ينقلنا الكاتب «بشير مفتي» في روايته: «اختلاط المواسم؛ وليمة القتل الكبرى» (ط1: 2019) إلى عالمٍ سرديّ مشتبكٍ، نسيجه الظاهريّ حبكةٌ عنيفةٌ وأحداثٌ متسارعةٌ، يعلو فيها هوس القتل وتصطبغ الصفحاتُ أمام عينيْ القارئ بلونٍ أحمر قانٍ، يلازمه حتّى بعد انتهاء القراءة، وينقل إليه كثيرا من مشاعر الرعب والقلق والتوجّس.
بهاء بن نوار
يأتي هذا الرّعبُ مُتصدِّرا المشهدَ السّرديَّ، ويطالعنا منذ الفصل الأوّل الذي أتى على لسان «القاتل» الذي يكشف أمامنا عالمه النّفسيَّ المظلمَ عاريا، ودون أيّ موارباتٍ أو تبريرات: إنّه مخلوقٌ مولَعٌ بالقتل، ومهووسٌ باجتثاث الأرواح، وسفك الدّماء، لا شيء يُفسِّر ولعَه الغريبَ هذا، أو يُوضِّح جذورَه، ولا جدوى أبدا من محاولة فهمه، أو الحكم عليه، فهو لا يشعر بأيِّ عارٍ أو ذنبٍ من هذا النّزوع، بل على العكس من هذا يكاد أن يبدو فخورا به في كثيرٍ من المواضع، لا شيء يعنيه من مشاغل النّاس واهتماماتهم؛ جميعها تفاهاتٌ في نظره، والعملُ الوحيدُ الجديرُ بالاحترام والمستحقّ للمشقَّةَ هو: القتل؛ إنّه الفعلُ الذي يرتقي به إلى ما فوق أوحال الحياة، وتزاحم البشر، به يصبح إله، يمتلك المصائرَ، ويحدِّد الأقدار، لعلّه نبيٌّ أتى على غير بقيّة الأنبياء ليُخلِّص البشرَ من بؤس مصيرهم بالقتل (ص73) أو لعلّ روحَه رأت كلَّ شيءٍ، وفرّت من الجحيم إلى العالم الأرضيِّ لتُعاقب البشرَ (ص77) هذا كلّه غير مهمٍّ، إنّه يقتل لأجل القتل، فبه وحده يكون، وبه يتجلّى جوهرُه ويتأكّد وجودُه، إنّه ابنُ الصّمت والعزلة والظّلمات، غريبٌ دوما ومنفصِلٌ عن كلِّ ما حوله، ولذا لن نتوقّع أن تنفتح روحُه على الآخر، أو تأتلف معه: لن يحزن لموت والديْه، ولن يُبالي بأيّة مكاسبَ ماليّة، لن يغمر قلبَه الحبُّ حتّى، ولن يهتمّ بأيّة امرأةٍ إلّا اهتماما عابرا وجنسيّا. نفسُه منغلقةٌ على ذاتها، متمنِّعةٌ على الآخرين، والهواية الوحيدة التي تستهويه بعد القتل هي «القراءة» التي يُمكن اعتبارُها في هذا السياق فعلا انغلاقيّا أيضا، يشبه القتلَ في بعض تفاصيله: فيها نأيٌ عن الآخرين، وامتصاصٌ لأفكارهم، وتلصُّصٌ على دواخلِهم، وانعزالٌ عن العالم، وصمتٌ، وسكونٌ، وانفصالٌ يحاكي انفصالَ النّماذج التّاريخيّة والأدبيّة التي تستهويه عن واقعها، ومحيطها، كشخصيّة الطاغية الكبير «بونابرت» وشخصيّة «راسكولينكوف» السّاحرة، التي لم يشنْها كما يرى سوى ضميرها المتيقِّظ أكثر ممّا يجب. وإلى جانب هذه الهواية التي تبعده عن الاحتكاك بالبشر، ومخالطتهم، اختار لنفسه هوايةً ثانيةً تشبهها: «كتابة الرّوايات» أي اختلاق شخصيّاتٍ حبريّةٍ، يشكِّلها على مقاسِ رؤيتِه ووعيِه، وافتراض نهاياتٍ حاسمةٍ، وحده مَنْ يقرّرها، ويُقدِّرها: إنّها الفعلُ الأمثلُ للارتفاع فوق مستوى البشر، والتحكُّم في مصائرهم، والنظر إليهم من فوق.
