لماذا يغيب التحليل السوسيولوجي الذي يعكس الفهم الصحيح للواقع الاِجتماعي الجزائري؟ ولماذا في الدراسات السوسيولوجية يحدث غالبًا أن يبحث الدارس والباحث، عن المُفكر الغربي ويتبنى النظرية الغربية ويُسقطها على مجتمعنا؟ فما هو مُلاحظ أنّ أغلب البحوث يكون اِنطلاقها من مرجعيات ومسلمات غربية ترتبط أساساً بتاريخ أوروبا الاِجتماعيّ والسياسيّ والدينيّ. وهي مرجعيات ومسلمات لا تُحاكي تاريخ المجتمعات الإنسانية الأخرى، بِمَا فيها المجتمع الجزائري، مِمّا يتنافى موضوعيًا والإدعاء بعالميّة التحليل السوسيولوجي، في زمن تكون فيه الساحة الجزائريّة العربيّة أحوج لبديل يتناول واقعها بكلّ خصوصياته.
أعدت الملف: نـوّارة لحـرش
والسؤال هنا، هل يعجز حقًا الباحث السوسيولوجي الجزائريّ أو العربيّ عموماً عن تبني منهج تأصيلي بسبب تأثر أهل هذا الاِختصاص بِمَا درسوه من الفكر الغربي. وكذا تحولهم إلى تقنيين لاِستطلاع آراء النّاس في معظم نشاطاتهم، بدل مهمة البحث السوسيولوجي، التي هي بالأساس النقد والمُناقشة لا الاِستطلاع؟. ومن جانب آخر، لماذا ظلت السوسيولوجيا والدراسات والأبحاث السوسيولوجيّة مثقلة بالأيديولوجيا وتياراتها وخلفياتها وأفكارها المختلفة. أيضاً إلى أي حد أثّرت التداعيات الإيديولوجية على مجريات البحث السوسيولوجي والمسيرة السوسيولوجية في الجزائر؟ حول هذا الموضوع "السوسيولوجيا والأيديولوجيا"، كان ملف "كراس الثقافة" لهذا العدد، وفيه قراءات ومقاربات متنوعة، مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين المختصين في عِلم الاِجتماع من مختلف جامعات الوطن.
* الباحث الدكتور ناجح مخلوف
السوسيولوجيا لازمة لكلّ النُظم وضرورية من أجل فهم المُجتمع وتغيراته
يعتقد الباحث الاِجتماعي والمُحَاضِر الدكتور ناجح مخلوف، أنّ واقع البحث السوسيولوجي في الجزائر لا يختلف كثيراً عن المجتمعات العربيّة، حيثُ بقيت السوسيولوجيا بعيدة عن واقع واِهتمامات المجتمع الحقيقيّة ولم يكن هناك أي تجاوب مع المشكلات التي تعيشها البلاد والتي تنعكس على التنميّة بصفة عامة من بينها مشكلات الحياة الاِجتماعية، كالجريمة، الاِنحراف، التسوّل، الفقر، الإدمان على المخدرات، التفكك الأسري، البطالة، الهجرة غير الشرعية...اِلخ، ومشكلات ترتبط بالإطار المجتمعي وتغيراته بصفة عامة كدراسة كرونولوجيا المجتمع وتغيراته، أو دراسة المقاربات التّاريخيّة للمجتمع في بدايات تشكله وصولاً للمجتمعات الحديثة، وكذلك النُظُم والتوجهات الاِقتصادية وتحليلها بمعنى المشكلات التي ترتبطُ بشكلٍ عام بالفكر الاِجتماعي قبل اِرتباطها بالفرد والحياة الاِجتماعيّة اليوميّة. وكذلك مشكلات أخرى، ترتبـطُ بالأنساق الاِجتماعيـة، كالنسق السياسيّ (الأحزاب)، والتربوي (المدرسة والجامعـة والمكتبات...)، والدينيّ والثقافيّ...اِلخ.
