديبًا وشاعراً وصوفيًّا وفيلسوفًا، حاول أن يطرح ما اِستخلصه من كتابات الغزالي وابن عربي وابن سينا في قالب فلسفي يُعَرِّفُ فيه الآخر بنظرة الإسلام لكثير من المواضيع..
في سوريا، يمكن أن نعتبر تدخّله في حلحلة الأزمة التي حدثت في سنة 1860 وراح ضحيتها آلاف المسيحيين أبرز محطة، حيثُ تدخل أوّلاً لحماية القناصل الأجانب وأدخلهم إلى بيته قبل أن يتدخل بالجيش، ثمّ حماية بقية المسيحيين قائلاً: «إنّني لم أفعل إلاّ ما توجبه علي فرائض الدين ولوازم الإنسانية»، تظهر هنا إستراتيجية التعايش في الإسلام التي تنطلق من قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا)، يقول الأمير في ذلك:
فطورًا تراني مسلماً أيّ مسلمٍ/ زهو دانسوكا خاضعًا طالبًا مداً
وطورًا تراني للكنائس مُسرعًا/ وفي وسطي الزنار أحكمته شدا
أقول باِسم الاِبن والأب قبله/ وبالرّوح روح القدس قصداً لا كيدا
وطوراً بمدارس اليهود مدرسًا/ أُقرر التوراة وأبدي لهم رشدا
فما عبد العزيز غيري عابد/ولا أظهر التثليث غيري ولا أبدا
أنا عين كلّ شيء في الحس والمعنى/ ولا شئ عيني فاحذر العكس والطردا
يظهر من هذا أنّ ثقافة السلام التي تطبع الخطاب الأميري، تقوم على نبذ مظاهر العنف والتطرف، وتدعو إلى المحبّة والتعايش وقبول الآخر وفق الحد الأدنى من المشتركات، وهذا يعني أنّ التسامح عنده مبني على قبول الغير مهما كانت جنسيته أو ملته أو عقيدته أو لغته أو لونه أو فئته الاِجتماعية.. فكلّ الديانات والعبادات والطقوس الشعائرية واحدة ما دام المقصد هو عشق الذات الإلهية؛ التسامح عند الأمير إذاً تجاوُزٌ لكلّ ما هو محلي وضيق نحو ما هو كوني وإنساني وعالمي، وهذا يعني أنّه يتخطى القواعد الرسمية والشكلية وينزاح عن التقاليد والعادات والأعراف والطقوس والعقائد المُصنفة للإنسان إلى ما هو أوسع، ومن ثمّ يسع قلبه الصوفيُّ المسلمَ واليهوديّ والمسيحيّ والملحد والوثني.. مادام القلب فضاءً لحبِّ وعشقِ الذات العليّة.

محمّد بن ساعو أستاذ التاريخ -جامعة سطيف2
لا يزال إرثه مـادة مفتوحـة للبحـــث
لا يزال إرث «الأمير عبد القادر الجزائري» مادة مفتوحة للبحث في مختلف تخصصات عائلة العلوم الإنسانية والاِجتماعية، لِمَا أفرزته مواقفه التّاريخيّة والمعرفيّة والإنسانيّة من ردود فِعل قويّة تُجاهها لا تزال اِرتداداتها تُسجل بين الفينة والأخرى، لأنّ محطات حياته وخياراته المختلفة، الظرفية منها والراسخة تدفع نحو فهوم قد تبدو متناقضة في بعض الأحيان، ثمّ إنّ الوضع التّاريخي والرمزيّة التي جُعلت للأمير في سياق الدولة الوطنية قد زادت من صعوبة الاِشتغال على بعض النصوص المُنتجة حوله خاصةً تلك التي لديها اِرتباط بالوضعية الاِستعمارية وتأخذ صيغة الوثيقة بالمفهوم التاريخي والقانوني، بل إنّ النصوص الأميرية ذاتها، تُحاولُ أطرافٌ من داخل دائرته الأسرية التنصل من حقيقة نسبتها له.
