كثير من النقاشات التي تُثار حول أركون تنطلق من فرضيات غير دقيقة
* تستطيع الفلسفة أن تكون أداة اِستشراف وقوّة اِقتراح أو أداة مُرافقة
يقول الباحث وأستاذ الفلسفة الدكتور فارح مسرحي، عن كتابه الجديد «محمّد أركون.. فيلسوف بين الشرق والغرب»، أنّه جاء ضمن سياق يسعى من خلاله للخروج بمدونة أركون من الحقل الأكاديمي الضيق إلى القارئ العادي وطرح أفكاره للتداول على أوسع نطاق، بغرض فتح نقاشات واسعة حولها للاِستفادة منها. الإصدار جاء ليؤكد مرّة أخرى مدى اهتمام الدكتور مسرحي، بمدونة أركون والفكر الفلسفي والفلسفة ومستقبلها في الجزائر والإشكاليات المرتبطة والمحيطة بهما.
حاورته/ نــوّارة لحــرش
وفي هذا المعطى، يرى أنّه لن يكون هناك مستقبل مشرق للفلسفة في الجزائر ما لم تستطع كسب أصدقاء ومحبين وجمهور قارئ لنصوصها، وانفتاح على المرجعيات الفلسفية المتنوعة. إذ يعتقد، أنّه مثلما يكون الاِنفتاح على المرجعيات الفلسفية المُتعدّدة ينبغي أن يكون هناك اِنفتاح من قِبل المشتغلين بالفلسفة على الفروع المعرفية الأخرى. مؤكداً أنّه من دون هذا الاِنفتاح ستبقى الفلسفة غير قادرة على التجدّد وعلى الإثراء المفاهيمي والمنهجي ومن ثمّ لن يكون باِستطاعتها التشخيص الدقيق لما يحدث ولا التنبؤ الصادق بِما سيحدث وتبقى مجرّد إعادة إنتاج لتاريخها.
إصدارك الأخير الصادر عن دار الوطن اليوم، كان أيضًا حول محمّد أركون: «محمّد أركون.. فيلسوف بين الشرق والغرب». ما الّذي أردت إضافته في هذا الكتاب غير الجانب التعريفي بأركون ومشروعه الفكري والفلسفي؟
فارح مسرحي: هذا صحيح. فقد أنجزتُ العديد من الدراسات والمقالات والمقاربات ومجموعة كُتب حول مدونة محمّد أركون التي لا تزال تستقطب الباحثين وتُثير اِهتمامهم، وهذا بالنظر لثرائها المفاهيمي والمنهجي بالإضافة لعُمق وتعقد الإشكاليات التي تطرحها، وهذا –في اِعتقادي- أمرٌ يحتمُ على المهتمين بمشروع أركون السعي للخروج به من الحقل الأكاديمي الضيق إلى القارئ العادي وطرح أفكاره للتداول على أوسع نطاق، بغرض فتح نقاش واسع حولها للاِستفادة منها، ضمن هذا السياق يأتي الكِتاب الأخير الّذي نشرته مؤخراً (2022) حول أركون وكان عنوانه: «محمّد أركون: فيلسوف بين الشرق والغرب»، فهو يندرجُ ضمن سلسلة التعريف بأعلام الجزائر، هذه السلسلة التي شرعت في نشرها منشورات الوطن اليوم.
فمحمّد أركون أحد أعلام الفكر في الجزائر وهو جديرٌ بالتعريف به لدى الجمهور العريض خاصةً في الجزائر، وذلك بلغة بسيطة وبأسلوب مختصر دون الإيغال في التعقيدات الأكاديمية، مِمَا يسمح للقارئ غير المطلع على فكر أركون بتشكيل صورة ولو بسيطة عنه، وإن شاء التعمق ففي الكِتاب لائحة بأهم أعمال أركون أو الأعمال التي أُنجزت حول مشروعه وهو ما يُسهل للقارئ سبيل التعمق في المشروع، من جهة أخرى فإنّ هناك الكثير من النقاشات التي تُثار عادةً حول أركون، وهي –في الغالب- تنطلق من فرضيات غير دقيقة ومن ثم تُجانب نتائجها الصواب خاصةً تلك القراءات المتسرعة في التصنيف وإطلاق الأحكام القيمية، من ذلك مثلاً: علاقته بالثورة التحريرية، وعلاقته بالفكر الغربي (الاستشراق بصورة خاصة) وموقفه من الواقع الإسلامي خاصةً علاقة الدين بالدولة وغير ذلك من القضايا التي يُفترض أن تسبق مناقشتها كلّ تقييم أو تصنيف، خاصةً وأنّ أركون –كما يُشير العنوان الفرعي للكِتاب- يُعدُ من المفكرين بين التخوم، وهؤلاء سيكون كلّ تصنيف مُجحف في حقهم، لذلك فالأولى دراسة مشاريعهم ومحاولة الاِستفادة منها بعيداً عن ثنائية التقديس والتدنيس.