و-يضيف ذات المتحدث- أنّ هذا مؤشرٌ على أنّ المُمارسة السوسيولوجيّة لم تتوّفر بعد على الشروط الإبستمولوجيّة والاِجتماعيّة التي تجعلها تأخذ على عاتقها مشكلات وانشغالات وحاجات ومفرزات الواقع الاِجتماعي الّذي تتواجد فيه وتتفاعل معه وتسعى لتأويله وتفسيره وفهمه.
وهذا لا ينفي -حسب رأيه- وجود مساهمات جادة لكن أغلبها تتمثل في تراكمات نظرية لم ترقَ إلى المُواجهة الحقيقيّة بين النظريّة الاِجتماعيّة، والبحث التجريبي الّذي برز من خلاله البحث الاِجتماعي الميداني الّذي يدرس المجتمع وصفًا وتحليلاً ميدانيًا.
ثمّ يستدرك قائلاً: "وبالعودة إلى أهم المُقاربات التي تمَّ توظيفها في البحث الأكاديمي ومدى اِستقراء الواقع الاِجتماعي اليوم يمكنُ القول أنّ مردود البحث السوسيولوجيّ اِتجه إلى (كَميّ) فقط، على حساب (الكيف)، حيثُ نلمس هذا من خلال البحوث المُنجزة والمُذكرات والرسائل التي تدخل ضِمن مُتطلبات نيل درجة علميّة مُعينة بالإضافة إلى بعض الكُتُب التي تقع في فخ ما يُسميه بورديو بـــ: (حالة التوافق التام التي تؤدي إلى المُمارسة الآلية وتخنق الإنتاج العلمي الأصيل)".
مشيراً في ذات السياق، إلى أنّ اِستبعاد الدراسات الأنتربولوجية واهتمامها بالحقل الشعبي الإثني والقبلي والتمثلات الرمزيّة أدى إلى اِنحراف السوسيولوجيا أين أصبحت غير قادرة على تفسير الديناميكيات العميقة للمجتمع الجزائري.
بالإضافة إلى أنّ الدولة الجزائرية تبنت حركة تنموية في منتصف الثمانينات مُعتمدة على التصنيع وبناء تكنولوجيا من أجل إحداث وثبة اِقتصادية في البلاد، وكان كلّ الاِهتمام بالعلوم التكنولوجية والعلوم الطبيعية وبقت العلوم الاِجتماعية والإنسانية مُراقبٌ سلبيّ للاِختلالات الناتجة عن زيادة الاِهتمام بالتكنولوجيا. مِمّا أثّر سلبًا على البُنى الاِجتماعية.
ومن أجل فهم هذا المُجتمع وتغيراته واختلافات مراحله، يُؤكد -ذات المُتحدث- أنّ السوسيولوجيا على الخصوص والعلوم الإنسانية والاِجتماعية عمومًا هي لازمة لكلّ النُظم/الحقول: (السياسيّة التربويّة الدينيّة الاِقتصاديّة والثقافيّة) للنهوض بوظائفها في التكوين والتأطير رغم محدودية حضورها في خارطة التعليم العالي والبحث العلمي.
ثم أردف قائلاً: "الحقيقة التي تُـُـؤكدها مشاريع الإصلاح المُتعاقبة في كلّ النُظُم بمختلف مكوناتها تتمثلُ في أنّه لا رؤية للإصلاح بدون الخبرة التي تُـقدمها السوسيولوجيا في بناء هذه الرؤية، كما أنّ التخصص السوسيولوجي لمَا يرتبط به من تدريس وتكوين وتأطير وبحث يظل في صميم رافعات الإصلاح ومن المُهم والمفيد بأنّ الرؤية الإستراتيجية للإصلاح تُؤكد أنّ التغير المُتوخى للجامعة والمدرسة يُنتظرُ من أهدافه تمكينهما من الاِرتقاء بالمُجتمع من مُجتمعٍ مُستهلك للمعرفة إلى مجتمعٍ لنشر المعرفة وإنتاجها". وخلص إلى أنّ هذا لا يحدث إلاّ عبر تطوير البحث العلمي والتقني والاِبتكار في العلوم البحثيّة والتطبيقيّة والتكنولوجيات الحديثة وجهودٌ مُضاعفة في العمل السوسيولوجي من أجل التطوير والنهوض به. والحاجة القُصوى لأبحاثه واِنتاجاتِه لأنّه يُشكل القوة الإقتراحية من أجل فهمٍ أعمق لوقائع المُجتمع ولقضاياه المُستجدة والمُتسارعة، والتي ما فَتِئت تُسائِل نُظمنا الاِجتماعية ومنظوماتنا القيمية وعيشنا المشترك ومشروعنا الديمقراطي والتنموي.
