التحوّلات التي تمرّ بها الجزائر المُعاصرة تقترح عوالم شِعرية رهيبة
يعتقد الشاعر والناقد الدكتور عبد القادر رابحي، أنّ المدونة الشِّعريّة الجزائرية المُعاصرة بالنظر إلى ما تُعايشه من تحوّلات بنيوية، شهدت إضافات جديدة، لا على مستوى التفكير في الكتابة وتحقيقها فحسب، ولكن كذلك على مستوى ما يعترضها من عوالمِ تلقٍّ تتعرضُ هي الأخرى -وربّما بطريقة أشدّ وقعاً- لتحوّلات عميقة أنتجها الظرف التاريخي الّذي نعيشه بِمّا يحمله من ثورة عارمة في جلّ المفاهيم المُتعلقة بالذوق الشِّعري وبالكتابة الشِّعرية وبِمّا ينجرّ عنهما من أطروحات نقدية.
حوار: نـوّارة لـحـرش
مُؤكداً في ذات السياق، على مدى قدرة المدونة الشِّعريّة الجزائرية نفسها على اِستيعاب هذه التحوّلات التي يشهدها العالم المُعاصر، وكيف يمكن لشعراء هذه المدونة أن ينتبهوا لدورهم الطلائعي في مجال المعركة الإبداعية الدائرة رحاها في العالم، وأن يكونوا على خط التماس الخطير مع ما تطرحه هذه التحوّلات من إحراجات فكرية وفلسفية وجب عليهم إدراك مغازيها وتحويل رأسمالها الفكري إلى غنيمة إبداعية تتوشّحُ بِما يمكن أن تتوشّح به من جمالية، وبِما يمكن أن تتوق إليه من عوالم كتابة جديدة مُلازمة لهذه التحوّلات ومُراعية لِمَا يمكن أن يجترحها من أهواء شِعرية جديرة بأن تترك أثرها في هذه المدونة.
صاحب «أرى شجراً يسير»، خاض في شؤون أخرى ذات صلة بهذه المدونة وبما جاء في كتابه «شعريّةُ التحوّلات: مقالات في القصيدة الجزائرية الجديدة» الّذي تناول تجارب شعرية مختلفة، من خلال مجموعة قراءات مفتوحة لنصوص شعراء جزائريين .
للإشارة عبد القادر رابحي، شاعر وأكاديمي جزائري، صدرت له في مجموعة من الكُتُب في الشّعر والدراسات النقدية. منها في الشِّعر: «الصعود إلى قمة الونشريس»، «حنين السنبلة»، «على حساب الوقت»، «السفينة والجدار»، «حالات الاِستثناء القصوى»، «أرى شجراً يسير»، «مثلما كنتُ صبيّا»، «مقصّات الأنهار».
أمّا في مجال الدراسات، فصدر له :»النص والتقعيد، إيديولوجية النص الشِّعري»، «النص والتقعيد، إسنادية النص الشِّعري»، «المقولة والعراف. دراسات في الشِّعر الجزائري المعاصر». «إيديولوجية الرواية والكسر التاريخي.. مقاربة سجالية للروائي مُتقنعًا ببطله». «في التأثيث لفراغ القصيدة، مقاربات في التشكيل الشِّعري». «عن الهوية والتاريخ والحداثة، ثلاث رسائل إلى أحمد دلباني».
المدونة الشِّعرية الجزائرية المُعاصرة شهدت إضافات جديدة
في كتابك «شعريّةُ التحوّلات: مقالات في القصيدة الجزائرية الجديدة»، جمعت بعض التجارب الشّعريّة الجزائرية الجديدة ومن حساسيات شعريّة وفنيّة مختلفة. كيف تأسست فكرة هذه المقالات التي شكلت هذا الكِتاب؟
عبد القادر رابحي: فكرتان أساسيتان اِستحوذتا على لحظات كتابة هذه المقالات لسنتين مضتا عن بعض دواوين الشِّعر الصادرة لشعراء جزائريين في الفترة نفسها.
