الاثنين 16 سبتمبر 2024 الموافق لـ 12 ربيع الأول 1446
Accueil Top Pub

كيف نقل الكِتاب المدرسي الثورة للأجيال؟

كيف هي "ثورة التحرير في الكُتب المدرسية الجزائرية"، كيف كانت صورتها، ومستويات أحداثها وتاريخها، و نضالات وتضحيات شعبها. كيف حضرت؟. وكيف تجسدت "الثورة" كمعطى نضالي وبطولي في النصوص المدرسية، وفي المنظومة التربوية ككل، هل كانت مشرقة وأضاءت على مرحلة مفصلية وفارقة في تاريخ الجزائر، أم كانت ظلا باهتا وهزيلا، ومجرد صورة غائمة لم تعط الثورة حقها وقيمتها كما يجب؟.
وما مدى نجاح النص المدرسي في تقديم صورة الثورة بكل أبعادها وحقائقها ووقائعها، وخلفياتها المعرفية والتاريخية كموروث رمزي يُلهم الطفل/التلميذ والطالب الجزائري ويقوي اعتزازه الوطني وفخره بهويته؟، ومن جهة أخرى هل ارتقى النص المدرسي إلى مستوى التبليغ الجيد لحدث الثورة بأبعادها الرمزية والمعنوية والبطولية.  
حول هذا الموضوع "ثورة التحرير في الكتب المدرسية" وكذا أبعادها التربوية، وإشكالاتها المختلفة في سياق "المنجز الثوري" في "النص المدرسي"، كان هذا الملف في عدد اليوم من "كراس الثقافة"، مع مجموعة من الكتاب والباحثين الأكاديميين، الذين تناولوا المسألة بمقاربات اختلفت وتباينت في تعاطيها مع هذا المحور.
ففي الوقت الذي يرى فيه الأستاذ عبد القادر رابحي أن "تاريخ الثورة ومهما يكن حجم ما قُدّم للمتمدرسين أو نوعيته، يبدو ناقصا بالنظر إلى ما زخرت به الثورة التحريرية من أحداث خطيرة ومن بطولات عظيمة لا زال الكثير منها لم يُكتب بعد". يرى الباحث اليامين بن تومي أن "المدرسة ضعيفة في طريقة تلقين الثورة للتلميذ". أما المؤرخ محمد بشير بوجبرة، فذهب إلى القول أن "ثورة التحرير في الكتب المدرسية الجزائرية تعيش حالة من الغربة وتعاني".
في حين اعتبر المؤرخ رابح لونيسي أن الكِتاب المدرسي أداة رئيسية لتلقين تاريخ الأمة الذي لا يمكن الاستغناء عنه في أي عملية لتكوين المواطن وبناء الأمة، لكن التركيز على الثورة كثيرا على حساب المعالم والأحداث التاريخية الأخرى قد أثر سلبا على تصورات الطفل للأمة وتاريخها.

إستطلاع/ نوّارة لحـرش

عبد القادر رابحي/ شاعر وناقد
ليس بين الدرس التعليمي والدرس التاريخي حجاب
ليس بين الدرس التعليمي والدرس التاريخي حجاب، فهما يبدوان أمرا واحدا غير منفصل لو نظرنا إليهما بمنظار ما يحملانه من صلات عميقة بينهما. من المؤكد أن الكِتاب المدرسي هو أحد ركائز التكوين الحضاري والتربوي والثقافي التي ترافق الطفل/التلميذ/ الطالب، طيلة تحصيله العلمي وتكوينه التعليمي في المدرسة إن لم يكن أهمها وأوّلها على الإطلاق. وعلاقة المنظومة التربوية بالتاريخ هي علاقةٌ عضوية عميقة بوصفها جسرا بين الناشئة وتاريخها وحضارتها، وذلك بالنظر إلى ما تلعبه من دور ظاهر وباطن في ترسيخ قيم المواطنة المبنية على معرفة التاريخ القديم والحديث للأمة، وفي تصوير حقيقة أحداثها لأنها تحدّد المسارات الأولية لصورة الانتماء التي من المفروض أن تنبني بصورة واضحة ويقينية في أذهان الأجيال التي تستقبل هذا التاريخ وكأنه جزء من الماضي الذي يجب ترسيخ أحداثه في حاضر اللحظة.