* الدكتورة يمينة مختار
نعاني من أزمة تنظير وتبعية منهجية للغرب
في حين ترى، الدكتورة والأستاذة المُحَاضِرة بكلية العلوم الاِجتماعية/جامعة الجزائر2، أنّ عِلم الاِجتماع لدينا يُشبه كثيراً ذاك المريض الّذي طال مرضه، فلا مات وأراح القائمين على رعايته، ولا شُفيَّ فارتاح وأراح من حوله، وهذا بسبب الأزمات، والركود الفكري والعلمي، الّذي يعكس مقدار تأخر هذا العِلم لدينا، خاصة عملية التنظير، كصياغة الأطروحات، وإنتاج نظريات تخص مجتمعنا، وخصوصيته.
ومن هنا تضيف: "يجب علينا إيجاد الشفاء اللازم والمطلوب لعِلم الاِجتماع، حتّى يصبح من العلوم الفعّالة في خدمة المجتمع، وبشكلٍ خاص من خلال نظرياته وأطروحاته الجديّة، بدل المسكنات التي نحصل عليها من الغرب، والتي لا تفيدنا في شيء إلاّ في وضع مقارنات بيننا وبينهم، ومن بعدها محاولة التشبه بهم في إيجاد الحلول، على الرغم من اِختلاف طبيعة المجتمعين، مِمّا يجعلنا تابعين لهم فكريًا وعلميًا وتنظيريًا، وهذا لن يحدث إلاّ من خلال الاِعتراف بِمّا يقدمه العالم والمفكر الجزائري من أطروحات ونظريات جادة، ولهذا وجب علينا إيجاد الدواء الشافي والمُناسب الّذي ينقذُ عِلم الاِجتماع، وينهض به لخدمة مجتمعنا، باِعتباره مجتمعًا قائمًا بذاته، يختلف عن المجتمع الغربي في العديد من الجوانب، إن لم يكن في كلّ الجوانب".
ذات المتحدثة، تؤكد أنّنا نُعاني أزمة تنظير على مستوى جميع العلوم تقريبًا، حيثُ لا نسجل أي نظرية، في أي تخصص علمي مهمة ومفيدة ومُعترفٌ بها محليًا، تستخدم كنموذج يعود إليه الباحث، وربّما تعدُ العلوم الإنسانيّة والاِجتماعيّة، أكثر العلوم تضرراً في هذا الجانب، خاصةً وأنّ نتائج الأبحاث بها تعتبرُ نسبية ولا يمكن تعميمها دائمًا، مع أنّ مفكرينا نبغوا في الكثير من المجتمعات الغربية، وتمّ الاِعتراف بهم وبأعمالهم في تلك المجتمعات في حين تمّ تجاهلهم محليًا.
ولهذا -وحسبَ رأيها- "لا نجد أي نظرية نابعة من عُمق مجتمعنا، تكون مُفصلة على مقياسه، فيسهل إسقاطها عليه، ورغم المحاولات العديدة من طرف المفكرين الجزائريين من أجل تجسيد نظرية، أمثال علي الكنز، عبد الغني مغربي، مصطفى بوتفنوشنت، جيلالي اليابس...، إلاّ أنّها لم تخرج عن كونها خربشات لم تتعدَ صفحات الكُتُب، نَطَلِع عليها، لكن لا نتبناها في دراساتنا وأبحاثنا، بل فقط نقرأها من باب العِلم بها، وفي أحسن الحالات قد نُدعِم بها نظريةً أخرى غربية، إذا كانت تمشي في نفس سياق بحثنا، ففي النظرية الأساسية نبحث عن المفكر الغربي والنظرية الغربية، كي نُسقطها على مجتمعاتنا، وإن وجدنا صعوبة في هذا الإسقاط إلاّ أنّنا في الأخير نصل إلى حل لاِستخدام وتبني هذه النظرية الغربية، في حين لا نجتهد لتطوير تلك الأفكار والمحاولات التي أنتجها المفكر الجزائري وجعلها ترتقي إلى مستوى النظرية، وتتماشى مع مقومات وخصوصية المجتمع الجزائري، فنستفيد منها بالشكل الجيّد والمُناسب".
