زارت النصر الشاعر والقاص والروائي والسيناريست حسين مهدي في منزله بالمدينة الجديدة علي منجلي بقسنطينة، وهو الذي اختفى منذ سنوات عن المشهد الثقافي، وقد أخبرنا أحد أصدقائه بأنه أصيب بشلل القدمين والذراع اليمنى، ودخلنا غرفة الاستقبال التي رغم مساحتها الضيقة إلا أنها نظيفة ولطيفة وذات ديكور شاعري يشبه العش الملائكي بشاعريتها وحميميتها، وما هي إلا لحظات حتى دخل حسين على كرسي متحرك، ليبدأ هذا الحوار.
لقاء: رشيد فيلالي
مدير «لو نوفال أوبسيرفاتور» جون دانيال اشتكى من حدة قلمه !
دون شك، فإن أغلب الكتاب والصحفيين والأدباء من الأجيال الجديدة، المعربين منهم والمفرنسين على حد سواء لا يعرفون حسين مهدي، فهو كاتب قليل الحضور في "الولائم" الثقافية، لكنه في المقابل غزير الكتابة والنشر بشكل لا يصدق ! فلقد أدلى بدلوه في جميع أجناس الأدب دون استثناء تقريبا، ونال إشادة من النقاد والدارسين المهتمين، حيث أبدع في القصة القصيرة والشعر والرواية والدراسات المطولة والسيناريو السينمائي.. فضلا عن مساهماته الصحافية الثرية التي جلبت له الكثير من "الصواعق" في الداخل والخارج، وذلك بسبب جرأتها البالغة وقوة منطقها وحججها الدامغة ولغتها الجزلة التي تذكرك بكبار الكتاب الفرنسيين الكلاسيكيين ،خصوصا مقاله المطول المنشور في ملحق "الجزائر الأحداث" الناطقة بالفرنسية، ويحمل عنوان "ماذا يريد اليهود؟! ".
كان ذلك في أواخر السبعينيات، وكان الكيان الصهيوني في أوج جنون عظمته و جبروته وغطرسته، ومع ذلك يتجرأ كاتب جزائري شبه مغمور على انتقاده ، حيث تناقلت وترجمت عدة صحف مقاطع من هذا المقال، وردت عليه بعنف سخي واستثنائي ، ومن شدة الضربة وهولها أن مدير تحرير مجلة "لو نوفال أوبسيرفاتور" الفرنسية وهو اليهودي من أصل جزائري جون دانيال، لم يتمالك أعصابه وكتب إلى مسؤولي الصحيفة وباسم مهدي حسين شخصيا، يشتكي فيها من غلواء هذا الصحافي ، صاحب القلم الحاد واللغة المشحونة بالكراهية ضد اليهود، وقد اطلعت على الرسالة شخصيا منذ سنوات، قبل ضياعها في مكتبة مهدي العامرة بالكتب والأوراق والملفات الضخمة..
وثمة حادثة أخرى كنت شاهدا عليها ،وهي أن مهدي حسين دخل في مناظرة علمية مطولة من المستوى العالي مع المؤرخ الجزائري محمد حربي، وقد اضطر هذا الأخير للتراجع والتخلي عن متابعة المناظرة من جراء النفس الطويل الذي يتمتع به مهدي في ردوده، وهناك مناظرات أخرى أجراها حسين مهدي مع كتاب كبار ومنهم فرنسيون.
طفولة بائسة تحت جزمة عساكر الاستعمار !
وقد يتساءل من لا يعرف حسين مهدي عن سر هذا التمكن الكبير من ناصية اللغة الفرنسية، وما هي الشهادات الأكاديمية العليا التي حصل عليها ومن هم أساتذته، وما إلى ذلك من الأسئلة الشرعية ذات الصلة بتكوينه ككاتب.