تتعلّق الفكرة الأولى بالإضافات الجديدة التي شهدتها المدونة الشِّعرية الجزائرية المُعاصرة بالنظر إلى ما تُعايشه من تحوّلات بنيوية، لا على مستوى التفكير في الكتابة وتحقيقها فحسب، ولكن كذلك على مستوى ما يعترضها من عوالمِ تلقٍّ تتعرضُ هي الأخرى -وربّما بطريقة أشدّ وقعاً- لتحوّلات عميقة أنتجها الظرف التاريخي الّذي نعيشه بِمّا يحمله من ثورة عارمة في جلّ المفاهيم المُتعلقة بالذوق الشِّعري وبالكتابة الشِّعرية وبِمّا ينجرّ عنهما من أطروحات نقدية لها علاقة وطيدة بالحِراك السياسي والثقافي الّذي يشهده العالم، ومن ضمنه العالم العربي.
وماذا عن الفِكرة الثانية؟
عبد القادر رابحي: أمّا الفكرة الثانية، وهي نتيجة ما تحمله الفكرة الأولى من تفرّعات، فتتعلّق بالمدونة الشِّعرية الجزائرية نفسها وبمدى قدرتها على اِستيعاب هذه التحوّلات التي يشهدها العالم المُعاصر، وكيف يمكن لشعراء هذه المدونة أن ينتبهوا لدورهم الطلائعي في مجال المعركة الإبداعية الدائرة رحاها في العالم، وأن يكونوا على خط التماس الخطير مع ما تطرحه هذه التحوّلات من إحراجات فكرية وفلسفية وجب عليهم إدراك مغازيها وتحويل رأسمالها الفكري إلى غنيمة إبداعية تتوشّحُ بِما يمكن أن تتوشّح به من جمالية، وبِما يمكن أن تتوق إليه من عوالم كتابة جديدة مُلازمة لهذه التحوّلات ومُراعية لِمَا يمكن أن يجترحها من أهواء شِعرية جديرة بأن تترك أثرها في هذه المدونة.
ربّما يكون قد انقضى، وإلى غير رجعة، عهدُ الحديث عن النصّ الوسيلة الّذي تأخذُ بيده قناعةُ المبدع فتقوده مُرغمًا إلى ما يُريده منه المذهب أو الفكرة أو النظام كما كان ذلك سارياً في الكثير من النصوص التي سكنت المدوّنة الشِّعرية الجزائرية في حِقب سابقة، وكذا في العديد من المُمارسات النقدية التي رافقتها، على قِلّتها، فأنتجت نصّا مَقْمُوعًا تكاد تطلّ الحريّة متأوّهة من بين يديّ قيوده لكثرة ما أثقلت كاهلَه أغلالُ الرؤى الجاهزة والمواقف المُعلّبة، فنسيّ، بما كبّلُه به مبدعُه، أن يكون نصًّا غايةً.
لقد تغيّر الظرف التاريخي وتغيّر معه شرط الإبداع ولوازم الكتابة وأطروحات التّموقع
هل يعني هذا أنّ شرط الإبداع قد تغيّر؟
عبد القادر رابحي: لقد تغيّر الظرف التاريخي وتغيّر معه شرط الإبداع ولوازم الكتابة وأطروحات التّموقع، فلم يعد ثمّة ما يهزّ كيان المُبدع والقارئ مِمّا تعوّده في ما مضى من سياقاتِ كتابةٍ مليئة بأنساقها الدالّة عليها حدّ التطابق. كما لم يعد ثمّة ما يُؤرّخ للسياسة بالشِّعر، أو للتاريخ بالشِّعر، أو للزّعامات المُتعالية أو المُتدنية بالشِّعر كذلك وفقًا لما تُمليه أغراض الشِّعر المُوزّعة على حالات الذات كما تتوزّع نقاط السواد على بقعة الضوء.
