يواجه المثقفون والمبدعون الداعمون للقضية الفلسطينية و الرافضون للحرب على غزة، موجة تضييق وتمييز في استوديوهات الإنتاج و أروقة الفن و معارض الكتب الغربية، وتختنق الأصوات الرافضة للاحتلال داخل رقعة شطرنج تسقط فيها قلاع الحرية تباعا، فمع بداية العدوان وكرد فعل على عملية طوفان الأقصى، أعلن معرض فرانكفورت الدولي للكتاب عن إلغائه حفل تكريم الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي،و في هوليوود استغنت وكالة مواهب شهيرة عن النجمة سوزان ساراندون، بعد مشاركتها في مسيرة مؤيدة للفلسطينيين، أما في بريطانيا فلا مكان في أروقة العرض لريشة رسمت عن فلسطين أو عبرت عنها برمزية.
نور الهدى طابي
ازدواجية في تقدير الريشة وستار لا يرفع للجميع
الحرب على غزة لم تحرق الأرض و البشر فقط، بل طال العدوان كل أوجه الحياة، فالحصار الصهيوني و الغربي ضرب أيضا على المبدعين و المثقفين الذين صاروا ملاحقين داخل الوطن وخارجه، بتهمة "الكراهية"، لتشوه السياسة الوجه الجميل للفن وتحاول اقتلاع حنجرته، و يتحول التضامن مع غزة وأهلها إلى جريمة و مجازفة كبرى، في ظل تبني الغرب للمفهوم الجدلي لمعاداة السامية، الذي أسسه التحالف الدولي لذكرى الهولوكوست، وهو ما يفضي إلى إسكات كل الأصوات التي تعادي إسرائيل و تدعم القضية الفلسطينية، عن طريق سن قوانين وتشريعات تقيد التعبير بكل أشكاله.
في بريطانيا، أثار مجلس الفنون جدلا واسعا مطلع شهر جانفي من السنة الجارية، بعدما أصدر لائحة مبادئ توجيهية تحذر المنظمات من التصريحات السياسية التي يمكن أن تنتهك اتفاقيات التمويل، حركت اللائحة رفضا واسعا في أوساط النخب الفنية و الثقافية وهو ما دفع بالمجلس إلى التراجع عنها، مع ذلك فإن تبعات الإعلان كان لها تأثير سلبي كبير على الفن الداعم لفلسطين.
وفي تقرير لموقع ميدل إيست آي، عن واقع المبدعين الداعمين للقضية الفلسطينية في المملكة المتحدة منذ تاريخ 7 من أكتوبر الماضي، تمت الإشارة إلى أن أعمالهم المسرحية تعامل بتمييز، كما تعزل ألوانهم عن غيرها،و وتوصد الأبواب في وجوههم على خلفية انتمائهم و رمزية فنهم.
وجاء في التقرير الذي صدر في 21 أفريل 2024،أن المسارح والقاعات ترفض السماح لهؤلاء الفنانين بتقديم عروض عن القضية أو تشير إليها، كما تشترط عليهم في بعض الأحيان "إزالة كلمة فلسطين لأجل السماح للعمل برؤية النور".
وتضمن العمل، شهادة لناشطة ثقافية وتشكيلية لبنانية مقيمة في بريطانيا، قالت إنها تواجه مواقف محرجة في أماكن العرض كلما حاولت الحصول على مساحة لتقديم أعمال تتحدث عن فلسطين مقابل معاملة مختلفة إن تعلق الأمر بأعمال تناقش مواضيع أخرى، وأوضحت بأن هناك أسئلة تتكرر كثيرا في هذا الجانب من قبل مسيري المعارض ومدراء أروقة الفن، إذ تسأل غالبا عن سبب عدم إدراج وجهة النظر الإسرائيلية في العمل الفني، مع مخاوف من إمكانية أن يسبب العمل ردود فعل رافضة أو احتجاجات فيكون قبوله " مجازفة".
و أشار التقرير أيضا، إلى أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد فمن الممكن جدا أن تلغى مواعيد فنية أو ثقافية لفنانين فلسطينيين أو آخرين معروفين بدعم القضية، وقدم أمثلة عن حوادث سجلت في مسارح و مراكز للفنون على مستوى المملكة، أين علقت أو ألغيت مواعيد بحجة " مخاوف أمنية أو تعقيد الوضع في غزة"، على غرار مركز الفنون أرنولفيي، ومسرحي تشيكنشيد و باريكان.
وقد تبين بأن ضغط اللوبي الصهيوني في بريطانيا يعد خلفية للتضييق الذي يتعرض له الفنانون الداعمون للقضية، وأن مجلس " الممثل اليهودي" في مانشستر مثلا، كان وراء قرارات لإلغاء أنشطة فلسطينية لأن الفنانين الذين ينشطون فيها " معادون للسامية".