هكذا يُقدِّم لنا «القاتل» نفسَه دون أيِّ تجمُّلٍ، أو تحسُّبٍ، وهو ما يُبدي براعة الكاتب في تقديم هذه الشّخصيّة الإشكاليّة، الواضحة رغم غموضها، والمتصالحة مع جميع تناقضاتها ومناطق الشّرِّ والسّواد في داخلها، ويوقعنا كقرّاءٍ في فخٍّ لا فكاك منه: فخّ الترقُّب والتوقُّع: ما الذي جعله هكذا؟ ألا يمكن أن يتغيّر؟ ألن يتنازل عن تلك الطّباع «الإجراميّة»؟ حتما سيُعاقَب! كيف سيُعاقَب؟ يجب أن يُشفى! كيف سيُشفى؟
يراوغنا الكاتبُ كثيرا، ويمكر بنا قلمُه، فلا نتوقّع بعد كلِّ ذاك السّواد الذي بدأت به الرواية سوى أن ينقشع وينزاح ولو قليلا، وهو ما نواجهه لدى لقائه الأوّل بزميلته «القاتلة» مثله: كلاهما غامضٌ، وأسود الأعماق، ومختلِفٌ عن الآخرين، حتما سيتآلفان، سيتحابّان، وسيُغيِّر الحبُّ طباعَهما، هكذا قد نفكِّر، ونترقّب، غير أنّ توقّعنا سيخيب، فما من دورٍ محوريٍّ ستؤدّيه هذه القاتلة، ولن يزيد حضورُها على مقطعيْن عابريْن، يتزامن آخرهما مع خروج البلاد من محنة التقتيل العبثيّ، وانتفاء الحاجة إلى قتلةٍ مأجورين، هنا تُختَم الدّائرة الأولى من حياة القاتل، وتبدأ الدّائرة الثّانية في مدينة «تيزي وزو» حيث تظهر «سميرة» المرأة الجذّابة، التي استطاعت لأوّل مرّةٍ أن تثير فيه بعضَ الشّاعريّة والرّومانسية، حتما هي التي ستنقذه، وهي وحدها التي ستُغيِّره: هكذا قد نفكِّر، ونتوقّع، ويساير قلمُ الكاتب توقّعاتنا، فيُقدِّمها لنا امرأةً قلقة الرّوح، انتحاريّةَ النزوع، سوداويّة الأعماق، إنّها مختلفةٌ عن الأخريات، وهي القرينُ المثاليُّ للقاتل، فهي وياللعجب تطلب الموتَ وتريده! ولذا يزهد في إيذائها، ويسلِّط سخطَه كلَّه على مَنْ آذاها، أو خذلها: رشيد أستاذ الفلسفة الذي تخلّى عنها/ علي الذي كذب عليها واغتصبها/ كريم الذي ابتزّها/ فاروق الذي تعلّق بها وأزعجها/ الصّادق الذي لم يحبّها. إنّها حقّا امرأةٌ استثنائيّةٌ، ومنجمٌ خصبٌ للمشاعر المضطرمة، والصراعات المشتعلة، وهو ما يريده «القاتل» ويشتهيه، ولكنْ: هل هي ندٌّ له؟ هل حقّا ستُغيِّره، وتكبح السوادَ في داخله؟ هنا يُبدِّد الكاتبُ توقُّعاتنا: إنّها حقّا امرأةٌ مختلفة، لكنّها لن تُغيِّر فيه شيئا، سيظلّ قاتلا، مُتعطِّشا للدّماء، والتّقاربُ الذي بدا بينهما هشٌّ، ولن يصمد أمام اختلافهما الصارخ؛ فهي كغيرها من الإناث ضحيّةٌ، وهدفٌ سهلٌ للإساءات، بعكسه هو: جانٍ، منيعُ الحصون، وما من أحدٍ يمكنه إيذاؤه، هي واضحةٌ جدّا، ومنكشفةُ الأسرار أمام الغرباء، فلم تكفّ عن الثّرثرة أمام كلِّ رجلٍ تتعرّف إليه عن آلامها الدفينة، ومغامراتها الحميمة، متيحةً له فرصة طعنها، أو ابتزازها، وهو كتومٌ، غامضٌ، حذرٌ، حتّى اسمه أخفاه عنها وعنّا، واستخدم آخر مستعارا، ومع أنّ الكاتبَ لم يهتمّ بوصف مظهره الخارجيّ وهندامه، فإنّه لا يتمثّل لنا إلّا متّشحا بالسّواد، مُغطِّيا عينيْه بنظّارةٍ سوداء: أليس ابنَ اللّيل والظلمات؟