كثيرةٌ هي الدراسات والأبحاث التي قُدِّمت حول الأمير عبد القادر مُقاومًا وشاعراً ومُتصوّفًا وإنسانًا، اِنطلاقًا من مصادر مُكرَّسة دوّنها مُجايلوه ومحيطه، ومن خلال نصوصه أيضاً وما كتبه عنه (الآخر)، لكن كثير منها –خاصةً تلك التي نُشِرت في الجزائر- لم تصل إلى نتائج حاسمة وجريئة في محطات مفصلية من حياة الرجل، فهل لتسييج اِسمه بلقب «مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة» اِنعكاسٌ مُباشر على آلية التعاطي معه لا كشخصية تاريخية/مفهومية بل كرمز يتغذّى على سردية التّاريخ الرسمي؟
في ظل مفارقات وتناقضات أنتجتها كتابات نضالية بالمفهوم المُمتد داخل التاريخ ووثائق غير موثوقة الصدقية، يبدو النزوع الأسلم في ظل الظروف الراهنة نحو إبراز الأمير عبد القادر الإنسان، بِمَّا هو نموذج يستحق أن يُقدّم في زمن لا يزال البعض يقتات على أسطوانة صراع الحضارات والديانات، فالأمير عبد القادر قدّم دروسًا غاية في الرقي والتعايش المبني على فتح الآفاق الرحبة لخلق مساحات العيش المُشترك الّذي لا يلغي خصوصية الإنسان بقدر ما يُكرّس ثقافة الاِنفتاح والسلام الّذي تنشده البشرية. لقد كان الأمير عبد القادر منطلقا من مرجعيته الصوفيّة في تعامله مع الآخر، لكنّه أيضاً لم يكن ليخفى عنه المُعطى السياسي وهو الرجل المقاوم الّذي حارب الاِستعمار وكرّس جزءاً من حياته الأولى منافحًا على قيم الحرية والسيادة.
في الوقت الّذي يُحاول البعض صياغة نماذج لتجاوز فكرة الصراع الديني نحو (الوحدة) يمكن أن يختصر الإرث الأميري مسافة طويلة من التخبط الّذي يعرفه مسار التجاوز، اِنطلاقًا من رؤية كونية للإنسان جسدها فكر الأمير عبد القادر نصًا وفعلاً.

يوسف روباش أستاذ التداولية وتحليل الخطاب- جامعة تيارت
رصيده كان نتاج ظروف وسياقات تاريخيّة أنتجت عبقريته
لا شك أنّ الرصيد الإنساني والنضالي والفكري للأمير عبد القادر الجزائري كان نتاج ظروف وسياقات تاريخيّة أنتجت عبقريته، التي اِنطلقت من مجابهة الاِستعمار لتنزع نحو تحوّلات عميقة في مساره الفكري، ومع ذلك فإنّ هذا المسار لا يمكن عزله أيضاً عن المحيط الصوفي الّذي نشأً عليه والمجتمع المتنوع الّذي عاش ضمنه، وهو ما جعله يتعاطى مع محيطه وفقًا لمرجعيّته ورؤيته السياسية والاِجتماعية. فكان الأمير عبد القادر الجزائري نموذجًا للمفكر الّذي دعم منجزاته الشِّعريّة والنثريّة، بعد اِستيعاب الماضي والتسلح بأشكال الاِستدلالات الفلسفية.
مِمَّا يمكن الحديث عنه ونحن نستحضر الأمير عبد القادر الجزائري في ذكرى وفاته الــ140، بروز الشِّعر الصوفي ورمزيّته الملتزمة، من خلال توظيفه للتقنيات التصويرية التخييلية، فمن تحوير نزعاته الصوفيّة، وتثوير مجال الاِنفتاح لهذه الثقافة الصوفيّة من بابها الواسع، يصدق أن نُشير إلى صناعة شخصية الأمير داخل رؤية ثقافيّة معينة، تعكسها إبداعيّته في نتاجاته الشِّعريّة التي تميزت بالفنيّة الجماليّة والخيال الخصب وبالصياغات البلاغية التي تستمد تركيباتها الشكلية من المُحاكاة والتخييل.
يبعث الأمير المُتصوّف من خلال أشعاره نوافذ خيالية يغوص بها في عوالم متنوعة ومشرقة، باحثًا عن نمطيات حديثة لتلطيف التقارب الفني الرمزي بينه وبين النفوس الرحبة، وبذلك يحيى خاصية الإدراك الذهني لاِستغلال الاِهتمامات البالغة للغايات والرغبات. وبذلك يكون الشِّعر عنده حصيلة ثرية من الإيحاءات الكلامية والصوفية، يكسر من خلالها تلك الحواجز التقليدية العقيمة، فيُحاكي ما لا يُبصره وما لا يراه، وينتج حقولاً من الاِنفعالات الروحانية.
أمّا عن مرحلته النضالية فهي صفحة من الأمجاد التّاريخيّة المحفوظة والمحفورة في السجلات الذهبيّة لتاريخ الجزائر التي دامت سبع عشرة سنة، فرغم تحضيره لأرضية صلبة للحركة الجهادية لدولته الفتية، وتدعيمها بالإيمان الشديد والنيّات الصادقة للدفاع والقتال ضدّ كلّ أدوات الاِستعمار الفرنسي، يدفع بنا إلى اِستبانة الحقيقة المُغيبة لشخصية الأمير، وهي حنكته السّياسيّة وبراعته الدبلوماسية، والترسانة الفكرية التي أشعرته بحجم المسؤولية تجاه وطنه.
