* الثورة بعظمتها ستظل ملهِمة والمقــاربات الجمالية والـدرامية ستبقى مفتوحـة
يرى الناقد والأكاديمي الدكتور مخلوف عامر، أنّ الثورة التحريرية بعظمتها ستظل ملهِمة والمقاربات الجمالية والدرامية ستبقى مفتوحة. مُؤكداً في هذا السياق أنّه بقدر ما تكون الثورة مرجعاً ومصدر إلهام على الدوام، بقدر ما تظهر أعمال تتناولها بوصفها موضوعاً أساسياً أو عارَضاً. مشيراً أيضاً إلى أنهّ في سبعينيات القرن الماضي كان الخطاب السياسي/الإيديولوجي يتصدَّر واجهة العمل الأدبي ولكنّه صار في الوقت نفسه عتبة اِرتكز عليها الكُتّاب ليُعيدوا للنص الأدبي أدبيّته.
حوار: نــوّارة لحــرش
صاحب «الكتابة لحظة حياة»، تطرق أيضا إلى علاقة الجيل الجديد من الكُتّاب بالثورة التحريرية. موضحاً في هذا المعطى، إلى أنّ تيمة الثورة تغيب في كتابات الجيل الجديد إلى حدٍّ كبير. مُرْجِعًا السبب الأوّل في عزوف الجيل الجديد عن تناول تيمة الثورة إلى بُعْد المسافة الزمنية عن الثورة، وبالتالي لم تعد تُلقي بظلالها على الجيل الجديد كما في السابق، أمّا السبب الثاني فيعود -حسب رأيه دائمًا- إلى أنّ التحوّلات الكبيرة التي عرفها العالم بِمَا فيها التطوّر التكنولوجي المُذهل قد أثرت في ميول الجيل الجديد فلم تعد الثورة بالنسبة إليه سوى حدث عادي من الماضي. الدكتور عامر تحدث أيضا عن شؤون وموضوعات أخرى ذات صلة بالثورة والأدب والرواية.
للإشارة الدكتور مخلوف عامر، أكاديمي ونقاد، له إسهاماته النقدية التي واكب من خلالها المشهد الأدبي الجزائري: «روايةً، قصةً، وشِعراً». كما أسهم منذ سبعينيات القرن الماضي في التعريف بالكثير من الأسماء الأدبية الجزائرية. وله العديد من المؤلفات والإصدارات في النقد الأدبي والدراسات والمقالات. ومن بين إصداراته: «تدريس العربية وآدابها: دعوة إلى التجديد»، «مراجعات في الأدب الجزائري»، «الهُوية والنص السردي»، «مظاهر التجديد في القصة القصيرة بالجزائر»، «ألوان من الحكي»، «تطلعات إلى الغد: مقالات في الثقافة والأدب»، «تجارب قصيرة وقضايا كبيرة: دراسات في القصة والرّواية»، «الرّواية والتحوّلات في الجزائر»، «متابعات في الثقافة والأدب»، «توظيف التراث في الرّواية الجزائرية»، «الواقع والمشهد الأدبي»، «قراءة جديدة في نصوص قديمة»، «الكتابة لحظة حياة»، «تطبيقات في الأدب القديم»، «مناهج نقدية». وغيرها من الكُتُب في النقد والأدب والتي صدرت عن دور نشر جزائرية وأخرى عن دور نشر في بعض الدول العربية.
بعض الأعمال لا تخلو من شحنات درامية وبعضها اِهتمَّت بإبراز الجانب المُغيَّب من الثورة
مرت منذ أيّام ذكرى 11 ديسمبر 1960. وبهذه المناسبة يتكرر سؤال الأدب وموضوعات الثورة وأحداثها. فهل ما كُتِبَ حتّى الآن يرقى إلى المستوى الفني والبطولي والتاريخي والإنساني لهذه الموضوعات. هل هناك أعمال أدبية أو روايات جسدت بعض الشحنات الدرامية للثورة وأحداثها باِمتيازات فنية ملحوظة؟
- مخلوف عامر: لا يمكن الجزم برقي الكتابة إلى المستوى المطلوب، كما لا يصح التعميم أيضاً. إذ بعض الأعمال لا تخلو من شحنات درامية وبلغة فنية راقية إنْ في الكتابات التي اِقتصرت على تجسيد البطولات على نحو مثالي، أو تلكم التي اِهتمَّت بإبراز الجانب المُغيَّب من الثورة وأحداثها. من ذلك تمثيلاً لا حصراً، رواية: ((اللاز)) للطاهر وطار و((طيور في الظهيرة)) لمرزاق بقطاش و((ذاكرة الجسد)) لأحلام مستغانمي و((على جبال الظهرة)) لمحمّد ساري.. وغيرها من الكتابات التي صوَّرتْ مواقف درامية سواء من خلال السجن والتعذيب أو بتصوير ما وقع من تصفيات جسدية بين «الإخوة الأعداء» أو بالكشف عن مُمارسات تنكَّرت للمبادئ التي قامت من أجلها الثورة.