ولعل درس التاريخ بالذات -وعلى عكس الدروس في مواد أخرى- من أعقد الدروس وأصعبها بالنظر إلى ما يمكن أن يعتريه من علاقة مركبة لا تتوضح صورتها عند الناشئة إلا بعد مراحل متأخرة من مراحل التكوين حيث تنمو القدرة على التحليل بعد التحصيل وينمو الوعي الكافي بإمكانية وجود زاوية أخرى للنظر إلى التاريخ بوصفه رواية مهيمنة أو وحيدة أو متعالية.
درسُ التاريخ لا يستفز المتعلم في مراحل تكوينه الابتدائية أو الثانوية أو الجامعية فحسب، وإنما يستفز الإنسان المنتمي إلى هذا التاريخ طيلة حياته كلّها. ولعل هذا الاستفزاز الذي يمارسه التاريخ هو الذي يفتح إمكانية تأويله بوجهات نظر مختلفة أو قراءة أحداثه بطرق متعددة أو متناقضة. ومن هنا تبدأ المساءلة بالنظر إلى ما يقدمه الكِتاب المدرسي من معلومات حول التاريخ. هل هي ناقصة أو كاملة؟، هل هي موضوعية أم ذاتية؟ هل هي محايدة أو محايثة للفعل التاريخي كما جرت أحداثه في الماضي القريب أو الماضي البعيد؟ وربما هنا كذلك تُطرح إشكالية الوفاء للفعل التاريخي بالنظر إلى المصلحة الآنية أو بالنظر إلى الفكرة المهيمنة أو بالنظر إلى الجماعة الضاغطة التي تفرض رواية معينة من وجهة نظر معينة. مشكلةُ التاريخ وتقديمُه إلى الأجيال المتمدرسة في صورة من الصور كانت دائما مثار جدل وموضع مساءلة ومحل تفكير وإعادة نظر. ولعله من الصعب إيجاد رواية متعالية على التصورات الآنية أو الذاتية أو المصلحية. إنها الرواية التي يطمح إليها كل متعلم حتى يكون في منأى عن كل تعبئة ضيقة أو خارجة عن نطاق المبادئ الجامعة التي تنبني عليها أسس الوحدة الوطنية. غير أن هذه المشكلة تمس إشكالية تعليم التاريخ بصورة عامة وليست مشكلة جيل بعينه أو دولة بعينها أو مرحلة بعينها. إنها مشكلة التاريخ نفسه في علاقته المعقدة بصانعيه من جهة، وفي علاقته بالمستفيدين منه من جهة أخرى.
وتاريخ الثورة الجزائرية، ومهما يكن حجم ما قُدّم للمتمدرسين أو نوعيته، يبدو ناقصا بالنظر إلى ما زخرت به الثورة التحريرية من أحداث خطيرة ومن بطولات عظيمة لا زال الكثير منها لم يُكتب بعد. ذلك أنه يجب الاعتراف بأنّنا لم نكتب تاريخ الثورة التحريرية بالصورة التي يجب أن يُكتب بها وبالحجم الذي وقع به وبمستوى عمق مأساة وملاحم ما حدث خلالها للإنسان الجزائري وهو يواجه المحق الكولونيالي في أقسى مظاهره وأكثرها توحشا. فكيف يمكننا أن نمرر كل هذا إلى الأجيال الجديدة مع المحافظة على حدّة الفعل الكولونيالي وعلى حدة الفعل الثوري التحرري من دون السقوط في الصورة النمطية للقراءة الأحادية أو البطولات الفردية؟. ومن هنا فإذا اعترى كتابةَ تاريخ الثورة نقصٌ -وهو واقع باعتراف رواده والفاعلين فيه-، فإن هذا النقص سينعكس بالضرورة على ما يُقدّم إلى الأجيال المتمدرسة من أحداث ويُؤثّر، من ثمة، على الصورة التي يحملها المتعلم في راهنه عن بطولات آبائه وأجداده.