لا نستطيع أن نُطلق لقب فيلسوف على أي مشتغل بالفلسفة في الجزائر
المُتتبع للمشهد الثقافي في الجزائر يُلاحظ ندرة في الدراسات المُخصّصة للحديث عن الفلسفة. بصفتك أستاذ فلسفة وأحد المشتغلين في حقلها. لماذا برأيك هذا الغياب، أو هذا التذبذب في حضور الفلسفة الّذي يجعل الدرس الفلسفي لا يُحقّق أهدافه؟
بالرغم من مرور أزيد من نصف قرن على تأسيس أوّل قسم للفلسفة في الجامعة الجزائرية بعد اِسترجاع السيادة الوطنية، وهذه المدة الزمنية تبدو كافية لمحاولة تقييم المسار واستدراك النقص وتجاوز العقبات التي جعلت الدرس الفلسفي في الجزائر لا يُحقّق أهدافه ومن ثمّ لا يُحظى بالاِهتمام والمُتابعة، حتّى أنّنا لا نستطيع إلى الآن أن نُطلق لقب فيلسوف على أي مشتغل بالفلسفة في الجزائر دون تحفظات أو اِعتراضات من هذه الجهة أو من تلك، وهذا وضع يطرح أكثر من تساؤل: أَعَجَزَت الجزائر لهذه الدرجة عن أن تُنجب فيلسوفًا؟ كيف نُفسر هذا العجز؟ هل المسألة راجعة لموقع الفلسفة في المنظومة التربوية وحيثيات تدريسها؟ أم أنّ المسألة مرتبطة بنظرة المجتمع للفلسفة وللمُشتغلين بها؟ أم أنّ الأمر مرتبط بالمشتغلين بالفلسفة أنفسهم من حيث تكوينهم ومراميهم من وراء الاِشتغال بالفلسفة؟ خاصةً إذا اِستحضرنا الإشكاليات المرتبطة بالكتابة الفلسفية في الجزائر من حيث قلتها وقيمتها الفلسفية وقدرتها التفسيرية، وعلاقتها بالهموم الكثيرة التي يُعانيها الإنسان/المجتمع الجزائري.
من الضروري ربّما مناقشة الوضع العام للفلسفة في الجزائر درسًا ونصًا، من خلال طرح بعض الإشكاليات المُرتبطة بها سواء كمادة تعليمية في مرحلة التعليم الثانوي أو كتخصص في الجامعة، أو كفرع معرفي بإمكانه أن يسهم مع الفروع المعرفية الأخرى في تشخيص عوائق الركود والفوضى وكلّ مظاهر العطالة والتخلف التي تسود مجتمعنا، لأنّنا نعتقد أنّه يمكن للفلسفة أن تقدم الكثير من الأفكار-المسارات الضرورية من أجل التنمية الوطنية التي هي مطلب الجميع، والكل يعرف قيمة الفلسفة ومكانتها لدى الشعوب المتقدمة، فمن خلال منهجها النقدي وطرحها المُتميز لمختلف القضايا والإشكاليات تستطيع أن تكون أداة اِستشراف وقوّة اِقتراح لما ينبغي أن يكون أو أداة مُرافقة/مُراقبة لمختلف الإستراتيجيات والسياسات التنموية قصد ترشيدها وتفعيلها وتعديل مساراتها إن لم تكن كما ينبغي لها أن تكون حتّى تبلغ أهدافها.
هناك مُبرر آخر يجعل أشكلة وضع الفلسفة في الجزائر مسألة مُلحة وضرورية، يتمثل في التحوّلات العميقة التي يعرفها العالم في الآونة الأخيرة على مختلف الصُعد، والتي تقتضي إعادة النظر في كلّ شيء لاسيما المنظومات التعليمية وطُرق التدريس وما يرتبط بها خاصةً في ميدان الفلسفة الّذي يُفترض أنّه الميدان الأصدق تعبيراً عن تأثير هذه التحوّلات التي تشهدها المعمورة.
يمكن للفلسفة أن تُقدم الكثير من الأفكار الضرورية من أجل التنمية الوطنية
يتبادر إلى أذهاننا سؤال المستقبل الفلسفي. بمعنى آخر أي مستقبل للفلسفة في الجزائر؟
uإزاء هذا السؤال سنجد إجابتين مُتباينتين تعبران عن الموقف العام من الفلسفة في المجتمع، أوّلاهما وهي إجابة الرافضين المناهضين غير المقدرين لدور الفلسفة فهؤلاء سيقولون: وأي مستقبل سيكون للفلسفة في الجزائر؟ فقيمتها قليلة، ونتائجها هزيلة، وبرامج تدريسها عتيقة عليلة، وإرادة دارسيها ومدرسيها ضئيلة، والأكثر من ذلك فهي للكفر والزندقة سليلة، وبإخراج الإنسان من الملة كفيلة. هذا موقف تفرض علينا حرية الرأي أن نحترمه لأنّه قد يكون مُبَرراً، ولكننا سنسعى لتجاوزه وإثبات تهافته لأنّ اِستمراره سيكون مدمراً.
