عبرت الصورة منذ القدم عن الإنسان، وجمعت المواقف المؤثرة التي يمر بها في شكل ذكريات يعود إليها كلما زاره الحنين، أما في العصر الحالي فقد تطور التصوير الفوتوغرافي بفضل توفر الهواتف الذكية وآلات التصوير التي فجرت مواهب شباب، أصبحت عدساتهم تبدع لوحات فنية يقف المشاهد أمامها مطولا باحثا عن القصة خلف اللحظة التي جمدتها «الكاميرا»، أو حاملا حقيبته زائرا المدينة أو الشارع الذي وثقه المصور.
إيناس كبير
يتحدث مصورون فوتوغرافيون تحدثهم إليهم «النصر»، عن يومياتهم في شوارع مدنهم ونظرتهم الفنية إلى المواقف التي تصادفهم، فضلا عن مشاركتهم في صناعة سعادة الناس من خلال توثيق لحظاتهم المفرحة، حيث تتجول عدسات آلاتهم في الشوارع لتلقط موقفا مؤثرا، أو تغوص في الذات الإنسانية لتنقل مشاعر وأحاسيس أشخاص حجبتهم زحمة الشوارع عن الأنظار، فتزيح الأقنعة عن تلك الوجوه لتغوص في تفاصيل الملامح والنظرات، فتُخرج منها قصصا سعيدة وأخرى محزنة، دون أن تنسى رد الجميل للمدن التي فتحت أمامها مجلدات الحياة فتهديها صورا تبرز جمال شوارعها وعمارتها.
الضوء والضلال لغة التصوير الفوتوغرافي
يقول المصور الفوتوغرافي كريم بلفاسي من ولاية قسنطينة، إنه دائم السؤال عن القصة خلف الصور التي توثق ذكريات عائلته، أو تلك التي التقطها بنفسه سواء لمدينته أو للمواقف والشخصيات التي صادفت عدسته، فآلة التصوير بالنسبة إليه هي عين تروي قصصا حقيقية، وفي لحظة ما يدرك الشخص أن الصورة ليست مجرد لقطات مجمدة، و إنما هي نافذة لعوالم أخرى شكلتها لغة الضوء والضلال.
يضيف، أن كل زاوية من ولاية قسنطينة تسرد حكاية إذ تربطه بالمدينة القديمة على سبيل المثال، علاقة خاصة على حد تعبيره، لأنه يحاول أن يعيد جمع شتاتها من خلال كل صورة لكل جزء منهار أو صامد منها وعند العودة إلى الصور يحاول البحث عن اللقطات التي تشكل قصة المكان، حيث أعقب قائلا :»مثلما هو الحال مع «الملاية» هذا اللباس الذي يشكل جزءا من ماضي قسنطينة ثم غاب عن مشهد يومياتها، قد يلتقي به المصور لمرات معدودة في ذلك المكان العتيق».
أوضح أن لقطات «البورتريه» مختلفة، و تتحدث حسب الشخص الذي يصنعها، فملامح البعض تصف المعاناة، وترسم ملامح أخرى الابتسامة و الفرح، وقد ذكر على سبيل الحصر، صورة التقطها لطفلة مهاجرة من مالي، قال إن الابتسامة لا تغيب عن محياها و قد بقيت ملامحها مغروسة في ذاكرته، فقرر الاحتفاظ بها لنفسه وكلما نظر إليها ابتسم مرة أخرى.
وعن التقنيات التي تشكل جمالية الصورة، أفاد المصور الفوتوغرافي أنه يختار الوقت المناسب الذي يحولها إلى لوحة خالدة، فاللقطة المصورة صباحا لا تعطي التفاصيل ذاتها عن أخرى وُثقت زوالا أو في المساء، كما يركز على عناصر أخرى اعتبرها مهمة، مثل الإطار والإضاءة التي يحرص على ضبطها، وكذا المعالجة التي تضيف إلى الصورة قيمة فنية.
وتلقى الصور التي ينشرها على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي تفاعلا كبيرا، كما تصله رسائل تشجيعية شاركنا بعضا منها، يقول إن متابعيه سواء من داخل قسنطينة أو خارجها، يجدون الأمل دائما في صمود بعض معالم المدينة القديمة من خلال الصور التي ينشرها، خصوصا وأنه يقدمها بشكل جميل، ويضيف أن بعض الناس اكتسبوا عادات جديدة أيضا، فعلى سبيل المثال عندما يظهر كتاب معين بطريقة جذابة في صوره، يزور متابعوه المكان ذاته بحثا عن الشخص أو لعيش نفس التجربة.