تبقى الطريقة التي يُقدم بها تاريخ الثورة التحريرية إلى الأجيال. وهنا وجب التنبيه إلى أن الوسائل البيداغوجية والتعليمية تتطور باستمرار. ولابد من مواكبة الدرس التاريخي المتعلق بالثورة الجزائرية، ولكن بتاريخ الجزائر عموما، لهذه الوسائل بما فيها من وسائط معاصرة اختصرت المسافة بين الحدث التاريخي الذي كان يحتاج إلى شرح مستفيض من طرف الأستاذ وبين قابلية التلميذ المتعلم لاستيعاب أحداث من دون المرور بالدرس المدرسي.
ولعله لهذا السبب وجب النظر إلى الدرس التعليمي الذي يقدم أحداث الثورة التحريرية بمرآة العصر وبما يحويه هذا العصر من وسائل تواصلية خارقة للعادة من المفروض أن تلعب دورا أساسيا في تيسير البعد البيداغوجي من أجل ترسيخ القيم الجامعة التي انطلقت منها الثورة التحريرية بما هي قيم تحافظ على الذات وعلى الكينونة وعلى وحدة المجتمع في ظل ما نراه اليوم وفي أماكن أخرى من تسارعٍ رهيب لهشاشة بنيات الدول الوطنية التي قامت على التحرر من الاستعمار نظرا لتناسيها قيمة الدرس التعليمي للتاريخ من خلال تغاضيها عن حضور حدّة الشرط الكولونيالي الذي كان سببا جوهريا في انتفاضة الشعوب المستعمرة والثورة عليه في راهن الكِتاب المدرسي، والذي من المفروض أن يبقى حاضرا بقوته في أذهان الأجيال الجديدة.

اليامين بن تومي/ كاتب وباحث أكاديمي
وسائل عرض الثورة ترتهن لآلية المشافهة
لا شك أن الثورة الجزائرية من أعظم ما قدمه التاريخ الوطني في سبيل ترسيخ مبدأ الحرية للشعوب، حيث ساهمت الثورة الجزائرية بشكل قوي في تحرير القوى الخائرة، وبعث الحياة في النفوس القانطة، لذلك كان صداها بالغا، قلب التفكير العالمي رأسا على عقب كما صرح إدوارد سعيد وفرانز فانون أن "عظمة الثورة الجزائرية أعادت ترتيب العالم كله"، لكن السؤال الذي يُطرح ها هنا: كيف نجد صورة الثورة في الكتاب المدرسي؟، أو لنقل بعد أن تباعدت الثورة في الزمن كيف نقل الكِتاب المدرسي الثورة للأجيال؟ وهل مازالت تحافظ على حماسها الأول؟.
حتى لا نصادر محتويات الكتاب المدرسي ونتسرع في الحكم على صورة الثورة، علينا أن نقوم بعملية عكسية عن مدى صورة الثورة عند شباب اليوم؟، أي بمختصر الكلام: ما مكانة الثورة منَّا الآن؟ في شوارعنا وحكاياتنا، وغيرها من المصادر الاجتماعية ليتم دراسة الأمر بشكل جيد؟.
إن آخر التقارير تفيد أن نسبة الوطنية انخفضت بشكل كبير عند الجزائريين وهذا يرجع أساسا إلى الفشل الذريع للسلطة في تدوير مسألة الثورة على نطاق اجتماعي، وتجذير الفكر الثوري في عمق المنظومة الأخلاقية للمجتمع، وكذلك في عدم توفير الإمكانيات والوسائل للرقي بالثورة كحدث تاريخي مهم، بل كل الإمكانيات كانت عكسية، وليس أدل على ذلك من حملة التشكيك في انتماء قيادات ثورية كبيرة للوطن، حيث انطلقت منذ ما يقارب عن عشر سنوات حركة تلاسنات قوية عن تخوين الكثير من الرموز الثورية، والصحافة الوطنية مليئة بهذا النوع من المقالات، إنه فعل نفسي لتحويل الفاعل الثوري إلى مجرد شخص عادي، لأن أول انهزام يمكن أن يلحق الثورة، هو إعادة إفراغ الشخص الثوري من عبقريته.