أمّا الموقف الثاني وهو للمؤمنين بجدوى الفلسفة وضرورة الاِعتناء بها ونشرها ولسان حالهم يقول: وأي مستقبل للجزائر دون فلسفة؟ فالمستقل الّذي تحلم به المجتمعات لن يكون إلاّ بتوجيه وترشيد وتطوير وتنوير، وبيان لما ينبغي أن تكون عليه جوانب الحياة من اِقتصاد وسياسة وتربية وثقافة، في ظل قيم الحق والخير والجمال والعدالة والحرية، وهذه ماهية الفلسفة منهجًا وموضوعاً وغاية، ومن ثم فلا مستقبل راق دون فلسفة راقية.
وهذا موقف نسعى لتكريسه وترسيخه حتّى تلتف الجهود حول الفلسفة بحثًا وترجمةً وتطويراً واستثماراً، لعلّ مجتمعنا يناله بعض ما يمكن أن تمنحه الفلسفة من حلول لمشكلات وتجنيب من أزمات واستشراف لمستقبل آت... اِلخ.
كيف يمكن النجاح في جذب الاِهتمام بالفلسفة والإعلاء من شأنها؟
النجاح في جذب الاِهتمام للفلسفة وبها وتحسين وضعها ليس بالأمر اليسير ولا تكفي لإنجازه الأماني والمواقف الشفوية، إنّه عملٌ كبيرٌ عسير، يتطلب توفر إرادات كثيرة ومؤسسات فعّالة: فهو يتطلب أوّلاً إرادة سياسية من قِبل القائمين على شؤون البلاد في مختلف مفاصل الدولة ومؤسساتها، فهؤلاء لابدّ أن يُغيروا نظرتهم لكثير من الأمور وضمنها نظرتهم للفلسفة وبتغيير هذه النظرة يتم فتح المجال لتغيير وضع الفلسفة في المؤسسات التعليمية ويتم تعديل البرامج بما يتطلبه الراهن وبما يخدم تحسين علاقة المُتعلم بالفلسفة.
قد تكون الإرادة السياسية مهمة في توفير الإمكانيات واتخاذ القرارات، ولكن الدور الكبير يقع على عاتق المشتغلين بالفلسفة في الجزائر أنفسهم، فإن لم يُحَسِّنوا وضع ميدان اِشتغالهم بأنفسهم لن يُحسِّنَه غيرهم، وهؤلاء مطالبون باِستجماع الجهود وتقييم المجهود ومحاربة الجمود والركود والاِنطلاق من جديد، نحو الأُفق البعيد بِمَا يخدم الفلسفة ويُحسِّن وضعها في الجزائر، وهذا بتنويع البحوث والمناهج والاِهتمام أكثر بالترجمة وبالنشر لأبحاثهم ومقالاتهم خلقًا للحيوية الفكرية وفتحًا للمجال أمام الجدل والحوار والاِختلاف لأنّها سُبُل التطور، أقول هذا الكلام لأنّني أعلم أنّ الكثير من الأساتذة والباحثين أنجزوا دراسات مهمة غير أنّهم تركوها حبيسة مكتباتهم الخاصة ولم يسعوا إلى نشرها تعميمًا للفائدة، ورغم ما لديهم من مبررات موضوعية إلاّ أنّ هذا السلوك يُفترض ألا يصدر عن محب للفلسفة حقًا، لأن الحبّ الحقيقي يتطلب تضحيات كبيرة ومرتبة الحبّ هذه للأسف الشديد لم يبلغها إلاّ القلائل.
المشتغلون بالفلسفة مطالبون بالاِنفتاح على المرجعيات الأخرى
لماذا برأيك المُشتغل بالفلسفة وفي حقلها لا ينفتح على المرجعيات الأخرى غير العربية أو الفرنسية مثلاً، ولا يسعى لأخذ زاده من الفلسفات المتنوعة بتنوع الثقافات والمعارف؟
المشتغلون بالفلسفة مطالبون أيضاً بالاِنفتاح على المرجعيات الأخرى دون العربية والفرنسية، لأنّ الفلسفة متنوعة بتنوع الثقافات ونحن حصرنا اِهتمامنا بالثقافة العربية وإن حدث وفتحنا أعيُننا فنحو الثقافة الفرنسية دون غيرها، والعالم بطبيعة الحال أوسع من فرنسا بكثير، مثلما يكون الاِنفتاح على المرجعيات الفلسفية المُتعدّدة ينبغي أن يكون هناك اِنفتاح من قِبل المشتغلين بالفلسفة على الفروع المعرفية الأخرى لاسيما الأدب والتاريخ والعلوم بمختلف تفريعاتها، ومن دون هذا الاِنفتاح ستبقى الفلسفة غير قادرة على التجدّد وعلى الإثراء المفاهيمي والمنهجي ومن ثمّ لن يكون باِستطاعتها التشخيص الدقيق لما يحدث ولا التنبؤ الصادق بِما سيحدث وتبقى مجرّد إعادة إنتاج لتاريخها.
