كتبت "على خط النار" لأنسى أشباح الماضي
في هذا الحوار، تتحدث الصحفية زهية منصر، المختصة في الشأن الثقافي، عن كتابها "على خط النار/ شهادات إعلاميات عايشن الإرهاب"، الذي صدر في الآونة الأخيرة عن دار سارة للنشر بالجزائر العاصمة. الكتاب الذي يقع في 178 صفحة، استرجعت فيه الصحفية بعض تفاصيل وفترات العشرية السوداء، وهذا من خلال شهادات إعلاميات عايشن الإرهاب، حيث فتحن دواليب الذاكرة، وسردن ذكرياتهن الأليمة، المغرقة في الشجن، وفي المعاناة التي كانت وليدة فترة عصيبة وأكثر من تراجيدية في تاريخ البلد والشعب. شهادات لــلإعلاميات (مليكة بوسوف، سليمة تلمساني، نفيسة لحـرش، نعمة عباس، زهية بن عروس، فاطمة الزهراء زرواطي، صبرية دهيليس، زينب قبي، بايلة برحال، فتيحة بوروينة، ليندة بوعظمة، فاطمة رحماني، زهرة فرحاتي) جاءت بعناوين مغايرة ومختلفة، لكن المعاناة تشابهت وتقاطعت في أكثر من فاصلة وأكثر من حالة وأكثر من ذكرى.
زهية منصر، نبشت في ندوب الماضي، وسلطت الضوء على حالات وشخصيات، شملت 13 إعلامية، سردن شهاداتهن بكثير من الجرأة والصراحة والألم. وبهذا الكتاب، تكون زهية منصر قد أخرجت الكثير من الشهادات المهمة إلى الفضاء الإعلامي في شكل كتاب، ووثقت لمرحلة حساسة ومؤلمة في تاريخ الجزائر. وبهذا الخصوص، تقول منصر: "كنت بحاجة لأكتب ليس فقط لأوثق جزء من مرحلة مجنونة أو لأقف ضد ثقافة الشفاهة لكني كتبت لأنسى أيضا أشباح الماضي".
حاورتها/ نوّارة لحـــرش
في كتابك "على خط النار"، كانت شهادتك حاضرة، شهادة مربكة، لأنها كانت تحكي، تسرد، وفي ذات الوقت تتساءل. هل يمكن القول أن الكِتاب كان ذريعة لذاكرتك أيضا كي تسرد الذي كان، والذي بقي عالقا بتلابيب ذاكرة عصية على النسيان، وعصية على الاندمال؟
زهية منصر: كل تجربة كِتابة هي بشكل أو بآخر تجربة ذاتية جدا، وبقدر ما ادعى صاحبها الموضوعية تبقى تحمل شيئا ما من نفسه، من ألامه ومن خيباته، ومن رؤيته للحياة وللأشياء. من هذا المنطلق ففي الكِتاب شيء مني أكيد، من خيباتي في مهنة المتاعب، فحتما لم تكن هذه هي المهنة التي حلمت بها وأصررت على الانتماء إليها مهما كان الثمن.
بشكل ما كنتِ تستنطقين ذاتك/ ذاكرتك وأنت تستنطقين 13 صحفية، يتجلى هذا في قولك مثلا: "بقدر ما كانت العودة إلى الخلف مؤلمة لهن، كانت أيضا مؤلمة لي". هل هذا الكتاب ضمد الجرح، أو خفف من الألم قليلا؟
زهية منصر: الكتابة هي فائض الألم وما يزيد عن الحاجة من الحلم، وهي أيضا صناعة لحياة موازية عندما تصيبنا الحياة الواقعية بالخيبة ومخلفاتها وتوابعها. نعم كنت بحاجة لأكتب ليس فقط لأوثق جزء من مرحلة مجنونة أو لأقف ضد ثقافة الشفاهة لكني كتبت لأنسى أيضا أشباح الماضي، أشباح تلك الطفلة التي كُنتها على أعتاب المدارس وتلك المراهقة التي حرمها القتلة من أن تعيش الفرح والانطلاق. كان يجب أن أكتب هذا الكِتاب حتى تتعافى ذاكرتي أو على الأقل لأطرد شبح ذلك الرجل الفض الذي هددني عند نافذة المساء ذات خريف من عام 1994، كانت نوافذ الحياة تغلق على الرابعة مساءا حتى في عز الصيف.
قلتِ "فكرة الكِتاب ولدت من مقال صحفي بسيط حاولت أن أعود عبره في ذكرى من ذكريات الثامن مارس في هذا البلد إلى نضال نساء صنعن الحياة، فاكتشفت أن سرطان الصمت والتجاهل والقفز على المراحل أتلف أو يكاد يتلف حقبة حدثت بالأمس فقط". ألا ترين أن هذا دور الدوائر الإعلامية والصحفيين، فالإعلام هو الذي يصنع ذاكرة الأحداث؟ لكن أغلب الإعلاميين صمتوا ولم يوثقوا لفترة عصيبة مرت بها الجزائر؟
زهية منصر: مثلك كنت أطرح الأسئلة دائما، لماذا نحن مجتمع شفهي لا يكتب؟، ربما الأسباب عديدة ومتعددة ولا أريد هنا أن ألعب دور محلل لا أتقنه لأبحث عنها. نحن مجتمع ما يزال ينظر للكِتابة كأنها مشروع دولة أو مشروع مجتمع، لكنها في الحقيقية هي مشروع شخصي ويصير في بعض الأحيان واجب كل المواطنين "لو كنا في دولة المواطنة حقا".
