تدعم متحف قسنطينة العمومي مؤخرا، بقاعتين جديدتين تعنى الأولى بحقبة ما قبل التاريخ، وتضم الثانية أثريات من صومعة الخروب الشهيرة، حيث يوثق الرواق الطويل الذي تشكلانه معا، لتاريخ الجزائر القديم ويبرز ارتباطها الإنساني بتطور الحياة في منطقة شمال إفريقيا عموما، بوصفها واحدة من الأراضي التي تحمل دلائل على أن القارة هي رحم البشرية.
أسماء بوقرن
تعرض على مستوى القاعتين، تحف أثرية ونصب وأثاث جنائزي بطريقة حديثة وبإنارة مدروسة، تسمح بتبيان قيمة التحفة وأدق تفاصيلها، فضلا عن بطاقات تقنية وصور توضح بدقة المعلومات المتعلقة بها وفق قراءة أثرية تاريخية وتسلسل زمني منظم، يريح الزائر من جلبة السؤال ويجعله يسافر بمخياله إلى أزمنة غابرة.
الصومعة تفصل في جدلية ضريح ماسنيسا
وقد انتهج الفريق التقني للمتحف، استراتيجية حديثة في العرض هدفها تقديم تجربة ثرية ومفيدة لزائره، تحضيرا لتدعيم الفضاء بقاعة جديدة مخصصة لقسنطينة في مرحلة ما قبل التاريخ، حيث جاءت العملية حسب رئيس مصلحة الاتصال بالمؤسسة المتحفية عبد المجيد بن زراري، في إطار مخطط تهيئة لقاعات المتحف انطلق سنة 2017، بغرض إعادة تأهيل متحف سيرتا وتطوير أساليب العرض مع تغيير الإضاءة لإبراز التحف، وتوفير بطاقات تقنية علمية دقيقة ومفصلة أكثر وضوحا، تقدم قراءة زمنية ورسما مفصلا يشرح رمزية القطعة ويبرز قيمتها التاريخية. وقد اعتمد فيها نمط واضح ومثير في الكتابة لترسيخ المعلومات في ذهن الزائر، علما أن الأشغال الجديدة لا تزال جارية و تتم بإشراف من مدير المتحف العمومي سيرتا خليل جعطاط، وهو مختص في حقبة ما قبل التاريخ، يعمل بالتنسيق مع فريق شامل التخصصات يضم ملحقين بالحفظ ومرمم الآثار بوبكر بوكبس، الذي يشرف بدوره على صيانة بعض التحف لتكون مناسبة للعرض.
يتكون الفريق كذلك، من مختص في تصوير القطع، وحسب بن زراري، فإن طريقة العرض الحديثة حققت الغرض منها و قد شدت انتباه زوار القاعتين.
تؤكد الأبحاث كما أوضح مرافقنا في جولتنا داخل القاعتين، أن صومعة الخروب، تعود لملك من ملوك نوميديا، فيما تبقى فرضية أن تكون لماسنيسا أو ابنه ميسيبسا قائمة شريطة التأكيد، مشيرا إلى أن التسمية الأصلية لهذا المقام هي الضريح الملكي لصومعة الخروب، ويتعلق الأمر بمعلم أثري فريد من نوعه في شمال إفريقيا، يعود لفترة مهمة من تاريخ الجزائر وهي المرحلة النوميدية، ما يؤكد أن المعلم لأحد ملوك نوميديا القديمة.
وحسب دراسات أجريت سنة 1979 من قبل باحثين ألمان، تحت قيادة «راكوب»، واعتمدت على التحليل الكربوني لعظام متكلسة وجدت في وعاء زجاجي داخل الغرفة الجنائزية، فإن الأثريات تعود قطعا لذكر يمكن أن يكون فتى يافعا.