وفي حقيقة الأمر فإن مهدي حسين هو كاتب عصامي، علم نفسه بنفسه، أما سر تمكنه من اللغة الفرنسية فقد ولدت بذرته الأولى خلال مرحلة طفولته بنهج الثوار وسط مدينة قسنطينة، حيث ولد عام 1946 في عائلة فقيرة تتكون من سبعة أفراد، وقد درس المرحلة الابتدائية بمدرسة الحي على يد مدرسين فرنسيين بعضهم ، وكانوا كما قال لي يكرهون الجزائريين وفي إحدى المرات ونظرا لكون الطفل حسين متوسط المستوى، فقد وبخه المعلم الفرنسي بسبب عدم قيامه بواجبه المنزلي، ولم يكتف بذلك، إذ كتب على لوحة بالفرنسية "أنا حمار !" ويقصد به حسين، ثم قاده في جولة ماراطونية معه عبر الأقسام إمعانا في إهانته والحط من قدره ،وهذا يتنافى طبعا مع أدنى المبادئ البيداغوجية، وأحس حسين حينها وكأن كل كيانه قد سحق وطحن طحنا، وقرر بعدها أن ينتقم من معلمه ومن الفرنسيين بإتقان لغتهم والرد عليهم بقوة تزلزلهم ،كما قال بإحساس نابع من كيان يتفجر ثورة وغيظا، وقد ضاعف من هذا الإحساس ما كان يشاهده بأم عينيه من ظلم واعتداءات وإهانات يومية على يد الجيش الفرنسي الذي كثيرا ما يزورهم فجرا، فيقرع باب الدار حتى يكاد ينخلع ويبسط أرضا، وكان والده يسارع لارتداء ملابسه وهو يرتعد هلعا ورعبا، وكانت أمه وبقية إخوته يبكون بحرقة ويخفون وجوههم بين ركبهم خشية الاعتداء عليهم من طرف العساكر الفرنسيين المتوحشين،والبقية نعلمها جميعا حيث يصفع الأب ويسحل إلى الخارج ويذاق سوء العذاب على ذنب لم يقترفه سوى أنه جزائري في وطنه يعيش وسط أهله، كل هذا وغيره ترسخ في لاوعي الطفل حسين ولم يفارقه قيد لحظة ولذلك فإن الانتقام من المستعمر الفرنسي بكل الطرق صار بالنسبة له تحصيل حاصل.
يصحح أطروحات الدكاترة وهو يحمل شهادة الابتدائية !
بعد بلوغه مرحلة ما كان يسمى بـ CEP شهادة الدراسة الابتدائية، انتهت مرحلة التعليم بالنسبة لحسين مهدي وكانت هذه الشهادة أعلى ما ناله في مسيرة تعليمه الرسمي وحياته الدراسية، وقال بأن في تلك الفترة استمر لديه الإحساس بأنه خلق للكتابة وأن القلم سيكون قرينه الأبدي وكان يرى الكلمة أقوى من الرصاصة في صد الظلم ومقلمته شبهها بحاملة الصواريخ ، وبناء عليه راح يقرأ كل قصاصات الصحف التي يجدها مرمية في الشوارع، إذ لا قبل له باقتناء الجرائد لبؤسه وخواء جيبه، كان عمره 15 عاما حين بدأ يقلد ما يطالعه في الصحف وعندما يعثر على مجلة يقرأ موادها أكثر من ثلاثين مرة ! إنها شهوة المعرفة و نهم للعلم لا ينطفئ ولا يرتوي، يقرأ كل شيء يقع تحت بصره ويحاول تقليده بالكتابة والنسخ مرات ومرات ومرات ، إلى أن تجلت أمامه بوادر التمكن من جملته التعبيرية، جملة عصية غازلها طويلا وكانت على حد تعبيره تذوب في كل مرة بين أصابعه المحروقة مثل ماء الثلج.
الكتابة بالعربية ..ذلك الحلم المجروح !