كأنك تقول: إنّ القصيدة حققت كينونتها بعيداً عن مثل هذه السياقات التي ذكرت؟
عبد القادر رابحي: لقد حققت القصيدة كينونتها بتحقيقها لموضوع كينونتها، وأصبح بإمكان الشاعر اللصيق بلحظة وجوده، المُتماهي مع ما يكتنفها من ثقل وجوديّ، أن يُعبّر عنها بِما تطرحه أدوات لحظة وجوده من أفكار هي من صُلب الحياة لم ينتبه إليها الشُعراء الجزائريون في مراحل سابقة نظراً لاِعتنائهم بتأثيث القصيدة بالعوالم الخارجة عنها في عصرِ كتابةٍ لم يعد يتحمّل حضوره أو يطيق بعضَ حضورِه. ولعلّه لذلك، سُميت هذه المقالات بـ(شعرية التحوّلات) في حين كان من اللائق على من خَبِرَ بعض الحِراك الّذي يمس الشِّعر الجزائري أن يقترح تسميتها بـ(تحوّلات الشِّعرية) الّذي يبدو أكثر اِنسجاماً مع ما يمكن أن تحمله وجهة نظرٍ نقديةٍ عن هذه النصوص المعنية بالقراءة، والّذي يبدو كذلك أكثر منطقية بالنظر إلى ما يمكن أن تتعرض له شِعريةٌ ما من تحوّلاتٍ في بنياتها الفكرية والفنية والجمالية بسبب تأثّرها بظروف مرحلتها التاريخية.
غير أنّ الفرق يبدو واضحاً بين مقاصد (تحوّلات الشِّعرية) -الجزائرية في هذه الحالة- وبين (شِعرية التحوّلات)، وذلك نظراً لِمَا يمكن أن تقترحه هذه التحوّلات التي تمرّ بها الجزائر المُعاصرة من عوالم شِعرية رهيبة في ما يمكن أن تحمله من أفكار حادّة وأطروحات جذرية وبلاغات مُفارقة، ولكن بقيت متروكة جانباً نظراً لعدم اِنتباه الشعراء لها، وكذلك نظراً لما يمكن أن يُنتجه جيل شِعريّ مرتبطٌ بواقعه ومُدركٌ لحركية روح العصر الّذي يعيشه، من مقدرة على فهم ارتجاجاته الباطنة، ومن حساسية في تلقّف ما تحمله هذه التحوّلات من عوالم تخييلية تستطيع أن تسمو بالإبداع إلى عوالم مُفارقة لم تشهدها المُدونة الشِّعرية الجزائرية في ما أنجزته من نصوص سابقة.
المُدونة الشِّعرية الجزائرية أضحت تزخر أكثر من أي وقتٍ مضى بإمكانات شِعرية هائلة
كيفَ تقرأ واقع هذه المُدونة الشِّعرية، أو بمعنى أدق واقع النصوص التي أنتجتها المدونة الشِّعرية الجزائرية؟
عبد القادر رابحي: لعلّنا لا نُخالف الواقع، واقع التحوّلات التي شهدتها الجزائر منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى نهاية العشرية الثانية من هذا القرن الجديد، كما لا نُخالف واقع النصوص الشِّعرية التي أنتجتها المُدونة الشِّعرية الجزائرية، إذا قلنا إنّ هذه المُدونة أضحت تزخر، أكثر من أي وقتٍ مضى، بإمكانات شِعرية هائلة مُوّزعة على ربوع هذا الوطن الجزائري الشاسع، فاتحة ذراعيها للعالم، بِمَا يحدث فيه من أحداث غيّرت مجرى العديد من مفاهيم الكتابة الشِّعرية التي بنت عليها الأجيال السابقة رؤيتها الإبداعية.
نصوص الكتاب تفتحُ باب المُساءلة الإبداعية المفتوحة على التجريب والقادرة على إدراك لحظة الوجود
هل يمكنُ القول أنّ النصوص التي تناولتها في الكِتاب جاءت بشكلٍ أو بآخر لتفتح باب المُساءلة الإبداعية على التجريب؟
عبد القادر رابحي: إنّ هذه النصوص، وغيرها مِمّا لم يسعفنا الوقت في التعرض لها، تفتحُ باب المُساءلة الإبداعية المفتوحة على التجريب والقادرة على إدراك لحظة الوجود التي تعيش فيها إدراكًا يحترم الذات ولا يستدعي أقنعة الكتابة المالئة لبلاغات الفراغ الّذي يُؤثثُ النصوص بِما ليس فيها عن طريق ما يُثيره الوزن في النفس من أثر، وما يتركه المدحُ في الممدوح من وقع، وما تتركهُ النبوءات في نفس الشاعر المهزوم من أنّات ومن تأوّهات.