وفي المقابل تعتقد الدكتورة مختار، أنّ الحل في النهوض بعِلم الاِجتماع، لا يختلف كثيراً عمّا جاء به مالك بن نبي في كتابه "شروط النهضة"، وفي قوله "مشكلة كلّ شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبنى الحضارات أو تهدمها".
واختتم بقولها: "للنهوض بعِلم الاِجتماع وتحديد حدوده الضائعة، لا بدّ لنا من العمل وبشكلٍ جديّ على تنسيق أفكارنا بحيث تكمل كلّ فكرة الفكرة الأخرى، مع دعم وتحفيز تنظيرات العُلماء والمفكرين والباحثين الجزائريين، وتبني كلّ أفكارهم التي من المُمكن أن تعود بالنفع على مجتمعاتنا التي هي بحاجة لذلك، مع إقرار الموضوعية التي تُبعِد الاِنحياز والتعصب، والاِرتفاع بشأن العِلم وتطوره بعد فترة السبات والركود التي مر/ويمرُ بها".
* الدكتور طيب بودرهم
تداعيات إيديولوجية أثّرت على مجريات البحث السوسيولوجي
يؤكد الدكتور طيب بودرهم، أنّه من اللزوم الإقرار بأنّ العلوم والبحوث السوسيولوجية في الجزائر وعلى غرار كلّ الوطن العربي تشهد تزايداً وحضوراً ملحوظاً من الناحية الكمية بمختلف أشكالها، سواءً الحضور المؤسساتي أين تُمارس هاته البحوث كالجامعات ومراكز البحث أو من حيثُ عدد مُمارسيها والمنتسبين لها من دارسين وباحثين.
وهنا أشار إلى التقرير الأوّل للمرصد العربي للعلوم الاِجتماعية الصادر سنة 2015 عن المجلس العربي للعلوم الاِجتماعيّة وفيه نجد أنّ الجزائر تحتل الصدارة في عدد مراكز البحث في مجال هاته العلوم بـ76 مركزا، والصدارة أيضًا في عدد الدوريات العلمية بــ29 دورية، إلاّ أنّه قد رصد طاقم البحث في ذات التقرير أنّ حجم الكثافة البحثيّة يندرج ضمن الدرجة المتوسطة، مقارنةً بدول أخرى كالبحرين وفلسطين والأردن ولبنان وقطر التي يقل عدد المراكز فيها عن الجزائر.
بعدها أضاف مُستدركاً: "..أمّا في إطار الحديث عن واقع الحضور المعرفي للبحوث السوسيولوجية ومدى إسهاماتها في اِستقراء الواقع الجزائري، وتواؤم مقارباتها الأكاديمية مع طبيعة المجتمع وتغيراته فنجدها في البداية كانت اِستمرارا للتركات الثقيلة عن الحقبة الاِستعمارية، التي سارت في نفس سياقاتها وطُرقها ومناهجها مباشرة غداة الاِستقلال، إلى غاية الدخول في الإصلاح الجامعي فترة السبعينات حين أُعيدَ النظر فيها ليتم ربطها بالمشروع التنموي الّذي تبنته السلطة والقائم على فكرة الاِقتصاد الاِشتراكي، فتم الاِستعانة بهاته البحوث من خلال جعلها أحد أدوات إعادة اِسترجاع الهويّة الوطنيّة التي عمل الاِستعمار على طمسها، وبالتالي فقد كانت عبارة عن خطابات أيديولوجية لها مسؤوليّة سياسيّة نضاليّة أكثر منها علميّة تحت سيطرة السياسي".