وقد ساهم العصر الرقمي، وفقا للمصور الفوتوغرافي كريم بلفاسي، في انتشار فن تصوير حياة الشارع على وجه الخصوص مع التطور الذي عرفته الهواتف الذكية وتوفرها، ما سمح للشباب بدخول هذا المجال ولو بدافع الفضول أو تجريب شيء جديد، وأردف المتحدث أن هناك من استغله بشكل جيد كالترويج السياحي للمدينة التي ينتمي إليها وتسليط الضوء على مواضيع إيجابية.
البورتريه يعكس روح الإنسان
ترى المصورة الفوتوغرافية سلمى دلول، من ولاية تبسة، أن كل صورة تلتقطها هي وسيلة تعبيرية عن مشاعرها وأفكارها تؤثر من خلال تفاصيلها بالناس وتخاطبهم بلغة فنية.
ويعد الشارع بالنسبة لها متحفا إنسانيا مفتوحا على مواضيع عديدة عن الأمومة، والإنسانية، والصداقة، فالمصور هناك بحسبها، يلتقي مباشرة بحياة الناس ويومياتهم، والمشهد الذي يتعامل معه المارة على أنه خال من أية دلالة تراه المصورة الفوتوغرافية قصة مشبعة بالمشاعر تفصح عنها من خلال عدستها.
وتفضل سلمى، الصور العفوية التي قالت إنها تكون أصدق وتتضمن مشاعر طبيعية، لذلك تفضل أن تضيف تعديلات بسيطة عليها لتحسينها مثل تعديل الإضاءة أو التباين لتبرز تفاصيلها بشكل أفضل، أو تجعلها بالأبيض والأسود لتصبح أكثر عمقا، أو تزيل بعض العناصر المشوشة التي تشتت الانتباه، فالأهم بالنسبة لها هو الحفاظ على أصالة الصورة التي تحمل الرسالة.
وتقول أيضا، إنها تركز كثيرا على الإضاءة، والألوان والحركة، والرسالة التي تحيل إلى الإحساس الذي خالجها ودفعها إلى إخراج آلة التصوير لتخليد اللحظة، فكل صورة تلتقطها يجب أن تعبر عن فرح، أو حزن، أو لحظة تأمل مسروقة من ضجيج الأيام.
وعلقت قائلة :» إن الصورة الفنية ليست مجرد لحظات مجمدة، فهي خاصة بالقلوب بدرجة أولى»، لذلك تضع مشاعرها في كل صورة تلتقطها، ومن الصور التي عاشت تفاصيلها، تقول إنها في يوم قاس من أيام الشتاء عادت كعادتها من العمل تقاوم الإنهاك، فصادفها متسول يجلس على قارعة الطريق كانت ستُحجم عن التقاط صورته مخافة أن يخرب المطر عتادها، غير أنها لمست غرابة في نظراته أوحت إليها أنها لا تواجه مجرد هدف للكاميرا، بل إن تفاصيل وجهه حاورتها بشيء من الأُنس بعد وحدة قاهرة، وبعد التقاطها لصورته آثرها عن نفسه بهدية رمزية كعربون امتنان عن نيله جلسة تصوير مجانية أدفأت روحه.
ويمثل «البورتريه» النوع التصويري الأقرب لقلب كل فنان حساس وفقا للمصورة الفوتوغرافية، فقد اعتبرته عاكسا لحقيقة الإنسان وكل وجه يحكي قصة كما تحمل العيون تجارب حياة بأكملها، مضيفة أن هذا النوع من التصوير يفتح الباب للتوغل أكثر في نفسية الإنسان ولذلك فهو ليس مجرد توثيق لتفاصيل بسيطة، بل لقاء حميمي مع الروح يجعل الارتباط بين الشخص والمصور عميقا.
وقد صُنف «بورتريه» لسلمى دلول، التقطته لمسنة من ولاية تبسة تدعى «ثلجة التبسية» ضمن أفضل 15 صورة في مسابقة على موقع روسي، وفي حديثها عن الصورة، قالت إنها تعود لمتسولة معروفة في كل الولاية تختلف الروايات حولها بين من يقول إنها كانت أستاذة أو صحفية انقلب حالها ومن يروي عنها حكايات أخرى، وبالرغم من أنها كانت تعيش في الشارع و الجميع يعرفها، إلا أن صورتها تلك حققت صدى واسعا داخل المدينة.