قراءة أثرية جديدة للأثاث الجنائزي
أشار محدثنا أيضا، إلى عملية إعادة قراءة لهذا الأثاث الجنائزي الفريد من نوعه في شمال إفريقيا وفي المتاحف الجزائرية عموما، و الذي كان مدمجا في وقت سابق مع الأثاث الموجود بقاعة النوميدوبونية، قبل أن تقرر إدارة المتحف إخراجه لتبرز أهمية صومعة الخروب، عن طريق عرضه في قاعة منفردة لتمكين الزوار من التعرف على مختلف القطع التي وجدت بهذا الضريح، الذي لا يزال محافظا على غرفته وأثاثه الجنائزي، فتخصيص قاعة من شأنه كما قال، تثمين الفترة النوميدية المميزة في تاريخ الجزائر، عبر إضفاء لمسة علمية حديثة على طريقة العرض.
ومن بين القطع التي أخذت حيزا كبيرا من العرض، عتاد حربي لفارس نوميدي، يتمثل في سيف من مادة البرونز يعود للقرن الثاني قبل الميلاد، وخوذة من البرونز ورماح وبوق للنداء في الحروب مصنوع من الفضة. كما تعرض على واجهة أخرى صدرية حديدية كانت تلبس على قميص من الجلد، وأوسمة برؤوس حيوانات تمثل الرتب العسكرية آنذاك، منها وسام من الفضة يظهر رأس لبؤة وهي الربتة الأعلى، وآخر لإله البحر بوسيدون، ووسام على شكل رأس أيل، فضلا عن أنصاب بونية اُكتشفت في معبد الحفرة بقسنطينة سنة 1950، عليها خوذة مدببة ودرع بيضوي وسيف وذرع دائري ودبوس.
كما يعرض في القاعة نصبان نذريان بونيان من الحجر الكلسي، يشيران إلى السنة 11 و 46 من حكم ماسنيسا، حسب ما تدل عليه الكتابات المنقوشة عليه، المترجمة إلى العربية في بطاقة تقنية.
دونت على نصب آخر يزين الفضاء، أسماء أبناء ماسنيسا الثلاث وهم، مكسون وغلوسن ومستنبعل، كما وجدنا في القاعة وعاء من الفضة أعيد تشكيله.
دلائل على توسع العلاقات التجارية منذ القدم
وتعد الخبايا الرودية من شواهد ضريح صومعة الخروب، ودليلا على وجود علاقات خارجية وازدهار التبادل التجاري خارج البحر المتوسط، وهو ما تؤكده أنفورات إيطالية معروضة بالقاعة، كانت بمثابة حاويات لنقل المنتوجات عبر السفن، و تتخذ بالعموم شكل جرة مدببة من الأسفل لتثبت في السفينة.
حملت أمفورة ختم الخزاف مينوثيميس، وأصلها كما أوضح بن زراري، من جزيرة رودس في بحر إيجة، كما تحمل أختاما على القسم الأعلى للمقابض، وقد حسبه فإن الأمفورات الإيطالية والرودية، شاهد على توسع علاقات نوميديا التجارية مع شبه الجزيرة الإيطالية وبلاد الإغريق.
قاعة ما قبل التاريخ و كرونولوجيا التحف
كانت قاعة ما قبل التاريخ في السابق، عبارة عن محتوى أبحاث بقايا حفريات في مشتة العربي أو الطاسيلي، و تشمل قراءة زمنية كرونولوجية، وهو ما تم مراعاته عند إعادة التهيئة. يقول عبد المجيد بن زراري، بأن الالتزام بالتسلسل الزمني في طريقة العرض عامل مهم جدا في استقطاب الزائر ومحفز رئيسي للاطلاع على ما تكشفه كل مراحل حقبة ما قبل التاريخ، حيث وقفنا على الترتيب المحكم للتحف والقطع الأثرية المعروضة في واجهات زجاجية مضيئة، وأخرى تتوسط القاعة.
هنا يجد الزائر نفسه أمام آثار اكتشفت على يد الباحث دوبروج سنة 1933، في موقع عرق تيهوداين بإليزي، حيت تتوفر إلى جانبها صورة له رفقة شخصين آخرين يقومون بحفريات في الموقع.