لكن تبقى التجربة بالنسبة للإعلاميين تخفي ورائها ليس فقط الصعوبات لكن الوضع الهش الذي تعيشه المهنة اليوم: عدم الاستقرار في المناصب، البحث المستمر عن تحسين الوضع الاجتماعي، مشاكل ومشاغل المهنة المهنية منها والاجتماعية بكل صعوباتها تجعل الإعلاميين يؤجلون ربما تجربة الكتابة التي تتطلب صفاء الذهن والاستقرار وبعض الإمكانيات رغم بساطتها لكنها تطرح نفسها بقوة. كيف يمكن مثلا للصحفي الذي ما يزال يبحث عن سكن ويفكر طوال أشهر في الحصول على مسكن للكِراء أن يرتب لمشاريع كتابة؟. هذا من جهة ومن جهة أخرى تبقى المرحلة التي عاشتها الجزائر تتطلب ربما وقتا حتى يقف الإنسان على مسافة منها ويتأملها بموضوعية وبدون ألم وبدون حقد حتى يقاربها وهذا يحتاج لوقت.
عمدتِ إلى تسجيل شهادات من بقين على قيد الحياة. وكان الهدف كما قلتِ "ليس فقط تسجيل جزء من ذاكرة مرحلة مجنونة لكن أيضا تثمينا لإقدام وشجاعة نساء حاولن صناعة الحياة في قلب الموت". نساء صحفيات لم يكتبن مذكراتهن ولم يوثقن لمرحلة، وأنت طرقت الذاكرة الجريحة والذكريات المكلومة ووثقت لبعض التجارب، كيف كانت التجربة معهن؟
زهية منصر: كانت تجربتي معهن جميلة بقدر ألمها وصعوبتها كانت أيضا ممتعة، تقاسمت معهن الدموع المتأخرة، تلك التي لم تعد تليق لا بالعمر ولا بالمكان، تقاسمت معهن البوح المؤجل. الإنسان عندما يتأمل خيباته على مسافة يكتشف أحيانا كم كان ساذجا، ربما غرا وربما غبيا.
هل كانت فعلا مهنة الصحافة تستحق أن يموت الإنسان من أجلها؟، لطالما طرحت هذا السؤال على نفسي في خضم الكتابة، لكن التشبث بالحياة والكفاح من أجلها هو من منح المهنة في تلك المرحلة بعض تلك القداسة. كانت الطريقة الوحيدة للتعبير عن إصرار بلدا بأكمله على الحياة.
استنطاق الشهود بدل الشهداء. مرحلة كاملة بمآسيها وسوداويتها وتراجيديتها، هل تكفيها 13 اسما فقط من أجل توثيقها والإضاءة عليها؟، لماذا اقتصرت المرحلة/ الشهادات على هذه الأسماء فقط؟
زهية منصر: منذ البداية ذكرت في مقدمة الكتاب أن 13 اسما لا يمثل كل تراث التسعينات، وقد حاولت أن أجمع ما استطعت من تجارب، وقد وجهت لهذا الغرض أكثر من 18 دعوة لكن البعض اعتذرن والبعض رفضن والبعض لم يردن على الأسئلة بعد أن أبدين موافقة مبدئية لكنهن تراجعن لصعوبة العودة لتلك لمرحلة، والأسماء التي وردت في الكِتاب هي التي وافقت على تقديم شهادتها عن المرحلة ولم يكن هذا بدافع الانتقاء لكنه ما توفر وأجد أنها عينة تمثيلية عن نساء الجزائر ونساء المهنة في تلك المرحلة المجنونة وقد راعيت أن تكون متوازنة من حيث المكونات اللغوية "العربية، الفرنسية والأمازيغية"، وأيضا متوازنة بين الإذاعة والتلفزيون والصحافة المكتوبة والإعلام الالكتروني.
في الكِتاب ركزتِ بشكل ما على الجانب الإنساني في قصص وتجارب الصحفيات، ما هي أكثر قصة أثرت فيك، وأكثر قصة تقاطعت مع تجربتك؟
زهية منصر: في كل واحدة منهن شيء مني ومن نفسي، هن جميعا أنا. كل قصصهن قصتي.
هل يمكن اعتبار أو تصنيف كتابك في إطار فعل المقاومة وإنتاج الحياة/ إنتاج الذاكرة/ تثمين تضحيات؟
زهية منصر: لا أعرف تحديدا ولا أريد أن أدعى تقديم دروس، كتبت ما أحسست أنه نابع من قناعاتي، من أعماقي، ومن نفسي. ما أحسست أنه في النهاية واجبي.
سؤال وجهتِهِ أنت للصحفيات، نوجهه بدورنا لك: كيف عشتِ مهنتك أيام الجنون الدموي؟
زهية منصر: أيام الجنون الدموي لم أكن قد صرت صحفية بعد، أنا وصلت إلى المهنة عام 2000 وكان الإرهاب قد انحصر وصارت الجزائر تتنفس بشكل أفضل، أنا عشت سنوات الجنون كتلميذة في المتوسط ثم مراهقة في الثانوية وأنهيتها كطالبة في الجامعة وكان علي أن أقطع الأودية في إحدى المناطق النائية من بومرداس حتى أذهب للدراسة لأن الجسور كانت تُنسف لأنها رمزا للحياة.
في تلك المرحلة كان علي أن أناضل في عزلة وببساطة مثل كل البسطاء من أجل فرصتي في الحياة فقط، كان علي أن لا أخاف عندما أذهب للجامعة وأبتعد عن بيتنا بشكل يشبه النفي من أجل الدراسة، كنت فقط يومها أنحاز للحياة، ليس شجاعة، لكن بشكل فطري.