من شأن كل ثقافةٍ أن تميل إلى التمركز حول الذات وأن تعتبرَ قيمَها ومنظومة تصوراتها مرجعيَّة في النظر إلى الذات وإلى الآخر معا. هذا الأمرُ أصبح معروفا، وقد كشفت عنه الدِّراساتُ النقدية في حقول الإنسانيات منذ عشريات خلت. ونستطيعُ أن نكشفَ عن أساس التمركز في أشكاله العديدة – العرقية منها والثقافية واللسانية – عبر حقب التاريخ المُختلفة ونحن نرى ذلك الصِّدامَ المُعلن والخفي بين الحضارات الكبرى وهي تنظرُ إلى الآخر من زاويةٍ يُعبِّرُ عنها، جيِّدًا، مفهومُ «التحيّز» الذي لا تخلو ثقافة من تأثيراته بصورةٍ سافرة أو مُضمرة. ذلك التحيز الذي يمنحُ الذات الجماعية مرايا تعكسُ صورتها وشبكة علاقاتها الرمزية مع العالم والوجود في صورة نرجس المأخوذ بجماله المُتفرِّد والاستثنائي.
أوروبا التي كانت تصدر القيم الكونية أصبحت تنكفئ على نفسها
هذا هو جذرُ المركزية باختصار. من هنا اعتقادنا أنَّ العلاقة بين الذات والآخر تشهدُ دوما ذلك التوتر والتشنج وبخاصة في عهود اللقاءات غير السَّعيدة كالفتوح والحروب وأزمنة الهيمنة بمفهومها الأمبريالي الواسع؛ إذ تنشط الهويات وتصبحُ حصونا تتمترسُ خلفها الهوية الجماعية المُهدَّدة؛ ويصبحُ الالتفافُ حول الطوطم الثقافي إكسيرًا يُشفي الذات الجريحة من الضياع في عالم فقدت فيه زمامَ المُبادرة التاريخية والاعتداد بالذات. وهل يختلفُ وضعُ المسلمين في العالم عن هذه الحال اليوم؟ ألسنا في وضع الدِّفاع عن صورتنا التي اهتزت بشكل كبير مع انتشار الإرهاب الذي يلبسُ لبوسا دينيا إسلاميا للتعبير عن أزمةٍ بنيويةٍ عميقة مع العصر ومع الآخر المُهيمن معا؟ ألا نرى في حضور التطرف الدينيِّ رغبة جارفة في التطهر من التاريخ وقد أصبح منفى للروح الخائبة؟
لا يُمكنُ أبدًا أن تكونَ الصورة التي يُكوِّنها العالمُ الغربي - الأوروبي عن الإنسان العربي – المُسلم إلا نتاجا لمخيال جبَّار ينهل من ذاكرة الصِّراع الماضي على احتكار رأس المال الرمزي للخلاص في حوض البحر المُتوسِّط من جهةٍ أولى، واحتكار مفهوم التاريخ – من جهةٍ ثانية - باعتباره مسيرة ظافرة نحو التقدم وتحرر العقل وانعتاق الإنسان تقودها أوروبا منذ «عصر الأنوار». وهنا تقفز إلى الذهن بسرعةٍ ذكرى الحروب الصَّليبية والاستعمار الحديث وصولا إلى أشكال الهيمنة الرَّاهنة على العالم العربي – الإسلامي. إنَّ العربيَّ - المُسلم ظل يمثل دائما ذلك «الآخر» الذي يحمل إرث المجابهة التنافسيَّة مع الغرب. ولكنَّ هذا، طبعا، لا يكفي لتفسير الصورة المُصدَّرة اليوم عن الإنسان المُسلم في الإعلام الغربيِّ والتي هي في أساس «إسلاموفوبيا» مُتفاقمة حتى بين المُثقفين والنخب السياسية. إذ ربما لم يكن استحضارُ التاريخ إلا ذريعة للاستثمار في الخوف من أجل أهدافٍ سياسية تخدم اليمين المُتطرِّفَ المُنتعش بصورة لافتة والذي يعرفُ ربيعه الانتخابي عبر أرجاء أوروبا المُنهكة بمشاكلها وأزماتها. إنَّ ما يجبُ التركيز عليه أكثر، برأينا، هو مُشكلة أوروبا مع هويتها الثقافية وحُدودها أولا؛ ومُشكلة المُسلمين مع العالم ومع ثقافتهم التي لم تشهد، بعدُ، مُصالحة جادة مع الحداثة من جهةٍ ثانية.