وفي سياق متصل، ترى الشابة أن مواقع التواصل الاجتماعي مكنت الصورة الفنية من الانتشار، فالتكنولوجيا وفقا لها، لم تغير الجودة فحسب بل حولت التصوير الفوتوغرافي إلى فن حقيقي يعكس أفكار المصورين من خلال أساليب مبتكرة.
عدستي تكشف عن مدينة جديدة
تحترف المصورة الفوتوغرافية نجمة حميدي، ابنة ولاية تلمسان التصوير رفقة فريق من أصدقائها يجوبون شوارع المدينة باحثين عن قصص توثقها عدساتهم، وفي كل جولة تصويرية تكتشف أشخاصا جددا وحكايات مختلفة بالرغم من معرفتها الجيدة بكل الأزقة.
تقول محدثتنا، إن ما يميز التصوير في ولاية تلمسان هو التنوع الذي تزخر به فضلا عن هندستها المعمارية التاريخية، لذلك توجه عدستها نحو الزوايا التي لها علاقة بالحرفيين مثل النساجين، وحتى الباعة في الأسواق، وكذا الأبواب والنوافذ العتيقة، وبشكل عام تصور كل ما ينال إعجابها، كما تنقل يوميات التلمسانيين خصوصا البسطاء منهم.أخبرتنا، أنها تفضل أن تلتقط صورا بزوايا مختلفة لمعالم رأتها سابقا، بالإضافة إلى إعادة تقديم بعض البنايات المهملة من خلال منظور مختلف يظهر الجانب الجمالي للمكان.
وعن الصورة الأقرب إلى قلبها ذكرت نجمة، صورتين إحداهما تعود لمسن من تونس التقت به في قلعة « المشور»، أخبرتنا أنه يملك وقارا يوحي بشخصيته المثقفة التي اكتشفتها من خلال حديثها إليه، حيث علمت منه أن الحنين يحمله إلى المكان كل سنة، أما الصورة الثانية فهي لرجل يرتدي «قشابية» ويطل برأسه من جرف بقرية مهجورة تُعرف بـ»بني بحدل».
وترى المصورة الشابة، أن انتشار التصوير خصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي أثر على نظرة الناس إلى الصورة، و حسن الذائقة الفنية لقطاع منهم بفضل اجتهاد المصورين في إبراز التفاصيل الجميلة.
أوثق المشاعر بطريقة فنية
والصورة الفنية لا تخص الطبيعة أو «البورتريه» فحسب، بل تأثر بها الناس وأصبحت تميز ألبومات حفلاتهم و مناسباتهم الخاصة، وفي حديثنا مع المصورة الفوتوغرافية، المختصة في تصوير الحفلات بشرى منال سويسي، وصفت التصوير بالفن قبل أن يكون توثيقا لأجواء أو لحظات معينة، لذلك فقد جمعت بين الخاصيتين في عملها لتقدم صورا حية تعيد للذاكرة المشاعر والأحاسيس التي عاشها أصحابها في تلك المواقف.
وتركز بشرى على لغة الجسد، والحركات العفوية لتخطف عدستها حضنا سريعا أو ابتسامة. ولتحقق مرادها من الصورة أوضحت محدثتنا، أنها تعتمد على العلاقة التي تتكون بينها وبين العروس، فقبل أن تبدأ العمل تحاول أن تجعلها تشعر بالراحة وكأنها صديقتها، ثم تترجم تلك العفوية في صورة أو «فيديو»، لذلك فإن التعليقات التي تصلها عن صورها تركز في مجملها على قوة انعكاس المشاعر الصادقة.
وتبدع المصورة من خلال أفكار مبتكرة في جلسات التصوير، فقد حدثتنا عن صورة لزوجين التقطتها لهما في ساحة مسجد الأمير عبد القادر وكانت بزاوية متناظرة يشعر من يراها كأنهما شخصان اتخذا مسارا واحدا للوصول إلى ما يصبوان إليه. وبالرغم من أن التكنولوجيا طورت مجال التصوير الفوتوغرافي خصوصا في جانب برامج المعالجة التي تساعد المصورين على تقديم أفضل الصور و»الفيديوهات»، إلا أن بشرى تبقى من أنصار الصورة الحقيقية التي لم يُبالغ صاحبها في معالجتها وإدخال مؤثرات كثيرة عليها تقتل القصة التي تتضمنها كما قالت.
إ.ك