لكن وبالنظر إلى أنّ التجربة الروائية في بلادنا عمرها قصير بالقياس إلى غيرها، وأنّ الكُتَّاب باللّغة العربية لم يستفيدوا من معارك نقدية غنية ولا من ترجمات كافية ولا من مناهج تعليمية تجعلهم يحتكُّون بروائع الأدب العربي والعالمي، فيمكن القول إنّهم في أغلبهم عصاميون اِستطاعوا في زمن قصير أنْ ينتجوا نصوصاً لا تقلُّ جودةً عمّا عُرِف في الأدب العربي المُعاصر. فأمَّا الثورة بعظمتها فستظل ملهِمة والمقاربات الجمالية والدرامية ستبقى مفتوحة. على العموم، أعتقد أني تابعتُ الكتابة الروائية في محاولات نقدية مُتعدّدة منذ بداياتها إلى ما صدر منها في مطلع الألفية الثالثة. ولا أدَّعي أني اِطلعتُ على كلّ ما أُنتج طيلة عقود من هذه التجربة. لكني أرى بقدر ما تكون الثورة مرجعاً ومصدر إلهام على الدوام، بقدر ما تظهر أعمال تتناولها بوصفها موضوعاً أساسياً أو عارَضاً. وكلّ قراءة نقدية غايتها أن تستنطق وتتمثَّل، لكن الأمر يتوقَّف على مدى تمكُّن القراءة النقدية من الغوص في أعماق النص ثمّ الاِنسحاب منه لتحريكه في رحابة ذهنية اِستناداً إلى أدوات اِبتكرتها المدارس النقدية القديمة والمُعاصرة. ومهما تكن طبيعة هذه القراءة، فإنّها تبقى محدودة بإمكانات القارئ/الناقد، من حيث مستوى تكوينه ووعْيه.
الثورة ستظل معيناً لا ينضب لكن اِستدعاءها يشترط تجاوز ما كُتب عنها حتّى الآن
هل يمكن القول إنّ الثورة اِستنفدت كلّ وهجها في روايات الجيل السابق من المؤسسين للرواية الجزائرية؟
- مخلوف عامر: إنّ أيَّ موضوع مهما طال به القِدَم، لا يمكن أن ينفد. ذلكم هو حال قضية الحرية والمرأة والفقر والاِستبداد وغيرها من قضايا المجتمع والحياة. وميزة الأدب أنّه يمنحها نكهة جديدة. حيث يُوفر الأديب لنصِّه ما أمكن من الأدوات الفنية والخيال والبنية المتفرِّدة والتشويق. فينقلنا إلى عالم خاص تبدو فيه الأشياء المألوفة وكأنّها غير مألوفة. والثورة ليست اِستثناء في هذا. فهي ستظل معيناً لا ينضب. لكن اِستدعاء هذه الثورة وحمولاتها يشترط تجاوز ما كُتب عنها حتّى الآن. وليس ذلك بيسير ما دُمنا نتحدَّث عن الإبداع والتفرُّد.