وأردفَ قائلاً: "في فترة التسعينات وبعد الأزمة الأمنية والاِقتصادية والاِجتماعية، وما رافقتها من تداعيات جد خطيرة أثّرت على مجريات البحث السوسيولوجي والمسيرة السوسيولوجية في الجزائر، فتخلت السلطة في هاته المرحلة على هذا النوع من البحوث بعد المكانة التي مُنحت لها سابقًا كأداة ثورية نضاليّة، ليتم تأخيرها والتوجه إلى الرفع من قيمة البحوث العلمية والتقنية، باِعتبار أنّ الدراسات والبحوث السوسيولوجية نشاطات غير منتجة للثروة مقارنةً بالعلوم التقنية خاصةً في ظل المعطيات العالميّة الجديدة".
فما هو مُلاحظ -حسبَ ذات المتحدث- أنّ أغلب البحوث يكون اِنطلاقها من مرجعيات ومسلمات غربية ترتبط بتاريخ أوروبا الاِجتماعيّ والسياسيّ والدينيّ، وهو أكبر مشكل كونها نتاج وإفراز لفكر غربي وتجربة لمجتمع مُعين لا تُحاكي تاريخ المجتمعات الإنسانية الأخرى مِمّا يتنافى موضوعيًا مع إدعائه بالعالميّة، في زمن تكون فيه الساحة العربيّة أحوج لبديل يتناول واقعها بكلّ خصوصياته.
ومن جهةٍ أخرى، يُشيرُ -المتحدث-، إلى ضُعف مستوى التراكم المعرفيّ والعلميّ والتناول الرصين وضُعف مستويات التوطين لهاته البحوث. وعجز الباحثين السوسيولوجيين عن تبني منهج تأصيلي وذلك نتيجة لتأثرهم بِمَا درسوه من الفكر الغربي. وكذا تحولهم إلى تقنيين لاِستطلاع آراء النّاس في معظم نشاطاتهم، في حين أنّ مهمة البحث السوسيولوجي هي النقد والمُناقشة لا الاِستطلاع.
كما يُؤكِد في ذات المُلاحظة أيضًا، اِقتصار غايات البحوث السوسيولوجيّة على إنجاز مذكرات التخرج لنيل الدرجات العلميّة، فهي لا تتواءم وليست لها قصدية لمعالجة المشكلات والظواهر الاِجتماعيّة الحقيقيّة. وإبقاء هاته البحوث في أدراج المكتبات الجامعيّة وعدم الاِستعانة الفعليّة بها.
وخلص إلى أنّ البحوث السوسيولوجيّة لم تُعطَ لها قيمتها الحقيقيّة من قِبل الوصايات والجهات المسؤولة كنشاطات علميّة تُمَّكِن من خدمة المجتمع واِستقراء واقعه. كما نجد كثرة العقبات الإدارية والإجراءات البيروقراطيّة التي تُعطل القيام ببحوث نوعيّة ورصينة.
* الدكتورة نجاح بوالهوشات
مشاكل منهجية حالت دون الفهم الصحيح للواقع الاِجتماعي
ترى المُختصة في عِلِم الاِجتماع، الدكتورة نجاح بوالهوشات أنّ واقع السوسيولوجيا في الجزائر، لا يختلف في تفاصيله العامة عن وضعه في باقي الدول العربية، فرغم الدراسات العلمية التي أُنجزت في مجالاته المُتعدّدة، إلاّ أنّه مازال لم يصل بعد لمرحلة النُضج المطلوبة لاسيما وأنّه مازال يعتمد على دعامة الدراسات الغربية كمرجعية أولى له، والتي تعكس واقعًا اِجتماعيًا مُختلفًا عن اليوميات التي نعيشها يوميًا في المجتمع الجزائري.
وواصلت في ذات المعطى: "ربّما من بين أبرز المآخذ التي جعلت الدراسات السوسيولوجية في الجزائر غير مُتحرّرة من الناحية العلمية والمنهجية هو اِستعمالها للمناهج الكميّة وأدواتها في جمع البيانات وتحليلها، رغم القصور الّذي تتصف به هذه النوعية من المناهج في وصف الظواهر الاِجتماعيّة بالعُمق المنشود. وذلك في مُقابل الإقبال المُحتشم من طرف الطلبة والأساتذة الباحثين على المناهج الكيفية التي تُمّكن من صبر غور المتغيّرات الاِجتماعية عن قُرب وبطريقة تفاعلية تجعل أفراد المُجتمع يُقدمون مُعطياتٍ في غاية الأهمية لا تستطيع اِستمارة الاِستبيان على سبيل المثال نقلها وإيصالها".