تعرض في القاعة حجارة مصقولة مشكلة كفأس تستعمل في الحفر وأخرى لقطع اللحوم والتقشير، ناهيك عن قطع خزفية للزينة، فضلا عن شقف خزفية مزينة، و قطعة حجرية من «الريوليت» تسمى بذات الوجهين، كان الإنسان يستعملها كفأس للحفر، فيما تعرض الواجهات الزجاجية آثارا من موقع أثري ووجدت فيه دلائل على تطور حياة الإنسان، مثل أدوات صقل عظام الحيوان والبشر وتحويلها إلى سهام للصيد وإبر للخياطة و التغذي على الحلزون، كما توجد صخرة صغيرة عليها قواقع حلزونات، وسكاكين من الحجارة لتقطيع الطعام، كما اعتمد على مغارات حمراء للدباغة الجلود.
كهف بوزبوين وتطور حياة الإنسان
توثق آثار جمعت من كهف بوزبوين، بعين مليلة بأم البواقي مراحل تطور حياة إنسان ما قبل التاريخ، وتبرز مطحنة للحبوب، و قشور بيض نعام نقش عليها رأس النعام، وتميمة للزينة من درقة السلحفاة، وسكاكين حادة للقطع، وبعض الأواني المستعملة في تناول الطعام، وبقايا بعض الحيوانات. كما تبرز في القاعة لافتة حائطية عليها أسماء المواقع الأثرية القديمة وعمرها الزمني، أبرزها موقع عين حنش بولاية سطيف، وهو واحد من أقدم المواقع الأثرية التي تعود إلى ما قبل التاريخ في شمال إفريقيا و العالم، وقد وجدت به «كريات عين الحنش متعددة الأوجه» كما تعرف و هي أثريات تؤرخ لـ 1.8 مليون سنة، وتمتد للعصر الحجري القديم الأسفل. تبرز الحجارة الجبلية استخدام الإنسان لمادة السيلاكس، التي تتحول إلى أداة حادة جدا عند صقلها، وهذه الحجارة دليل على قدم وجود الإنسان في بلادنا، وتطور حياته مرورا بالعصر الحجري القديم الأوسط، والعصر الحجري القديم الأعلى، والعصر الحجري الحديث، الذي يميزه تطوير رؤوس السهام وتنوعها بحسب استعمالاتها، حيث أن كل سهم مخصص لاصطياد حيوان معين، ناهيك عن تطور صناعة الحلي، وقد خصصت واجهة زجاجية في القاعة لعرض الأساور والعقود المصنوعة آنذاك، منها عقد من المرجان، وآخر من قواقع الحلزون وجواهر من العتيق وعقد من قشور بيض النعام وعقد من العظام البشرية والحيوانية.
وخصصت رفوف آخرى لعرض تطور أدوات الصيد ولخريطة مواقع موارد السفن ما قبل التاريخ، إلى جانب أسطوانات فخارية للصيد، ومعادن طبيعية لاستخراج ألوان واستعمالها في التزيين، وهي آثار جمعت من ملاجئ موارد السفن ببجاية سنة 1903.
كما خصصت مساحة من العرض للثروة الحيوانية التي كانت تزخر بها البلاد منذ القدم، منها بقايا حيوانات منقرضة كالضبي الوحشي، الذي عثر على جمجمته في قسنطينة. وبقايا للجاموس العتيق، عثر عليها بواد سقان بميلة.
عرضت على الواجهة أيضا، صورة لنقوش صخرية لذات الحيوان إلى جانب صورة لفيل الروك، وآثار تتمثل في ضرس وعظم مشط قديم وعظم الكاحل وجدت في الطاسيلي.
تزخر مدينة قسنطينة، بمواقع أثرية تؤرخ لوجود إنسان ما قبل التاريخ، ولعديد المحطات المرتبطة بتلك الحقبة، وتعد الكهوف أكبر شاهد على ذلك، مثل كهف الحمام و كهف الأروي وكهف الدببة، ومحطة جبل الوحش والمنصورة التي وجدت بها بقايا نشاط بشري.
وحسب بن زراري، فإن عملية تهيئة القاعات مستمرة ومن المزمع أن يتم افتتاح قاعة جديدة بعد ثلاثة أشهر من الآن، لإبراز الخصوصية الأثرية لمدينة الصخر العتيق، وما تخفيه من الآثار والبقايا والتحف الأثرية. أب