من جانب آخر، ذكر مغني الراب البريطاني من أصول عراقية " لوكي" في مقابلة له مع قناة الجزيرة، أنه استهدافه بحملة تشويه على منصة " سبوتيفاي" بسبب أغنيته " عاشت فلسطين" التي اعتبرت تحريضا على العنف و الكراهية .
«تفصيل ثانوي» يفضح كليشيهات معاداة السامية
أحداث السابع من أكتوبر، فضحت أيضا وبشكل صارخ ازدواجية المعايير والتحامل على كل ما هو فلسطيني، فأول رد فعل للدوائر الثقافية الغربية على عملية المقاومة، كان قرار إدارة معرض فرانكفورت الدولي للكتاب بإلغاء حفل تكريم الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، و التي كان من المفترض أن تحصل على جائزة "ليبراتور" عن روايتها "تفصيل ثانوي".
وقال حين ذاك، مدير المعرض يورجن بوس: " في ضوء الهجوم الإرهابي على إسرائيل، ستبحث جمعية ليتبروم التي تمنح الجائزة عن مكان مناسب لتلك الفعالية في وقت ما بعد معرض الكتاب".
وأضاف:" إن المعرض يعتزم "جعل الأصوات اليهودية والإسرائيلية مرئية بشكل خاص في المعرض" متجاهلا لذلك معاناة الشعب الفلسطيني المحتل منذ أزيد من سبعين عاما، و كون الكتاب والكاتبة هما واجهة لواقعه المرير".
وقد خلف القرار حالة من الاستنكار و الاستهجان على مواقع التواصل الاجتماعي وردت مؤسسات عربية بالانسحاب من المعرض كما قاطع مثقفون من أمثال الروائي الجزائري واسيني الأعرج الفعالية.
هذا وقد كانت رواية الكاتبة الفلسطينية مهمة جدا، خصوصا وأنها واحدة من الأعمال التي أشيد بها لما قدمته من قراءة مستفيضة تكشف الاستخدام المكرر و المستهلك لكليشيهات معاداة السامية، فالعمل الصادر سنة 2017 يتناول قصة فتاة فلسطينية تتعرّض للاغتصاب ثم القتل على يد كتيبة إسرائيلية بعد نكبة عام 1948.
وفي أمريكا، اضطرت " منظمة القلم الأميركية" لإلغاء حفل توزيع جوائزها لعام 2024، بعد أن سحب نحو نصف الكتاب المرشحين لجوائزها أعمالهم احتجاجا على موقف المنظمة بشأن الحرب على غزة.
وأعلنت المجموعة المخصصة لحرية التعبير، وفقا للمجلة تايمز " أن نحو 28 من أصل 61 مرشحا سحبوا أعمالهم، بسبب افتقار المنظمة لدعم الكتاب الفلسطينيين".
كما أشارت تايمز "إلى أن المقاطعة جاءت وسط استياء متزايد في المجال الأدبي بشأن ردة فعل منظمة القلم الأميركية على القصف الإسرائيلي المستمر على غزة، وصمتها عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد سكان القطاع ، إذ سبق لكتّاب وشعراء توجيه رسالة مفتوحة إلى القائمين عليها، وقّع عليها أكثر من 600 كاتب وروائي من جنسيات متعددة، لدعوتهم إلى اتخاذ موقف واضح وصريح بشأن العدوان. "
وجاء في بيان الانتقاد، الذي وجه إلى المنظمة: "لقد خاطر الشعراء والعلماء والروائيون والصحافيون وكتاب المقالات في فلسطين بكل شيء، بما في ذلك حياتهم وحياة عائلاتهم، من أجل مشاركة كلماتهم مع العالم. ومع ذلك، يبدو أن منظمة PEN America غير مستعدة للوقوف معهم بحزم".
عدسة هوليوود لا تضيء كل الزوايا
مثل المسرح و الفن التشكيلي و الأدب، تتخبط السينما الفلسطينية وتصارع كغريق أمواج العداء والتضييق، فالفيلم الفلسطيني " فرحة" تعرض لهجوم كبير من السياسيين الإسرائيليين بعد عرضه على منصة نتفليكس، وانتقده وزير المالية و وزير الثقافة بحكومة الاحتلال بسبب تناوله أحداث النكبة، كانت وقد هناك مطالب بوقف عرضه، ومن الأفلام الفلسطينية التي تعتبر شكلا من أشكال المقاومة، وتحارب كأبطالها " باراديز ناو" الذي صور تحت القصف، إذ شنت طائرات الاحتلال هجوما صاروخيا بالقرب من موقع التصوير.