مؤكدةً في ذات النقطة أنّ اِستسهال اِستخدام المناهج الكمية في الدراسات السوسيولوجية بالجزائر، خاصة في ظل توفر برمجيات تبويب ومعالجة البيانات الميدانية ومن ثمّ تحليلها وتفسيرها، جعل هذه الدراسات تتصف بنوع من الآلية والنمطية في بناءها المعرفي وإجراءاتها المنهجية، وغاب عنها التحليل السوسيولوجي الّذي يعكس الفهم الصحيح لِمَا يجري في الواقع الاِجتماعي الجزائري، وبالتالي أصبحت قدرتها ضعيفة في اِستقراء هذا الواقع الّذي يعرف حراكًا اِجتماعيًّا سريعًا بالنظر إلى الأحداث التي تتخلّله يوميًا.
ذات المتحدثة، تستدرك قائلة: "إنّ سيطرة الجانب الإيديولوجي على العلوم الإنسانية والاِجتماعية بشكلٍ عام وعلى الدراسات السوسيولوجية بشكلٍ خاص أوقعها في خندق التحيّز والتعصب والاِبتعاد عن الرّوح العلمية في التعامل مع الظواهر الاِجتماعية، وهو ما جعل قدرة اِستقراءها لمختلف التفاعلات الحاصلة ضعيفة وغير مُجدية في أحيان كثيرة. فعندما نتمعن في المقاربات الأكاديمية المُتبعة من طرف الطلبة والباحثين في مجال السوسيولوجيا، نجد بأنّها بحاجة للتجديد والتحيين بسبب عدم تلاؤمها مع خصوصية المجتمع الجزائري وما يجري فيه من أحداث".
فعجز هذه المُقاربات -كما تضيف- عن تحليل وتفسير الواقع الاِجتماعي كما يجب وعن التنبؤ والاِستشراف بالمستقبل، يشكلُ أكبر تحدٍ للعاملين في هذا المجال العلمي، حيثُ يجب تكثيف الجهود من أجل تأسيس نظرية اِجتماعيّة جزائريّة يستند عليها الطلبة والباحثون في تحليل وتفسير بياناتهم الميدانية، إلى جانب إعطاء مكانة لهذا التخصص في الجامعة الجزائرية ومراجعة طُرق التكوين والتعليم بِمَا ينسجم مع الواقع الاِجتماعي المحلي والوطني، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى يجب توظيف نتائج الدراسات السوسيولوجية من طرف أصحاب القرار في رسم السياسة العامة للدولة لتبيان مدى نجاعتها، وحثّ المختصين في هذا المجال العلمي على تحري معايير الجودة البحثيّة.
الدكتورة بوالهوشات، تعتقد في المقابل، أنّ المجتمع الجزائري يشهدُ حاليًا بروز مُمارسات وتصرفات مجتمعية تستحق الدراسة والفهم للحفاظ على توازن نُظمه، وعلى وجه التحديد تلك المرتبطة بالحياة اليوميّة للأفراد مثل: الإقبال على مواقع التواصل الاِجتماعي وتأثيرها على البناء الأسري، تبني الشباب لثقافات ومناسبات وافدة ومستحدثة والاِحتفال بها، اِختطاف الأطفال وقتلهم، تغيّر ثقافة الاِستهلاك لدى المواطن الجزائري، الهجرة غير الشرعية إلى الدول الغربية...اِلخ.