وبعد محاولات طويلة وشاقة دبج أول قصائده الشعرية، والطريف أن أول هذه القصائد نشرها في جريدة النصر قبل تعريبها ورضي عنها، وحملت عنوان "إنه جويلية"في إشارة إلى يوم الاستقلال..يوم عالق في ذاكرة وجرح وكيان الفتى حسين لا يبرحه..وقد سكنت تلك الفرحة رغم مرور عدة سنوات على استعادة الحرية و الاستقلال أعماق وجدانه، وكانت فرحة لا توصف مبللة بالدموع والابتسامات العريضة، وشهقة إثبات الذات الهائمة في متاهات الوجود..ومع الأيام توالت القصائد تباعا، وهي تضيء مثل حباحب الليل دربه المليء بالمطبات والتحديات والشعور بالقهر والفقر والبطالة والضياع. وقد أنصفه القدر بعد سنوات، حيث صار يصحح أطروحات الدكتوراه والرسائل العليا، لكن ما ظل يحز في نفسه طويلا وإلى غاية اللحظة الراهنة هو عدم قدرته على الكتابة باللغة العربية التي يعشقها حد النخاع، وقال لي إنه كلما مسك القلم وبدأ الكتابة من اليسار إلى اليمين يحلم بأن يعكس القلم اتجاهه ويمضي من اليمين إلى اليسار، غير أن هذا الحلم لم يتحقق مع الأسف الشديد ويالها من خسارة فادحة، على حد تعبيره !
ولأن الهجرة كانت بابا من أبواب البحث عن لقمة الخبز، سافر حسين إلى فرنسا، حيث اشتغل في مهن عديدة: نادل في مطعم، عامل يدوي، وحتى حمالا، لكونه كان يتمتع ببنية قوية وفتوة ونشاط دائمين، وكان حين ينتهي من العمل يقصد إحدى المقاهي الباريسية لتناول ما تسنى له من طعام يسد به رمقه، وهناك كان يلتقي بصحافيين وكتابا يسردون تجاربهم في الكتابة والإبداع، وكان يسترق لهم السمع ويتأثر بما يتباهون به من فتوحات أدبية أو صحفية مما شحن روحه وحفزه لبذل مزيد من الجهد كي يكتسب اللغة الفرنسية ويتقنها ويكتب بها للرد على المستعمر بما يفهمه جيدا وبلغته تحديدا، وقد كانت كتابات مولود فرعون وكاتب ياسين ومحمد ذيب خير معين له في صقل موهبته ونظرته للآخر المتغطرس والمتعالي والمتوحش رغم ما يدعيه من تحضر وتقدم.هذا الآخر الممثل في المستعمر الفرنسي الذي يفتخر بقيم إنسانية سامية لكنها قيم ملوثة بالعنصرية المقيتة وكان شاهدا على ذلك. وعن هذا قال لي حسين مهدي وهو يسترسل في الحديث بصعوبة، إن من أكبر أسباب دعم الغرب للكيان الصهيوني الغاشم، في عدوانه الهمجي على غزة اليوم، كون هذا الكيان هو عبارة عن عصابة مهاجرين غربيين يحملون القيم ذاتها والنظرة الدونية للآخر وخصوصا إذا كان عربيا مسلما، وهو ما يفسر هذا التكالب الصهيوني بدعم من الغرب عموما ضد الفلسطينيين، لاسيما في غزة التي حطمت عنجهيتهم ومسحت بكرامتهم الأرض، ومازالت تلقن دهاقنة الشر دروسا في البسالة والصمود وفنون القتال وجها لوجه ومن المسافة صفر وقبل الصفر وبعد الصفر ! وأضاف مهدي موضحا " علينا أيضا أن ننتبه لحقيقة مؤلمة وهي أننا لا نستعمل اللغة بمحمولاتها الدلالية ذاتها، فمثلا مفهوم الديمقراطية في الغرب موضوع على مقاس الغربيين وهو ليس مفهوم الديمقراطية عندنا أو عند الآسيويين وهكذا دواليك، ولذلك علينا ألا نندهش أمام ما نعيشه الآن من ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع القضية الفلسطينية والأوكرانية، ومن ثمة علينا أن نفرض وجهة نظرنا الإنسانية الحقة دون إحساس بالنقص والدونية"..