والمدرسة ما هي إلا بؤرة صغيرة تتأثر بما يتداوله المجتمع، صحيح إن هناك إدراجا للثورة ولمسار الحركة الوطنية في الكِتاب المدرسي، لكن الوسائل التي تُعرض بها الثورة ما تزال ترتهن لآلية المشافهة بعيدا عن ترسيخها عن طريق الوسائل، والإمكانيات مثلا كعرض الأفلام وإدراج زيارات ميدانية والجلوس إلى المجاهدين وتأليف مسرحيات يشارك فيها الأطفال وغيرها من الإمكانيات التي تُفعِل الدرس التاريخي جيدا، لأن هناك عملية شرخ بين الدرس التاريخي والفعل الحيوي الذي يمكن أن يرسخ ذلك الدرس بشكل قوي وايجابي.
فالمدرسة ضعيفة في طريقة تلقين الثورة للتلميذ حيث إنها في واد والمجتمع في واد آخر، لأن السؤال التربوي القوي: كيف يمكن للثورة أن تكون فعلا اجتماعيا من خلال محاربة كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تعطيل البلد عن مساره التحديثي؟ لأن مظاهر الاحتفال بالثورة يتم فقط في مستوى كرنفالي ومهرجاني تافه وبسيط، وينم عن محاولة عميقة لنسيان الثورة، لو كانت هناك نيات حقيقية لإعادة ترتيب الثورة في ذهن المواطن والتلميذ يكون باتخاذ جميع الوسائل المساعدة على ذلك.
لا يمكن لدرس تاريخي أن ينجح في ظل ازدواجية الخطاب العام، بين واقع ساخط على مسار السلطة بعد الاستقلال وبرنامج مدرسي ينتمي إلى سياق تاريخي قوي. ثم إنّ الحجم الساعي للدرس التاريخي لا يكفى لتلقين التلميذ تاريخه بشكل أمثل، فدائما ما تكون الدروس مجرد خطوط عريضة، يحتاج فيها إلى ما يرمم تلك الفجوات، لذلك يترك التلميذ عرضة للهواجس الخارجية التي تَرَمِّم ذلك النقص.
وعليه فالتاريخ ليس بدرس يُلقن، إنه تجربة تحتاج إلى أن تنتقل في قمة حماسها وعنفوانها الوجداني، وعليه فالمدرسة تحتاج إلى مراجعة جذرية لإمكانياتها في نقل صورة الثورة للتلميذ.

رابح لونيسي/ أكاديمي ومؤرخ -جامعة وهران
تم التركيز عليها على حساب تاريخ كله
يعد الكِتاب المدرسي أداة رئيسية لتلقين تاريخ الأمة الذي لا يمكن الاستغناء عنه في أي عملية لتكوين المواطن وبناء الأمة، ولهذا من المفروض أن يركز في الكِتاب على تاريخ الأمة بكل مكوناتها ومراحلها دون أي إقصاء مع الاستعانة بالصور والنصوص وتبسيط المعلومات، وتعد الثورة الجزائرية من الأحداث الكبرى التي عرفتها الأمة الجزائرية عبر تاريخها الطويل، لكن التركيز عليها كثيرا على حساب المعالم والأحداث التاريخية الأخرى قد أثر سلبا في نظري على تصورات الطفل للأمة وتاريخها، ووصل البعض إلى درجة الاعتقاد أن التاريخ هو تاريخ الثورة فقط دون غيره، وكان من المفروض أن يُدرس تاريخ الثورة في إطار تاريخ الأمة كلها بكل مراحله، وأنا من دعاة تلقين التاريخ المدرسي بشكل آخر، فنقسمه نوعين: تاريخ الأمة والتاريخ العام، فبالنسبة لتاريخ الأمة ندرس كل مراحله بما فيه تاريخ الثورة في كل الأطوار الدراسية، حيث نعيده ونكرره، لكن بشكل موسع في كل طور تعليمي حسب درجة استيعاب التلميذ، مما سيرسخ في ذهن المواطن كل المعالم الكبرى لهذا التاريخ.