هذه الظواهر وغيرها -كما تضيف المتحدثة- تعد حقلاً خصبًا لإجراء دراسات سوسيولوجية مُعمقة، من شأنها المُساهمة في رسم معالم الحياة الاِجتماعية على المستويين المتوسط والبعيد بطريقة تُحافظ على أصالة الهويّة الوطنيّة، وتُسايّر التطوّرات الدوليّة الحاصلة في ظل الدعوات إلى تنشئة المواطن العالمي، الّذي يتحلى بروح المسؤولية تُجاه القضايا العالمية بنفس الطريقة التي يتعامل بها مع القضايا الوطنية. وخلصت في الأخير إلى أنّنا لن نبلغ هذا الهدف إلاّ من خلال التخلي عن القوالب الجاهزة والتقليدية في اِختيار مشكلات الدراسة وفي كيفية دراستها ميدانيًا، حيثُ أضحى مطلب التنويع في المناهج العلمية المُستخدمة وفي المقاربات الأكاديمية المُتبناة في عملتي التفسير والتحليل، وكذلك التخلي عن التعصب الإيديولوجي أكثر من ضرورة لتأسيس سوسيولوجيا جزائرية قادرة على دراسة الواقع الاِجتماعي وفهمه.
* الدكتورة مريم بن زادري
السوسيولوجية الجزائرية اِرتبطت بتيارات وخلفيات فكريّة وإيديولوجيّة
تقول الأستاذة المُحاضرة، الدكتورة مريم بن زادري: "تزامنت فترة ظهور عِلم الاِجتماع مع فترة الاِستعمار الفرنسي للجزائر مِمّا أتاح الفرصة للعديد من الباحثين السوسيولوجيين الغربيين لجلب هذا العِلم خدمةً للمصالح الاِستعمارية، وهكذا ظهرت السوسيولوجيا الكولونيالية، التي هدفت لدراسة المجتمع الجزائري وبنيته الاِجتماعيّة والثقافيّة والاِقتصاديّة من أجل التعرف على مواطن الضُعف والقوّة فيه، حتّى تسهل عملية مسح مُقوماته وهدم دعائم بنائه الاِجتماعي، ويرى الكثير من الباحثين أنّ للسوسيولوجيا الكولونيالية جانبٌ إيجابيٌّ تمثّل في عددٍ مُحتشم من البحوث والدراسات التي كانت أكاديمية بحتّة مثل تلك التي أُقيمت على النظام العشائري والقبائل والميزاب باِستخدام تقنية الملاحظة بالمشاركة، كما تـتلمذ العديد من الطلبة الجزائريين على يد هؤلاء الباحثين الكولونياليين".
في حين تمثّلت المرحلة الثانية للسوسيولوجيا في الجزائر –حسب الدكتورة زادري- في مرحلة نظام الشهادات وهي مُمتدّة من 1963 إلى1970، حيثُ تميزت بتبعية الجامعة الجزائريّة للمدرسة الفرنسيّة من خلال لغة التدريس والبرامج والمناهج المُعتمدة والتأطير الأجنبي، كما تميّزت البحوث في هذه المرحلة بالتنظير وغياب الدراسات الميدانية وتلقين الإرث الفرنكوفوني للطلبة الجزائريين، وذلك ما يبدو واضحًا في كتابات الجيل الأوّل والثاني للسوسيولوجيين الجزائريين.
أمّا المرحلة الثالثة فهي -كما تضيف ذات المتحدثة- ظهور سوسيولوجيا وطنية ناطقة باللّغة العربيّة من 1971 إلى 1984، وذلك ما أكده قرار1971 ومرسوم 25 أوت 1973، الّذي هدف لجزأرة الجامعة الجزائريّة وتغيير نظامها البيداغوجي، وتبع ذلك قانون التعريب للعلوم الاِجتماعية سنة 1980. ومن أهم ما تمخض عن هذه الفترة هو المُمارسة الكثيفة للبحوث الميدانية التي تناولت مُختلف التغيرات التي طرأت على بنية المُجتمع الجزائري آنذاك، والتي خدمت دفع عجلة النمو الاِقتصاديّ والاِجتماعيّ والثقافيّ.