وعاش حسين في فرنسا وهو يشاهد بأم عينيه وعلى المباشر دون روتوشات، كيف يستعبد العرب هناك وكيف يعلن الفرنسيون كراهيتهم للجزائريين بالذات باغتيالهم في هجمات تتكرر يوميا دون أن ينال المجرمون جزاء فعلتهم المنكرة، وقد اختار العنصريون الفرنسيون ضحاياهم من الجزائريين لأنهم الوحيدون الذين تحدوا فرنسا وقاتلوها وانتصروا عليها رغم أن الثمن كان باهظا جدا، ملايين الشهداء وما يتبعهم من يتامى وأرامل ومعوقين ومفقودين، وحول ذلك أصدر كتابه المهم "لو حكوا لي عن الحقد"(1983) هذا الكتاب الذي ضم العديد من الشهادات الحية حول الجرائم العنصرية ضد الجزائريين في فرنسا وقد حظي لدى النقاد باهتمام بالغ، لاسيما وهو فريد في بابه من حيث أسلوب التناول والمعالجة وجرأة المؤلف في فتح ملفات كانت شبه طابوهات، طالما أنها تفضح فرنسا بالدليل والحجة وهي التي عادة ما تتغنى بالتحضر والثقافة والتقدم وأنها أرض الحرية والمساواة والعدالة. وقد قال الكاتب الفرنسي جون دوجو Jean Dejeux مؤلف كتاب "الأدب الجزائري المعاصر"لحسين مهدي:" شكرا جزيلا على شهاداتك المؤثرة والحقيقية مع الأسف، وصدقني سيدي بأن الفرنسيين الأصيلين يخجلون ويتألمون من هذه الأفعال التي كان مواطنوك ضحايا لها..." ونشرت حول الكتاب قراءات نقدية موسعة وعميقة في "جزائر الأحداث" و"المجاهد" و"أسبوع الهجرة" في باريس و"النصر" بالفرنسية و"الزمن" التونسية الناطقة بالفرنسية وغيرها من الصحف والمجلات ووسائل الإعلام بما فيها الثقيلة..
أكثر من عشرين كتابا مخطوطا ينتظر النشر !
ولم يكتف حسين بإصدار هذا الكتاب بحجمه المتوسط(156 صفحة عن المؤسسة الوطنية للكتاب)، إذ له كتب أخرى عديدة تتضمن الانتقادات عينها، بنفس الروح الثائرة والنفس الانتقامي من عدو غادر دمر عروشا وقرى ومدنا بأكملها ومحاها من الوجود، في مذابح بربرية وإبادات جماعية طالت البشر والحجر والحيوانات، وحتى الآثار والمعالم الثقافية والتاريخية لم تسلم من بطشه وهمجيته..
ولو تصفحنا "التيمات" التي تطرق لها حسين مهدي في جل كتبه التي تربوا عن الخمسة بغض النظر عن المسودات والدواوين الشعرية والمقالات الصحفية والدراسات التاريخية وهي بأعداد كبيرة ومازالت ترقد في الرفوف وعلب الكرتون، فإننا سنجدها تدور حول موضوع الاستعمار الفرنسي للجزائر والاستعمار الصهيوني لفلسطين، إضافة إلى النقد الاجتماعي والفلسفة والآداب العالمية والسينما والمسرح..
وتجدر الإشارة إلى أن كتب حسين مهدي ومسيرته الأدبية أنجزت حولها أعداد معتبرة من الرسائل الجامعية وخاصة بجامعة قسنطينة، ولو سمحت ظروف النشر لصدر له على الأقل 20 كتابا هي خلاصة تجربته في الكتابة والإبداع والنقد والتاريخ والتحليل السوسيولوجي، إضافة إلى كتابة السيناريو وقد صدر له ضمن هذا المجال الأخير سيناريو فيلم تلفزيوني بعنوان "الثائرة"(1975) .