عبد الرزاق بوكبة
كان المشهد الأدبي الجزائري، قبل مطلع القرن الواحد والعشرين، يُفرز أصواتًا سردية قليلة، في كل موسم جديد، بالمقارنة مع الأصوات الشعرية. اليوم انقلبت المعادلة، فباتت الولادات الشعرية الجديدة، لا تكاد تظهر إلا نادرًا، في ظل ولادات سردية لافتة للانتباه. الأمر طبعًا يستدعي دراسة تتقصّد رصد جملة السياقات التي أدت إلى هذا المعطى، وتجيب على الأسئلة المتعلقة بها، منها: هل يعود الأمر إلى موجة خاضعة لسلطة السرد، باعتباره بات مهيمنًا على ساحة المقروئية؟ أم أن هناك تحولاتٍ موضوعية وقعت في البنية الثقافية والاجتماعية الجزائرية، أدّت إلى هذا الانقلاب الأجناسي؟
ليس المقصود بالأصوات الجديدة، هنا، زمن الظهور، فظهور الصوت لا يعني جدارته بالضرورة، بل تلك التي أحدثت قطيعة جمالية، مع ملامح المدونة الشعرية المنجزة، لغةً وهواجسَ ومعمارًا وانقلابًا في علاقة الدال بمدلوله. من هنا، يمكننا اعتبار باكورة آمال رقايق التي جعلتها «دار النقطة» لصاحبها الشاعر الطيب لسلوس فاتحة إصداراتها، قبل أيام، تجربة شعرية جديدة، انطلاقًا من العنوان «الزر الهارب من بزة الجنرال»، باعتباره العتبة النصية الأولى.
تحسّ وأنت تقرأ هذه الباكورة، بأن صاحبتها لم تكتفِ فقط، باقتراف أفعال الهروب جميعها، من بزّة الجنرال/ السائد، بل استمتعت بذلك أيضًا، ولا شك في أن هناك فرقًا جليًا بين أن تخرج «من الكتب القديمة مثلما خرجوا»، بتعبير محمود درويش، لتكتسب صفة المتمرد، وأن تخرج لتحقق متعة الخروج.
«دعني أرتّب حجرة الدرس ليصير المعلم نايًا/ والمصطبة بحرًا/ والتلاميذ ضيوفَ المجاز/ دعني أفشل في تبرير العالم لطفل في الرابعة يرجمني بالسؤال».
إن الذاكرة والقاموس بمدلولاته المتعارف عليها، هما الضحية الأولى في نصوص آمال رقايق، ذلك أنها تستغني عنهما بوضوح، وتبرمج نفسها على أن الذاكرة هي ما يأتي من المستقبل، وليست ما حدث في الماضي، وأن القاموس الذي يُستعان به لفهم ما غمض من مفردات هذا الآتي، هو البياض نفسه، أين يجد القارئ المدجج بالأحكام المسبقة عن الشعر نفسَه أعزلَ تمامًا. بحكم أن النصوص محرّرة من صوت الجماعة، وخاضعة لهيمنة السؤال.
«من يُقنع الضوء بتطوير أمجاده؟ من يحذف الموتى من أعصاب الأرض؟ ها كل شيء دليل على لا شيء».
لأفعال الهروب من السائد، في هذه الباكورة التي تبشر بما بعدها، تجليات كثيرة منها تعدد الأصوات داخل النص الواحد، أصوات منسجمة أحيانًا، ومتضادّة أحيانًا أخرى، وأخرى تستمد انسجامها من تضادها نفسِه، بل إن الصوت الواحد قد يتشظى إلى أصوات عديدة، تمامًا كما يحدث للزجاجة حين تقع على سطح صلب. هنا يصبح سؤال «لمن هذا الصوت؟» من غير جدوى.
«نحن أطفال الله المشتعلون/ بائعو المطر/ غزاة الكبريت، كأننا الحنين تارة، أو الغبار الذي خبأته النوافذ تحت ذنوب النمل».
إن القصيدة في ديوان «الزر الهارب من بزة الجنرال» تتخلى عن اسمها وملامحها التي لا تحيل إلا عليها، وتتماهى مع السرد في شغفه بالتفاصيل الصغيرة، لتصبح نصًّا وكفى، إذ ثمة دومًا حكاية ما في أفق اللحظة، لا يهم إن كانت صغيرة أم كبيرة، مهمة أم عابرة، أو هي كل هذه الصفات في الآن عينِه، ذلك أن الحكاية، كما نصطدم بها في نص واع بأدواته، لا تستمد حيويتها من طبيعة أحداثها، بل من طريقة عائشها في عيشها.
«ها نحن أيضًا، فينا من الحزن الكثير، فينا نهايات البحر والعطش الكامل، وفي أصابعنا سر الأزرار وبدايات الجداول، وبيننا جليد ما، ومغارات غادرت سكانها».
لم يسبق لي أن عرفت الشاعرة عن كثب، وإلا كنت سألتها، ليس من باب المصادرة، عن خلفية مراهنتها على الخسارات في كل شيء، فهي تثق في كل ما لا يُنتبه إليه، أو ذاك الذي يُصنّف في خانة «تافه»، ولعل رهانها هذا من رهانها على الشعر نفسه، في قدرته على قلب الموازين ومراجعة المسميات والأحكام الجاهزة. إننا نصادف كثيرًا هذه الخيارات، في كثير من مفاصل المجموعة، انطلاقًا من الإهداء «إلى الأكورديون المهمل»، ووصولًا إلى آخر جملة من الوجه الثاني للغلاف: «أحب الكتب التي لم يقرأها إلا صاحبها، والفنان الذي ترفضه المسارح».