تغيب تيمة الثورة في كتابات الجيل الجديد إلى حدٍّ كبيـر
وماذا عن علاقة الجيل الجديد من الكُتّاب بالثورة التحريرية؟ هل اِستفاد من تيمتها في كتاباته، هل اِستلهم منها أو قاربها؟
- مخلوف عامر: تغيب تيمة الثورة في كتابات الجيل الجديد إلى حدٍّ كبير. فباِستثناء رواية عبد الوهاب عيساوي: ((سيرا دي مويرتي 2005)) ورواية محمّد بن جبار: ((الحَرْكي 2016)) وقد نظر كلاهما إلى جانب من ثورة التحرير من زاوية مختلفة تماماً وغير معهودة، لم أصادف من بين ستين نصّاً صدر في مطلع الألفية الثالثة، سوى ثلاثة نصوص تُثير موضوع الثورة على نحو عابر من قِبَل ثلاثة كُتَّاب من الجيل السابق. ولعلَّ ذلك مردُّه إلى جملة من الأسباب:
الأوّل: يتمثل في بُعْد المسافة الزمنية عن الثورة، فلم تعد تُلقي بظلالها على الجيل الجديد كما في السابق، والثاني يعود إلى أنّ العشرية الدموية في تسعينيات القرن العشرين قد طغت على الساحة حتّى اِجتذبت إلى الكتابة الروائية مَن ليست لهم علاقة بها. وأخيراً لا شك أنّ التحوّلات الكبيرة التي عرفها العالم بِمَا فيها التطوّر التكنولوجي المُذهل قد أثرت في ميول الجيل الجديد فلم تعد الثورة بالنسبة إليه سوى حدث عادي من الماضي.
الجيل الجديد ينطلق من الذات أساساً لكنّه لم يستطع أن يتغاضى عن القضايا الاِجتماعية الضاغطة
وهل تجاوزها وتخطاها بذكاء إلى موضوعات وتيمات أخرى يراها أكثـر راهنية وأكثـر أحقية في التناول والطرق والطرح والمكاشفة مثل الذات والهوية والوجود وصراعات الحياة والقضايا الاِجتماعية.. وغيرها؟
- مخلوف عامر: إنّه جيلٌ ينطلق من الذات أساساً، لكنّه لم يستطع أن يتغاضى عن القضايا الاِجتماعية الضاغطة. فهذه تبقى المُحرِّك الأقوى للكتابة. ونادراً جداً ما نعثر على نص في الهوية أو فلسفة الوجود. فالتراث العربي الإسلامي مثلاً اِستمرَّ حاضراً بقوّة في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، لكنّه كاد يختفي فيما صدر بعد عام ألفيْن. ربّما تكون وسائل التواصل الاِجتماعي وتراجع الإقبال على الكِتاب من أهمِّ الأسباب التي جعلت الشباب يزهدون في مطالعة الكُتب الفكرية العميقة. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ الكُتَّاب من الجيل السابق واللاحق قد اِستطاعوا أن يوظِّفوا تقنيات السرد المختلفة كاختيار العناوين والاِسترجاع والمناجاة وكسر التسلسل الزمني وتعدّد الأصوات وشِعرية اللّغة والاِهتمام بالمُناص...
هل يعني هذا وجود قطيعة بين الجيل الجديد من الكُتّاب والثورة الجزائرية؟، وأنّ هذا الجيل يعتبر نفسه معفيًا من الخوض في هذا الشأن، لأنه يرى أنّ الجيل الّذي سبقه قد أدى دور كتابة الثورة؟
- مخلوف عامر: إنّ التجربة الأدبية لا تعرف قطيعة تامة، إذ لا يمثل الجيل الجديد سوى حلقة في سلسلة من التراكمات السابقة، وقد ظل الواقع وما يجري فيه من تحوُّلات هو الخيط الرابط بين حلقاتها. فشهدنا في هذه التجربة صورة الثورة بألوان مختلفة ثمّ النهج الاِشتراكي ثمّ ما تبع ذلك من تغيُّرات إلى اليوم.
ففي سبعينيات القرن الماضي كان الخطاب السياسي/الإيديولوجي يتصدَّر واجهة العمل الأدبي ولكنّه صار في الوقت نفسه عتبة اِرتكز عليها الكُتّاب ليُعيدوا للنص الأدبي أدبيّته. فإذا كان بريق الثورة قد أفل في الكتابة الجديدة فلأسباب ذُكرت أعلاه وليس لأنّ هذا الجيل يرى نفسه مُعفى من الخوض في هذا الموضوع أو لأنه دورٌ أدَّاه الجيل السابق. فلا أظن أنّ الكاتب لحظة الكتابة يفكر في موضوع يبدو مُستهلَكاً، بقدر ما ينصت إلى ما يُمليه عليه إحساسه وواقعه المُستجد. كما يُفكر في شكل القول الأدبي الّذي يراه مُناسباً.
ن.ل