لكن هذه الطريقة تُطبق نوعا ما في المدرسة بالنسبة لتاريخ الثورة فقط دون المراحل الأخرى من تاريخ الأمة، حيث يتطرق إليها في كل الأطوار التعليمية، وقد مر تدريس تاريخ الثورة في المدرسة الجزائرية بمراحل، فقبل 1988 ركز على شخصيات دون أخرى لأسباب سياسية، وهو ما أثر سلبا فيما بعد على المواطن الذي كان تلميذا في المدرسة، فأصيب بصدمة بعد 1988 خاصة بعد ظهور كتابات بعضها يناقض ما تلقاه في المدرسة، مما خلق لدية بلبلة جعلته يفقد ثقته في كل ما ينقل له عن تاريخ هذه الثورة، وزادته تأزما تناقضات المذكرات والشهادات التي ظهرت فيما بعد وتشويه بعض الفاعلين التاريخيين للكثير من رموز الثورة كأسلوب منهم لتصفية حسابات شخصية معها.
ونعتقد أن هذه الصدمة التي وقعت للمتلقين تعود إلى عدم ربط تلقين تاريخ الثورة للتلاميذ في المدرسة بمجموعة مفاهيم، ومنها: أن الاختلاف أمر طبيعي يقع في كل الثورات والأمم، وهو ناتج عن تناقضات سياسية وأيديولوجية وثقافية وطبقية وغيرها، وكذلك أن الشهادات والمذكرات ليست هي التاريخ، وتتحكم فيها عدة عوامل كتضخيم الذات والأيديولوجية والجهوية وغيرها، أما  التاريخ فيكتبه الأكاديميون حسب منهج علمي صارم، كما كان من المفروض أن نقول للتلاميذ أن المجاهدين بشر وليسوا ملائكة منزهين عن الخطأ والرغبات الذاتية للبشر كحب السلطة وغيرها.
فظاهرة تقديس الرموز وتصويرهم كأنهم ملائكة له تأثير سلبي في نظري على الأجيال، بل يجب علينا تربويا أن نعلم أبناءنا طرق الإستلهام من رموزهم، لكن أيضا علينا أن نعلمهم بأنهم بشر عاديون مثلهم، وبأنه بإمكان أي كان من الجيل الحالي أو الأجيال القادمة أن يكون مثل بن مهيدي أو عبان رمضان أو ديدوش مراد أو بن بولعيد أو غيرهم من رموز الثورة.
وهناك مسألة أخرى أثرت سلبا على الجزائري فيما بعد، وتتمثل في تركيزنا على العنصر العسكري على حساب عناصر أخرى في الثورة، مما جعل أي مواطن إذا سألته ما معنى الثورة يتبادر إلى ذهنه الرشاش والحرب والعمل المسلح، وهو أمر خاطيء، وهو ما جعل الكثير من الجزائريين يعتقدون أن العنف المسلح هو الأداة الوحيدة وراء طرد الاستعمار، وأصبح يعتقد بأن التغيير لا يمكن أن يتم إلا بالعنف، ويبدو أن هذا الاعتقاد أحد أسباب تفشي الإرهاب والعنف في مجتمعنا، وهو ما يجب تصحيحه، وللأسف هذا لا يخص تاريخ الثورة فقط، بل تاريخنا الوطني كله، أين نركز على الجانب العسكري مع تغييب المجالات الثقافية والحضارية وغيرها، خاصة أننا اليوم بحاجة إلى الاستلهام منها أيضا في معركة البناء والتشييد.

محمد بشير بوجيرة/ ناقد ومؤرخ وباحث أكاديمي
فشلنا في تقييم الثورة إبداعا وكتابة وتسويقها سياسيا وفشلنا في تقديمها للأجيال الجديدة
إن القاصي والداني يعرف ما لثورة التحرير الجزائرية من سماقة ومن عظمة على جميع المستويات. ويبدو لي أن ذلك التعدد في مستويات القوة والصدق هو الذي جعلها تمتد إلى أطراف المعمورة كاملة ولدى الغالبية الساحقة من سكانها. كما أجد أن ذلك الانتشار في مستويات التقييم ليس لدى الجزائريين فحسب، بل لدى الأمم والأجناس المختلفة يُصعب نوعا ما من مهمة تقديمها على أحسن وجه وفي أحسن صورة من الشعب الجزائري الحديث العهد بالاستقلال وبكيفية التعامل مع التراث ومع كل ما هو قيم وجميل ورائع ومبهر. ولعل أولى دلائل هذا العجز نجده متمثلا في فشلنا في كيفية تقييم ثورة التحرير إبداعا وكتابة وتسويقها سياسيا والحفاظ عليها، ثم تقديمها للأجيال اللاحقة، أدبا وسينما ومسرحا وتلفزيون، ناهيك عن تسويق قيمها عن طريق الإعلام وبواسطة سفاراتنا عبر عواصم العالم.