إنّ التجربة النضالية للأمير عبد القادر تجربة فذّة غنية بالاِنتصارات، كسبت رهانات على مختلف الأصعدة، فقد وحّدت صفوف الجزائريين وعزّزت اِلتزامهم الديني، ونظّرت للإستراتيجية المستقبلية في التحرّر والجهاد الثابت، اِنطلاقًا من فهم طبيعة الاِختلالات والحواجز التي تهدفُ إلى التفريق والتمزيق، وهي التي كادت في بعض المحطات النضالية للأمير أن تنتكس بالحركة الجهادية.
إنّ رصيد الأمير الشاعر ثري بمواقف إنسانية خُلِدت في سجلات مشرفة، بعد معارك حوارية في الصلح والمصالحة وحل مشكلات العنف، وفي سياق تنويهي آخر ساهم في فض النزاع الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان له صوتٌ يُسمع وتُعطى له خاصية الاِستناد والاِعتماد على خصائص معطياته وقراراته التي أوقفت فتنة دمشق بين المسلمين والمسيحيين، إلاّ أنّه اِستطاع أن يُبصر المجتمع ببصائر أخلاقية وحضارية، تنبذ إراقة الدماء والعنف بكلّ أشكاله، وبذلك فقد عمّق البُعد السلمي للدين الإسلامي، وأبرز أبعاده المستقبلية للعالم، وبذلك يُجسد نزعته الإنسانية التي تدعو إلى التآخي والتآزر دون تمييز عرقي أو ديني (وحدة الأديان السماوية)، وقد ظهرت جليًا في قصائده الشِّعرية التي تهدف إلى رفع الخلاف الديني بين المسلمين والمسيحيين واليهود.
ما يُميز الأمير عبد القادر عن معاصريه من الحُكام والملوك، أنّه مناضل بالقيادة السّياسيّة الحكيمة، ومُكافح بالإيديولوجية التحرّريّة، والفكر المُتشعب والوعي الحضاري العميق، بعث الصحوة النضالية من أنقاض الماضي المُثقل بالخراب النفسي.

حيدر العايب أستاذ الفلسفة -جامعة محمّد لمين دباغين- سطيف
المدونة الأميرية تعكس التكوين الموسوعي
بدأ الأمير عبد القادر الكتابة والتأليف منذ ريعان شبابه فضلاً عن نظم الأشعار والقصائد في مواضيع شتّى منذ سن مبكرة، حتّى آخر أيّامه، فقد شرح قبل أن يستلم الإمارة حاشيته في عِلم الكلام، التي كتبها جده الّذي عاش في نهاية القرن السادس عشر «عبد القادر بن أحمد» المدعو «بن خده».
أسهم الأمير في حركة التأليف مُتعدّد التخصصات، فكانت له عِدة مؤلفات في التصوّف والشِّعر والكتابة السيرذاتية، وقد شكّل كِتاب المواقف واحدا من أهم مؤلفاته، خاصةً وأنّه في ثلاثة أجزاء (أكمله أحد أصحابه وهو الشيخ محمّد الخاني)، وهو يشمل تفسيراً لبعض آيات القرآن الكريم، وشرحٌ للأحاديث الشريفة وتوضيحٌ لِمَّا أُبهمَ من كلام أهل الله وإشارتهم، والكِتاب يختلف تمامًا عن مواقف النفري وإن كان اِسمه يتشابه مع مواقف النفري، وهو أقرب إلى كتاب الفتوحات المكية لاِبن عربي إلاّ أنّه يفتقر إلى الترتيب والتنظيم والتبويب، فالمعنى الواحد تجده في أكثر من موقف.
وفي نوع من الكتابة تجمع بين التفسير المُمزوج بالفقه والتّاريخ والتصوّف، كَتَب الأمير: «المواقف الرّوحيّة والفيوضات السبوحيّة»، الّذي يعدّ من أشهر كُتبه فسّر فيه بعض الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، علمًا أنّ الأمير كان يلقي مواقفه في مجالسه الخاصة، ثمّ اِقترح عليه الشيخ «عبد الرازق البيطار» أن يدوّن ذلك ويسجله، فكان هذا الكتاب شاملاً جاملاً لمواقفه التي كان يلقيها. غير أنّ مضامين هذا الكتاب دفعت بالبعض إلى رفض نسبته للأمير، وفي مقدمتهم حفيدته «بديعة حسين الجزائري».أمّا نتاجه الشِّعري، فيتمثل في ديوانه الّذي حمل أكثر من عنوان منها: نزهة الخاطر في تقريض الأمير عبد القادر، من جمع اِبنه الأمير محمّد صاحب (التحفة)، وديوان الأمير عبد القادر، تحقيق ممدوح حقي، ويشتمل الديوان على قصائد في الغزل والفخر والشجاعة والتصوّف ومراسلات شعرية طريفة بين الأمير وأصحابه.