وحسب هذه الورقات أنّها لم تجد في ما تعرضت له من نصوص أيّ شيء من كلّ ذلك، لأنّها نصوص تعتمد على ترسيخ رؤيا الذات العميقة في الوعي الجمعي من خلال ما يمكن أن تُضيفه قصيدة النثر من أبعاد جمالية للتّلقي الشِّعري الّذي عانى كثيراً في الجزائر من المُسْبقات الإلزامية التي طالما تبنت أولية الوزن على الفكرة، وأوّلية الموضوع على الأسلوب، وأولوية الشكل على اللّغة، وأولوية البلاغة على التخييل. لقد كان بإمكان هذه الورقات التي نخالها غير منتهية، لا في رؤيتها التفكيكية لبنيات النصوص القليلة التي تعرضت لها، ولا في ما كان بإمكانها أن تتعرض له من نصوص أخرى كثيرة تنهل من المنبع نفسه وتصبّ في المصبّ نفسه -مصبّ الكتابة المُنفتحة على الذات وعلى العالم- أن تكون أكثر رحابة لتتّسع لهذه النصوص جميعها، وأقلّ تعجّلا في قراءتها برؤية أكثر عمقا وبأدوات تحليل أكثر منهجية.
القصيدة الجزائرية الجديدة تُحاول أن تهتم بأولويّتها الخاصة بها وأولوية وجودها المُتماهي مع اللحظة التاريخية
هل ترى أنّ هذه النصوص تمثل رؤية إبداعية خاصة وفي ذات الوقت تتماهى مع اللحظة التاريخية؟
عبد القادر رابحي: إنّ ما تتعرض له هذه الورقات هو ما يمكن تسميته بنوع من الجرأة الزائدة بـ(القصيدة الجزائرية الجديدة)، كما حال مثيلاتها في الشِّعر العربي، التي تُحاول أن تتجاوز هذه الأولويات المُهيمنة على الذوق الشِّعري العام منذ بداية القرن الماضي، لتهتم أخيراً بأولويّتها الخاصة بها، أولوية وجودها المُتماهي مع اللحظة التاريخية بِمَا تقترحه هذه الأخيرة من اِجتراحات ومن إحراجات.
ولعلّه لذلك، كانت هذه القصائد خارجة عن الحقول المحروثة للبلاغات التقليدية، وخارجة عن التصوّرات المُغلقة للإيديولوجيات المُهيمنة، وخارجة عن الخطّ العام الّذي بإمكان أيّ باحث أو ناقد أن يبحث عنه ويجده في دواوين جزائرية أخرى صادرة في الفترة نفسها، وتحت وطأة اللحظة التاريخية نفسها، ولكنّها تُمثلُ رؤية معروفة للإبداع، تعوّد عليها القارئ والناقد معاً، فلم تعد تضيف شيئاً جديداً للعالم. وهي، في كلّ الأحوال، غير الرؤيا التي تحملها هذه النصوص.
لماذا هذه النصوص تحديداً التي تناولتها في «شعريّة التحوّلات»؟
عبد القادر رابحي: إنّ هذه النصوص بالذات هي باقة تمثيلية لنصوص أخرى كثيرة تسير معها بخطى ثابتة نحو كتابة قصيدة جديدة طالما طمح إليها الشعراء الجزائريون وهم يسعون إلى تحقيق دورهم الطلائعي في غرس بذرة حداثةِ حياةٍ لا تستنزف الذات من أجل استنبات جماليات قسرية في البيوت البلاستيكية للّغة الثابتة المُتغيرة، ولا تُدير ظهرها للعالم بِمَا يحمله من دهشة مُتواصلة لا تنتظر إلاّ هذه الذات الحسّاسة المُرهفة من أجل اقتطاف ثمراتها الدانية.