أما الكارثة الكبرى في كل ذلك فأجدها تتمثل في كيفيات تقديمها لفلذات أكبادنا في المدارس وفي الجامعات. وحتى أبقى في ما تبتغيه منظومة الأسئلة المطروحة، والتي يشملها، كيف تمثلت ثورة التحرير المجيدة في المنظومة التربوية، وفي الكتاب المدرسي خاصة. فأرى بداية بأن ثورة مثل ثورتنا المجيدة لا تسعها في التقديم المنظومة المدرسية وحدها، بل يُفترض أن تُجند لها الدولة إستراتيجية كاملة من أدوات الاتصال والتلقين والتبليغ المختلفة، زيادة على انخراط الفضاء والمؤسسات الاجتماعية بكل أطيافها، مما يجعلني أتصور كل ذلك وفق الافتراضات التالية: أولا: موقف الوالدين من الثورة والتحدث عنها بإعجاب أمام أبنائهم عبر مختلف الأعمار والسنوات التعليمية وفي تعاملاتهم المختلفة.
ثانيا: تقدير مسابقات وجوائز يتنافس عليها الأطفال والتلاميذ والطلبة، لأن المنافسة تخلق نفسيا كومة من الحب حول الموضوع وتدفع إلى البحث فيه وإلى القراءة حوله.
ثالثا: اعتماد النصوص الأدبية الفنية الراقية في تقديم ثورة التحرير، في الكتب المدرسية وفي وسائل الإعلام، مما يدفع بالأدباء والفنانين إلى الاشتغال على حقول الثورة وإبراز معالمها الإنسانية الخالدة.
يبدو لي أن هذه العناصر لا مناص منها لتقريب الصورة المشرفة عن ثورة التحرير للطفل/ للتلميذ/ للطالب، الذين يعيشون جميعا تحت وطأة سيولة الواقع المفترض بالوسائط الإعلامية الكثيرة، وهو عالم تتغلب فيه البطولة والقوة وفرض الذات على المحيط، وهي العناصر التي تغري الفئات السابقة بتمثلها وبحبها، وبخاصة الأفلام السينمائية والتلفزيونية الراقية.
أما عن تحيين ثورة التحرير في الكتاب المدرسي فحدث ولا حرج، حيث يجب أن نأخذ عليه الملاحظات التالية: -على مستوى النص، نجد ثورة التحرير في الكتب المدرسية الجزائرية تعيش حالة من الغربة وتعاني من وضع يشبه كثيرا ذلك الإنسان المغضوب عليه من جماعة دعته إلى مأدبة رغم أنفها، أي وجوده غير مرغوب فيه لكنه موجود على أية حال، حتى لا يُلام أهل المناسبة بعدم دعوة هذا الشخص. وأجد تلك الغربة متجلية في صغر الفضاء المخصص لهذه الثورة في الكتب المدرسية، والذي غالبا ما يكون في أسطر أو صفحات قليلة جدا لا تسمن ولا تغني من جوع. وكان من المفروض أن تُدمج في البرنامج حصصا لمادة القراءة وتخصص فقط لثورة التحرير.
- مضمون النصوص غير معجب وغير مغر بالقراءة من المتعلم. كان يجب هنا أن تختار مضامين هذه النصوص وفق العمر الدراسي، فلا بأس أن تكون مضامين الكُتب المدرسية للتلاميذ الصغار تدور حول أعمال حربية قام بها الثوار بواسطة وصف تلك المعارك وصفا جميلا مغريا للصغار ودقيقا في تفاصيل المعارك، لأن نفسية الطفل تحب البطولة والفعل والعمل الخارق للكائن والمفارق للمتعارف عليه. ثم تختار مضامين نصوص مرحلة المتوسط بالمزج ما بين المضامين البطولية والمضامين الفكرية، وهكذا حتى نصل إلى مرحلة الجامعة التي يجد فيها الطالب نفسه ممتلئا بمفاخر الثورة وبعجائبيتها.