لا نستطيعُ أن نبرِّئَ المُسلمين بصورة تامة من الصورة التي يتمُ إنتاجها عنهم في الغرب
وعلى هذا نرى أنَّ صُنعَ صورةٍ نمطية استهلاكية عن الآخر تجعله فزاعة في الفضاء العام لا يستندُ إلى الذاكرة التاريخيَّة العالمة فحسب، وإنما – تحديدًا – إلى الأوضاع المُعقدة التي تعيشها البلدانُ الحاضنة لتدفق المُهاجرين وعدم قدرتها – في ظل الأزمة الاقتصاديَّة الحالية – على تجديد خطاب الاندماج الإيجابي لأبناء الهجرة في ظل سيادة فلسفةٍ ليبرالية ظلت تفتقرُ إلى إمكانية إدارة الشأن العام بالانفتاح على الأبعاد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنة، بعيدًا عن الشكلانية الحقوقية الموروثة عن تنوير علا وجهَهُ الشحوب. وربما يطرحُ هذا الأمرُ مُشكلة على أوروبا التي فقدت أبهة المركزية التي بوَّأتها مكانا عليا في نظام الحضارة لقرون طويلة خلت. إنَّ العالمَ الغربيَّ وريث «الأنوار» الكونية أصبح يجنحُ، شيئا فشيئا، إلى الانكماش وإلى التأكيد على خصوصيته وعلى «هوية شقية» يراها مُهدَّدة كما يُشيرُ إلى ذلك عنوان كتاب للفيلسوف الفرنسي اليميني آلان فينكلكروت. وأصبح، أيضا، مفتونا بـ «مديح الحدود» كما يُشيرُ عنوانُ كتابٍ آخر للكاتب الفرنسي رجيس دوبري. فماذا يعني ذلك؟ إنَّ أوروبا التي كانت في أساس تصدير قيم الكونية عبر الاستعمار التقليدي والهيمنة المُباشرة أصبحت تنكفئ على نفسها، أكثر فأكثر، وتدرك نسبية نموذجها الحضاريِّ بنوع من اليأس القاتل الذي ربما تمَّ معه، أيضا، استحضارُ نبوءة شبنغلر عن «تدهور الغرب» أو نهايته في حلة جديدة كما نلاحظ مع الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري في آخر تصريحاته. ونعتقدُ أن أوضاعا مماثلة ليس بإمكانها أن تُنتجَ صورة إيجابية عن الآخر ما دامت الذات الأوروبية ترى نفسها مُهددة ولم تستطع أن تحتضنَ لحظة العولمة الإشكالية في عالم شهدَ ظهورَ أقطاب أخرى تنازع القارة العجوز أحقيتها في قيادة العالم والهيمنة عليه.
لم يكن بمقدورنا أن نتجاوز تلك الثنائيات التي مزقت وعينا
و أبقتنا أسرى للتعاطي الزائف مع الهوية كما تم إنتاجها باعتبارها «أصالة» مُتخيَّلة في مقابل «مُعاصرة» مُفرغة من مضمونها الحضاري
هذا من جهةٍ أولى. ومن جهةٍ أخرى لا نستطيعُ أن نبرِّئَ المُسلمين بصورة تامة من الصورة التي يتمُ إنتاجها عنهم في الغرب. إذ لم يفعل المسلمون الشيءَ الكثير من أجل تجديد حياتهم وفتحها على إشكاليات الحداثة بصورة نقدية وغير استهلاكية. لقد كان دخولنا العصرَ الحديث – خلافا لذلك – يُشبهُ سياحة مومياء في عالم مُستقبلي افتراضي. وربما لم نفهم من الحداثة إلا جانبها التقني التحديثي وشكلانية المؤسسات؛ ولم يكن بمقدورنا أن نتجاوز تلك الثنائيات التي مزقت وعينا وأبقتنا أسرى للتعاطي الزائف مع الهوية كما تم إنتاجها باعتبارها «أصالة» مُتخيَّلة في مقابل «مُعاصرة» مُفرغة من مضمونها الحضاري والإنسانيّ وثوراتها العديدة التي أزاحت المُقدَّس من الفضاء العام لصالح مركزية الأنتروبوس. ويقيننا في ذلك أن الكوابحَ كانت ثقافية وسوسيولوجية بالمعنى الواسع. إذ لم يتم اشتغال الذات على نفسها نقديا بشكل كافٍ، ولم نشهد التجديد الاجتماعي الذي يخلخل في العمق رواسبَ البنيات البطريركية وثقافتها القائمة على الإخضاع وهيمنة الذكورة. فكيف لنا أن نكونَ بمأمن من انفجار الأصوليات التي لا تمثل – في نهاية الأمر – إلا ردَّ فعل المجتمع التقليدي على تدهور قيمه أمام هجمة الحداثة المبتورة والشكلية والمُتعثرة؟ قد يكونُ الغربُ، فعلا، بسياساته وأشكال الهيمنة المُمارسة بصورةٍ سافرة في منطقتنا العربية - حفاظا على مصالحه وأمن الدولة العبرية – من الأسباب المُؤكدة لتفشي العنف الإرهابي وتنميط صورة العربي – المُسلم باعتباره عدوا للغرب والحضارة؛ ولكنَّ هذا لوحده لا يُفسِّرُ موجة الأصولية الدينية التي اجتاحت حياتنا باعتبارها مؤشرا على الفشل الكبير أمام التحديات المطروحة علينا منذ قرنين من الزمن ثقافيا وسياسيا وتنمويا. لقد بقي الإسلامُ المُستعاد، بذلك، أسيرَ نسخةٍ تقليدية مثلت حلما بالخلاص للملايين من المسحوقين ضحايا أنظمة الاستبداد والعسف والتبعية للغرب. ونعتقدُ أن هذه الصورة هي السائدة في الغرب عن المُسلم. إنها صورة اليأس من «عالم بدون قلب» كما كان يُعبِّرُ ماركس في كلامه عن وظيفة الدين. وإذا كان سارتر يصفُ ثقافة أوروبا الكلاسيكية قبل قرنين بأنها كانت «حضارة أناس ذكور وبيض» فبإمكاننا أن نتصور الأوروبي يصفُ ثقافتنا اليوم باعتبارها «حضارة رجال مُلتحين يقمعون المرأة». نقول هذا ونحنُ ندرك جيدا أنَّ ابن رشد والمعري والشيخ الأكبر ابن عربي – تمثيلا لا حصرًا - يُمثلون ذكرى بعيدة جدّا عن إسلام عقلاني ومُتسامح ونقدي، طوتها غياهبُ النسيان تماما أمام الغليان الإيديولوجي الذي يُميز المرحلة وعنفها باسم الإسلام.
ما أردنا أن نقول هو أن المسؤول الأول عن الصورة التي تعرضُ الذات أمام شاشة العالم الإعلامية هو الذاتُ نفسها في المقام الأول؛ لأنَّ الآخر لا يفعل سوى أن يستنفرَ الذاكرة المشحونة بالتوتر ومخيال الخوف الجاهز دوما لتبرير المواقف المُستجدة ورسم الاستراتيجيات. ونستطيعُ أن نلاحظ أنَّ الغرب، اليوم، لا يتعامل مع العالم العربيِّ – الإسلامي إلا بوصفه مصدرًا للطاقة وسوقا استهلاكية كبرى ووجهة مُرعبة تتدفقُ منها أعداد كبيرة من المهاجرين الذين لم يندمج من سبقوهم بشكل كاف في المجتمعات الغربية العلمانية، وأصبحوا يمثلون قنابل موقوتة تنذرُ بعنفٍ كامن في جذور الثقافة التي يحملونها. ومن المُسلم به أن نعتبرَ هذه النظرة قاصرة بكل تأكيد؛ وهي تكشفُ عن عقلية الهيمنة والمصلحة وعن هستيريا غير مُبرَّرة لا عن كونية قيم «الأنوار» التي كتب فيها تودوروف صفحاتٍ غنائية بشكل مُبالغ فيه قليلا. ولكننا هنا لن نذهبَ، أيضا، مذهبَ الأستاذ الجابري في تبرئة الذات العربية – الإسلامية بشكل تام من الصورة المُشكلة عنها في عالم تحكمهُ إرادة القوة. هذا أيضا وهم. إذ نلاحظ أنَّ الشلل الذي تعانيه المجتمعات العربية – الإسلامية لا يرجعُ إلى حضور الآخر فحسب، وإنما – بالأساس – إلى الزمن الثقافي والسوسيو- سياسي الراكد الذي تعيشه مُجتمعاتنا ولا يزال يتحكمُ في إعادة إنتاجها باعتبارها مُؤسسات إخضاع لا مكان فيها للحرية أو لكرامة الإنسان فردا كان أو جماعة. لم يعُد بمقدور أوضاعنا أن تُوفرَ أية مساحيق قد تخفي تجاعيد حضارة مُستنفدة لم يعُد لها حضورٌ خلاق في العالم.
المسؤول الأول عن الصورة التي تعرضُ الذات أمام شاشة العالم الإعلامية هو الذاتُ نفسها في المقام الأول
نرجس المُسلم لا يلجأ اليوم إلى مرآة الماضي إلا لكي يعيشَ العزاء في عالم يشعرُ فيه باليُتم من أبوة التاريخ. هذه هي مُشكلة الثقافة العربية – الإسلامية التي لم تتعلم، بعدُ، فن «الإقامة في العالم» كما يُعبرُ الأستاذ علي حرب. فمتى نمارسُ، بوعي نقدي، فضيلة التحديق في متاهة الحاضر بدل الحلم بفراديس تعمِّقُ غربة الوعي – أكثر فأكثر – عن العالم؟