أما فيلم " ديفين إنترفنشن"، فقد كان عنوانا للهوية والأرض المسروقة،و رفضت أكاديمية الأوسكار ترشيحه سنة 2002، لعدم اعترافها بدولة فلسطين، رغم أنه فاز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان، ففي أرض الأحلام هوليوود، يحضر الحديث عن القضية الفلسطينية و يعاقب كل من يعبر عن تضامنه مع غزة وأهلها، إذ أنه ثم في 22 من نوفمبر الماضي، استبعاد الممثلة ميليسا باريرا من بطولة سلسلة أفلام الرعب الشهيرة " سكريم"، و نشرت شركة سبايغلاس الأميركية، المنتجة للفيلم بيانا كشفت فيه عن استبعاد الممثلة، التي كتبت على تطبيق إنستغرام: "يتم التعامل مع غزة حاليًا كمعسكر اعتقال... يُحاصر الجميع من دون وجود أي مكان يذهبون إليه، ومن دون كهرباء أو ماء ..هذه إبادة جماعية وتطهير عرقي."
وتعقيبا على ما نشرته الممثلة أصدرت "سبايغلاس" بياناً جاء فيه "موقف شركتنا واضح بشكل لا لبس فيه: ليس لدينا أي تسامح مع معاداة السامية أو التحريض على الكراهية، بما في ذلك الإشارات الكاذبة إلى الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي أو تشويه الهولوكوست أو أي موقف آخر يرقى إلى مستوى خطاب الكراهية".
وكانت وكالة المواهب " يو تي آي" قد أعلنت أيضا بعد السابع من أكتوبر،عن استغنائها عن النجمة سوزان ساراندون، بعد مشاركتها في مسيرة مؤيدة للفلسطينيين في مدينة نيويورك قالت خلالها: "الناس يطرحون الأسئلة، ويعلمون أنفسهم ويبتعدون عن غسيل الدماغ الذي يتعرضون له منذ طفولتهم"، وأضافت " لابد من الوقوف مع أي شخص لديه الشجاعة للتحدث علنًا عما يحصل في فلسطين".
كما اتهم نجم فرقة بينك فلويد روجر ووترز "بمعاداة السامية" بسبب مواقفه التي تنتقد الاحتلال الإسرائيلي.أما المديرة بشركة "سي أي أي" لدعم المواهب، الأميركية من أصول ليبية مها دخيل، فقد استقالت من مجلس إدارة الوكالة بعد منشور انتقد العدوان الإسرائيلي على غزة، ثم اعتذرت لاحقا في بيان، واعترفت بأنها ارتكبت "خطأً".
وكشفت الممثلة الأميركية بوبي ليو، أنه تم فسخ عقد عمل لها كانت مدته 6سنوات، جون سبب واضح، وأضافت في تعليق على منصة إكس " أنا واثقة أن السبب هو إدانتي للإبادة العرقية في غزة"، كما تم فسخ عقد أمير المصري بعد انضمام إلى مسلسل أميركي بسبب دعمه لغزة، وقال الفنان معقبا " لم أندم على أي شيء" .من جانبه تراجع الممثل مارك رافلو، عن موقفه الداعم بشكل مطلق للقضية الفلسطينية و أعلن اعتذاره عن منشور سابق على مواقع التواصل الاجتماعي، قال فيه إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في حربها على الفلسطينيين في قطاع غزة، وكذلك الأمر بالنسبة لباريس هيلتون وكيندال جينز و غيرهم، وهو أمر رجعه متابعون إلى ضغوطات يتعرض لها الفنانون والنجوم المساندون للقضية تصل إلى حد العزل و التهميش.
وكان موقع ميدل إيست أي، قد نشر مع بداية العدوان، مقالا للناقد السينمائي المصري جوزيف فهيم، قدم فيه تحليلا لعلاقة هوليوود بالكيان الصهيوني، و استند في تحليل إلى مقال نشرته مجلة فارايتي الأميركية، بينت من خلاله أن جميع الفنانين المعاقبين قد وصفوا الوضع في غزة بأنه "إبادة جماعية"، وهي الكلمة التي أشارت المجلة إلى أنها كانت من المحرمات منذ فترة طويلة في هوليوود، والسبب وراء ذلك ذو شقين: ربط الانتقاد الشديد لإسرائيل بمعاداة السامية، والإيحاء بأن استخدام مصطلح "الإبادة الجماعية" هو استيلاء على صدمات يهودية سابقة
وذكر الناقد في مقاله " بأن السر في الارتباط يعود بنفوذ اللوبي المالي الصهيوني، ويقول الكاتب إن العدد المذهل لنجوم هوليوود الذين دعموا الاحتلال على مر السنين هو الذي ينقل علاقة الحب بين هوليوود و كيان الاحتلال الإسرائيلي، فمن كيرك دوجلاس وسامي ديفيس جونيور إلى إليزابيث تايلور وفرانك سيناترا، احتضنت هوليوود الكيان الصهيوني ودعمته وروجت له بالكامل، وهي معاملة لم يحظ بها أي بلد آخر."