عندما اُختِير الأمير عضواً مراسلاً لمجمع الخالدين في باريس، كَتَبَ «ذكرى العاقل وتنبيه الغافل» وهو عبارة عن رسالة إلى هذا المجمع العلمي الفرنسي، جاءت مرتبة على مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة. أمّا المقدمة ففي الحث على النظر وذم التقليد، وأمّا الباب الأوّل في فضل العلم والعلماء، وفيه فصلٌ في تعريف العقل الّذي به إدراك العلوم، وتكملة في القِوى الأربع التي إذا اِعتدلت في الإنسان يكون إنسانًا كاملاً، وتنبيه في فضل إدراك الحواس، وفضل مدركات العقل على مدركات الحواس، وخاتمة في اِنقسام العِلم إلى محمود ومذموم.
أمّا الباب الثاني ففي العِلم الشرعي وفيه فصل في إثبات النبوة التي هي منبع العلوم الشرعية، وفيه تنبيه في معرفة النبي وما يتعلق بالنبوة، وخاتمة في المكذبين بالأنبياء، أمّا الباب الثالث ففي فضل الكتابة، وفيه فصل في الكلام على كتابات الأُمم ومن وضعها وما ينجر إلى ذلك، وتنبيه في بيان حروف الكتابة العربية، وخاتمة في اِحتياج النّاس إلى التصنيف وما يتعلق به، قال الأمير في طالع مقدمته من هذا الكِتاب: «اعلموا أنّه يلزم العاقل أن ينظر في القول ولا ينظر إلى قائله، فإن كان القول حقًا قبله سواء كان قائله معروفًا بالحق أو الباطل».
وفي بيان النهج المحمدي، فإنّ أهم ما خلّفه الأمير عبد القادر الجزائري، كِتاب: «المقراض الحاد لقطع لسان أهل الباطل والإلحاد» والّذي دوّنه الأمير عبد القادر في أمبواز بفرنسا، بَيَّنَ فيه شريعة الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم، وما بها من مكارم الأخلاق ومناهج الشرع لإصلاح أمور الدنيا والآخرة للمسلمين وغير المسلمين، وأوضح أنّ الإسلام جامعٌ لكلّ ما تفرق في الشرائع الإلهية السابقة.
وفي الكتابة السيرذاتية خلّف الأمير «مذكرات الأمير عبد القادر»، وهي عملٌ يلتقي فيه التحرير والإملاء الشخصي للأمير مع الإنشاء الجماعي الّذي تمّ إنجازه تحت إشراف الفقيه السيد مصطفى بن التهامي صهره وخليفته وصديقه المقرب والمُحبب إليه، ولذلك فهو شهادة صادقة لها قيمتها التّاريخيّة، لأنّها مكتوبة بأيدي شهود عيان، عاشوا الأحداث وأعطوها تفسيرها من داخل الواقع الّذي اِلتحم بأنفسهم أيّما اِلتحام، ولقد كَتَبَتَ هذه المذكرات بموافقة الأمير وتحت نظره.هذا بالإضافة إلى أعمال أخرى متفرقة، منها: الصافنات الجياد؛ وفيه بَيَّنَ محاسن الخيل وصفاتها، وكذلك «إجابات الأمير عبد القادر» وهي أسئلة من بعض عُلماء عصره عن إشكالات بعض عبارات الصوفيّة كقول الغزالي مثلاً: «ليس في الإمكان أبدع مِمَّا كان»، و«رسالة في الحقائق الغيبية»، وهي شرح البيتين المشهورين التاليين على المشرب الصوفي: «رأيتُ قمر السّماء فأذكرتني... ليالي وصلها بالرقمتين/ كلانا ناظر قمرا ولكن... رأيتُ بعينها ورأت بعيني».
تعكس المدونة الأميرية التكوين الموسوعي للأمير، وتنوع اِهتماماته العلمية والعملية، وأيضًا اِنفتاحه على المختلف واهتمامه بقضايا عصره وانخراطه في النقاشات التي أفرزها الواقع آنذاك، وبالتالي فهي مدونة جديرة باِستئناف الأسئلة والمناقشة والإسقاط في حدود مُمكناتها أيضاً.

 

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com