كما تميزت ذات الفترة -حسب الدكتورة زادري- بالدفاع عن إيديولوجية الحزب الحاكم (الاِشتراكية) والتوجه الإسلامي، وظهر ذلك جليًّا من خلال التخصصات الأكاديمية المُسايرة للمشروع الاِشتراكي كعِلم الاِجتماع الريفي خدمةً للثورة الزراعية، وعِلم الاِجتماع الصناعي خدمةً للثورة الصناعية، ومن أهم ما توّلد عن هذه المرحلة المتميزة هو ظهور ثلاثة تيارات فكرية في الساحة السوسيولوجية الجزائرية، حيثُ ظهر عِلم الاِجتماع الثوريّ الاِشتراكي الماركسي، وعِلم الاِجتماع الرأسمالي البرجوازي، وعِلم الاِجتماع المحض المُمارس بطريقةٍ موضوعية بعيداً عن الإيديولوجيات والخلفيات الفكريّة، كما أصبحت السوسيولوجيا تُدرس كمقاييس في الكثير من التخصصات. أمّا عن آخر مرحلة لعِلم الاِجتماع الجزائريّ فتقول عنها ذات المتحدثة بنوع من الاستطراد: "فقد اِمتدت من 1984 إلى يومنا هذا، وهي المرحلة التي فقد فيها عِلم الاِجتماع كلّ ما اِكتسبه خلال المراحل السابقة، حيث هُمِشت العلوم الاِجتماعية بِمَا فيها عِلم الاِجتماع مِمَّا اِنعكس على مردودية البحوث والدراسات، رغم أنّ هذه المرحلة عرفت العديد من الأحداث والتغيرات التي تُمثل مادةً دسمة لأيّ سوسيولوجي، مثل البحث في الأسباب والاِنعكاسات الظاهرة والكامنة وراء اِنتفاضة أكتوبر 1988 الرافضة للوضع الاِجتماعي، وبعد ذلك ظهور التعدّديّة الحزبيّة من خلال التجربة الديمقراطية الجديدة وما اِنجر عنها من أحداث وتغيير على صعيد الوعي المجتمعي الّذي لم يُحرك غريزة الباحثين السوسيولوجيين في البحث والتنقيب حول مجريات ذلك التحوّل الفكريّ في المجتمع الجزائري، وعَقِب ذلك جاءت العشرية السوداء التي تزايدت فيها مُختلف أشكال العُنف والجريمة، وشَلْ العديد من القطاعات بِمَّا في ذلك قطاع التعليم العالي بسبب الإرهاب والاِنفلات الأمني، مِمَّا اِنعكس على المجتمع الجزائري، حيث بقيت الدراسات السوسيولوجية بعيدة عن دراسة الواقع المُعاش آنذاك. ثمّ تلت تلك العشرية سياسة المصالحة الوطنية التي أخذت فيها الأوضاع بالتحسن وأُنشِئَت مراكز وأقطاب جامعية، وأصبح عِلم الاِجتماع من التخصصات المطلوبة من قِبل الطلاب الجزائريين، بدليل تواجد أقسام عِلم الاِجتماع بالعديد من الجامعات في شتى ولايات الوطن، وبكثير من التخصصات. وانبثقَ عن ذلك كمٌ هائلٌ من الدراسات السوسيولوجية الميدانية والنظريّة في كلّ مجالات وتخصصات عِلم الاِجتماع".
وفي الأخير اِختتمت رأيها بـــ: "يمكن القول أنّ واقع البحوث السوسيولوجية في الجزائر يكمن في شقين: أوّلهما (كمي) وهو ما يُشير إلى التفاؤل، والثاني (كيفي) وهو الّذي يُعبر عن نوعية تلك البحوث التي لم ترقَ لتُواكب ما يحدث في المجتمع، بل بقيت البحوث حِكراً على الحقل البيداغوجي مع الاِحتفاظ بها على رفوف المكتبات، وذلك بسبب إهمال منظومة البحث العلمي المُختصة بقضايا المجتمع من جهة، وعدم اِهتمام عُلماء الاِجتماع بتطوير هذا المجال والقضاء على الفجوة القائمة بين الدراسات السوسيولوجية وفهم وتطوير الواقع الاِجتماعي الجزائري من جهة، وتركيز طلبة عِلم الاِجتماع على نيل الشهادة كهدفٍ أوّل وأخير في -كثير من الأحيان- من جهة أخرى".