وإلى جانب هذا، عمد الكاتبُ إلى ربط «سميرة» بنموذجيْن أنثويّيْن آخريْن من نسيج المجتمع الجزائريّ: شريفة، وليندة، أولاهما مطيعة إلى حدّ وأد الذات، والثانية متهوِّرةٌ إلى حدِّ الإجهاز عليها، كلتاهما ضحيّةٌ جاهزةٌ للذبح، ويأتي الكاتبُ بها، ليوهمنا باختلافها عنهما؛ فهي متمرِّدةٌ، وتعرف جيِّدا طريقَها، لكنّها سرعان ما تضلّ عنه، وتنضمّ إلى بقيّة رفيقاتها من «الضحايا». ولكنّها مع هذا مختلفةٌ قليلا عن غيرها، لذا لن تموت مثلهم؛ سيختار لها القاتلُ ميتةً شاعريّةً ملتبسةً مثلها، فلا يُدرى إن كانت قتلا أم انتحارا، وسيواصل هو حياتَه بهدوءٍ، عائدا إلى العاصمة ليواصل سلسلة انتقامه.
وممّا يجدر ذكرُه أخيرا أنّ هذه الشخصيّة الإشكاليّة تتعالق كثيرا مع شخصيّاتٍ أدبيّةٍ تضاهيها في القلق، وغرابة الأطوار؛ ما أشبهها في نفورها من البشر وتعطُّشها لدمائهم بأورسترات سارتر؛ ذاك الذي لا يطيق النظرَ إلى البشر إلّا من فوق؛ من الطابق السادس، ولا شيء يُشعره بالأمان أكثر من مسدَّسِه ذي الستِّ طلقات، الذي سيُصوِّبه قريبا صوب العابرين «المقزِّزين»! ما أشبه تبلُّدَ مشاعرها بتبلُّد مشاعر مارسو؛ غريب كامي، الذي لم يهتزّ لموت والدته، ولا حتّى لموته هو القريب. أمّا تلك النهاياتُ المأساويّة المدوِّية التي لاحقت جميعَ الشخوص فما أشبهها بنهايات تراجيديّات سينيكا وشكسبير، أو حتّى كلاسيكيّات راسين وكورناي، التي يُوقِّع ختامَها الموتُ أو الانتحارُ أو الجنونُ، غير أنّ الكاتبَ بالغ قليلا في جرعة التراجيديا، فأتى انتحارُ فاروق، وجنونُ الصادق غير منسجميْن مع دورهما الثانويّ في الرواية، حيث لم تسمح فسحة السرد الموجزَة ببسط عالمهما الداخليّ، الذي دفع بأحدهما للانتحار لأنّ فتاةً رفضته، وبالآخر للجنون لأنّ زوجتَه هجرته، أو لأنّ صديقَه انتحر، أو لأنّ السلطة اضطهدته! ومع هذا لم يختلّ عمقُ هذه الرواية، لأنّ الشخصيّة المحوريّة فيها: «القاتل» أتت في غاية التماسك والمتانة، وبخاصّةٍ في الختام، حيث تأذّى الجميعُ، وانهاروا، ووحده الذي لم يتأذّ، لا لأنّ الكاتبَ متشائمٌ، ومسكونٌ بهاجس أنّ الشرَّ دائما ينتصر، بل لأنّ جوهرَ هذه الرواية يتجاوز المقولات الأخلاقيّة الدارجة، ويرتفع عن ذاك السؤال المكرور حول صراع الخير والشرِّ، وحتميّة انتصار الفضيلة، أو تواريها إلى حين: لقد نجا القاتلُ ولم يهتزّ عالمه لأنّه متصالحٌ مع ظلامه، مُسلِّمٌ به، عكس الآخرين الذين تتأرجح أرواحُهم بين النور والسواد، وترتدي وجوهُهم أقنعةً غير محكمَةٍ، تسقط تباعا. ولكنْ: هل النّجاة هي في السلامة من الموت؟ والانهيارُ في الوقوع فيه؟ هل القتلُ في هذه الرواية جريمة؟ أم أنّه فقط رمزٌ لتفكّك الذات والانفصال عن العالم؟