- الإبتعاد عن كتابة النص الذي يتحدث عن الثورة بأسلوب بارد جاف، بل يجب أن يُكتب بأسلوب أدبي شاعري فني فيه رواء، حتى يشعر الطفل أو التلميذ أو الطالب كأنه يقرأ نصا روائيا أو شعريا أو قصة قصيرة. وأعتقد أنه بهذا الأسلوب نستطيع أن نتقاطع مع مخيالهم جميعا، فيتلذذون هم بما يقرؤون ونسعد نحن بتلقينهم أمجاد ثورتنا المجيدة. زيادة على أن مثل هذه الأساليب تمتلك قوة تبليغية رهيبة عن أحداث الثورة رمزيا ومعنويا وكذا الإشادة بمعالم البطولة فيها. وتلك مسألة اعتقدها مهمة جدا من الناحية البيداغوجية.
بكل تأكيد، الدولة الجزائرية الحديثة قد بذلت جهودا معتبرة منذ 1962 حتى الآن حول الاهتمام والعناية بتعليم الإنسان الجزائري، فقررت التعليم المجاني والإجباري، وشيدت المؤسسات التعليمية والتكوينية في كل ركن وفي كل زاوية، لكنها لم تستطع أن تقدم في برامجها عملا بيداغوجيا يُعلي من شأن ثورة التحرير ويجعلها أتونا للإلهام وللمعرفة وللتاريخ، زيادة على اعتبارها مرجعية قوية وثرية في بناء قدسية هويته الجماعية والوطنية.

علاوة كوسة/ كاتب وناقد
حضورها عبر مختلف الأطوار التعليمية مكثف ومتنوع
تُعد الثورة التحريرية الجزائرية حدثا مقدسا بالنسبة إلى الجزائريين والعرب والعالم أجمع، وذلك لما تميزت به من مواقف بطولية وصور تحررية نادرة، صنعها أبطال فكروا في الجزائر حرة مستقلة وتمنوها منارة للأجيال القادمة التي لم تعشها وقائعَ وأحداثا بل قرأت عنها في كُتب التاريخ العامة والبيداغوجية التي تتداولها المدارس والمؤسسات التربوية عبر كل أطوار التعليم من الابتدائي إلى المتوسط والثانوي فالجامعي.
والمتتبع للكتب المدرسية وحضور الثورة التحريرية الجزائرية فيها عبر مختلف أطوار التعليم، يلمح ذلك الحضور المكثف والمتوزع عبر السنوات التعليمية بمختلف مستوياتها، خاصة ما تعلق بكتب التاريخ لكل سنة من السنوات، لأننا قد نعثر على أحداث ووقائع ثورية متناولة في كتب التربية المدنية أو الأدب على شكل نصوص وقصائد أيضا. ولو عدنا لحضور الثورة في كتب التاريخ المدرسية لوجدناها تتنوع بين استحضار تاريخ الشخصيات الثورية من شهداء ومجاهدين وعرض سيرهم الذاتية وبطولاتهم وتحركاتهم، كما أن هناك ذِكرا لكثير من المعارك والمقاومات الشعبية التي سبقت الثورة التحريرية المجيدة، وبعض الوثائق المتعلقة بالاتفاقيات والمعاهدات، مع كثير من الصور المُرافقة التي تنقل أماكن المعارك وبيوت الجزائريين أثناء الثورة وأيضا جرائم المستعمر الفرنسي.
لو عدنا أيضا لتقييم استحضار الكِتاب المدرسي للثورة التحريرية لوجدناه حضورا قويا من الناحية الكمية، ولا يُظهِر من الثورة إلا الأشياء والأحداث الجميلة البطولية التي من شأنها أن ترسخ قيم المواطنة والبطولة لدى المتعلمين، وهو المطلوب فعلا، لأن الذي يليق بالمستويات الأولى من التعليم هو إعطاء صورة شاملة عن الثورة. ويبقى البحث في تفاصيلها للباحثين المتخصصين في الأطوار الجامعية العليا، لذلك يمكن القول بأن الثورة التحريرية وقيمها العميقة قد كانت حاضرة بقوة في الكتب المدرسية في مختلف الأطوار وتتجدد المضامين دوريا وبشكل جيد، وتعزز من قيم المواطنة وترسيخ الثوابت الوطنية.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com