لن يكون هناك مستقبل مشرق للفلسفة في الجزائر ما لم تستطع كسب أصدقاء ومحبين وجمهورٌ قارئ لنصوصها، وهذا يتطلب: - أوّلاً: ربط الاِهتمامات الفلسفية بِمَا يحدث في الواقع الجزائري ومحاولة البحث عن إجابات للإشكاليات-الهموم التي يُعانيها المواطن في يومياته.
- ثانيًا: الكتابة عن هذه المسائل بلغة يفهمها القارئ، لغة بسيطة مُعبرة بدقة، وتفادي التركيبات التجريدية المعقدة التي تجعل الكاتب يبدو كأنّه يكتب لنفسه.
- ثالثًا: لابدّ من سياسة ثقافيّة تحفيزية-ترويجية للكِتاب لجعله يصل إلى كلّ القرّاء، وهذا موضوع يحتاج بمفرده لبحث خاص، لأنّ وضع الكِتاب في الجزائر كارثي فعلاً.
ما نُلاحظه أنّ الكتابة الفلسفية في الجزائر وربّما في العام العربي ككلّ، أكبر الإشكاليات التي تعاني منها أو تعترض تطورها، هي إشكالية المنهج. فهل يمكن أن تُوجز لنا أهم هذه الإشكاليات؟
لعلنا هنا نُلامس إحدى أهم الإشكاليات التي تُعاني منها الكتابة الفلسفية في الجزائر، ونقصد بها إشكالية المنهج والهدف، طبعاً لابدّ من اِستثناء بعض الأعمال خاصةً لدى الجيل الأوّل ذات التوجه المنهجي والإيديولوجي الواضح، فالكثير من الأعمال التي تُنشر في الآونة الأخيرة هي أعمالٌ وصفية تعريفية بالأعلام والمدارس أكثر من كونها أعمالاً إبداعية ذات هم فلسفي وتوجه منهجي دقيق وصارم، وفي هذه المسألة بالذات يُميز الدكتور عبد الرحمن بوقاف بين نص بقضية ونص بلا قضية، ويوضح ميزة كلّ منهما قائلاً: «النوع الأوّل نادر، بل هو شبه منعدم، باِستثناء ما كتبه الأستاذ عبد الله شريط، ويمكن إضافة مصطفى الأشرف، أمّا مالك بن نبي فصحيح أنّه يحمل قضية ولكن فضاءه البحثي ليس الجزائر بل العالم الإسلامي».
معنى هذا أنّ هناك نصوصاً مهمومة بقضايا معينة لأنّ أصحابها على وعي بِمَا تفرضه اِنتماءاتهم وملتزمون بالبحث عن حلول لما هو مطروح من إشكاليات في مجتمعاتهم، قد يختار المفكر الاِلتزام بقضايا محلية أو وطنية كما هو الحال بالنسبة لنصوص عبد الله شريط أو نصوص مولود قاسم نايت بلقاسم المهمومة بقضايا المجتمع الجزائري مع تباينهما في التوجه الإيديولوجي طبعًا، كما قد تكون قضاياه تتجاوز الوطن كنصوص مالك بن نبي المهمومة بقضايا العالم الإسلامي، ولكن هذه النصوص-بقضايا تبقى نصوصا قليلة جداً مقارنةً بالنصوص الأخرى التي لا نلمس توجهًا واضحاً لدى أصحابها ولا اِرتباطًا واضحًا بقضايا الواقع جزائريًا كان أو إسلاميًا.
هناك سمة جديدة لابدّ من الإشارة إليها وهي خاصة بالجيل الثاني من متفلسفة الجزائر دون الجيل الأوّل ونقصد بها حضور العنصر النسوي في المشهد الفلسفي الجزائري حيث أصبحنا نقرأ أعمالاً مهمة للكثير من أستاذات الفلسفة اللواتي أصبحن يُسجلن حضوراً قويًا ومحترمًا بنصوصهن أو بمشاركاتهن في الملتقيات الفلسفية سواء داخل الوطن أو خارجه، دون أن تكون هناك خصوصية معينة لكتاباتهن تجعلها متميزة عن كتابات الأساتذة من جيلهن. ن/ل