كثيرا ما يشتكي الكُتاب والأدباء من غياب وعزوف الجمهور عن نشاطاتهم وأمسياتهم الفكرية والثقافية والشعرية. وكثيرا ما يجدون أنفسهم في قاعات فارغة إلا من كراسيها الصامتة الشاغرة، فقط بعض الحضور القليل الذي يُعد على أصابع اليد الواحدة، وهو في الغالب يتشكل من بعض الوجوه والأسماء الأدبية المدعوة لتنشيط هذه الفعالية أو تلك.
وتبقى الأسئلة تتكرر عن أسباب هذا العزوف الدائم عن كل ما يتعلق بالنشاطات والملتقيات والأمسيات الثقافية والفكرية والأدبية: لماذا يغيب الجمهور عنها؟. لماذا هذه القطيعة المتواصلة من الجمهور نحو كل ما هو ثقافي وأدبي؟. وهل غياب الجمهور مرده إلى فشل المثقف والأديب والمفكر في استقطاب الناس إلى الثقافة والأفكار والأدب، وبالتالي فشله في خلق "جمهور ثقافي". أم أن هذا مرده إلى فشل الجهات المنظمة في إستراتيجية العمل الثقافي واعتمادها على العشوائية؟. أم هو أيضا فشل المنظومات التربوية المتعاقبة؟.
وهل خلق/وصناعة هذا الجمهور الثقافي، أو منظومة تقاليد ثقافية، هي مسؤولية المثقف، أم الجهات المنظمة أم المحيط، أم الإعلام والمنظومات التربوية،،،،؟
وهل ثقافتنا ترفيهية فقط وليست ثقافة وعي وفكر، هل هي ثقافة نخبة وليست ثقافة جمهور؟. وكيف نخلق هذا الجمهور. وهل يمكن أن تحدث المفارقة يوما ويصبح لدينا حقا ما يسمى بـــ"الجمهور الثقافي؟".
حول هذا الموضوع "غياب الجمهور عن النشاطات والفعاليات الثقافية"، كان هذا الملف في عدد اليوم من "كراس الثقافة"، مع مجموعة من الكُتاب والباحثين الأكاديميين، الذين تناولوا المسألة بمقاربات اختلفت وتباينت وتعددت في شرحها للأسباب والمبررات.
إستطلاع/ نوّارة لحـرش
عبد الكريم ينينة/ قاص
المشكل الحقيقي هو في غياب النخبة عن الفعاليات الفكرية و الأدبية
في البداية يجب الإشارة إلى أن الملتقيات والأمسيات الأدبية والفكرية ليس لها جمهور بالمعنى الذي تحمله كلمة "جمهور" بقدر ما لها رواد من النخبة والهواة والمهتمين لقد لاحظت ذلك طيلة عملي في الميدان لسنوات طويلة، ويخطئ من يعتقد أنه ينبغي لهذه الفعاليات أن يكون لها جمهور يملأ القاعة عن آخرها مثلما تمتلئ في أماسي الطرب وغيرها، غير أن الأمر صار مُلفتا لغياب الرواد والنخبة عن هذه الفعاليات الثقافية المخصصة لهم والمنظمة من أجلهم، إذ غالبا ما تُنظم في غياب الحضور غيابا شبه كلي، وهو أمر يشير إلى أن مرضا ما في مكان ما.
إذن، فالمشكل الحقيقي هو في النخبة وفي غيابها عن الفعاليات الفكرية مثل الندوات أو الأمسيات الأدبية لكثير من المثقفين، حتى إن كان هذا المثقف غير معروف، إذ يُفترض أن نتعرف عليه وعلى ما يقدمه، أو ما يطرحه للنقاش خدمة للمجموعة.
ثم من ناحية أخرى، لا يجب أن نقارن الفعاليات الفكرية التي تشترط في المتلقّي مستوى معرفيا معينا بالأخرى تلك التي يغلب عليها طابع الترفيه، أي من الخطأ مقارنة الفكر بالفرجة، ولا يرجع الأمر إلى شهرة الكاتب أو ما يقدم من مادة، بل يعود ذلك إلى طبيعة الفعالية في حد ذاتها.
دوما الفرجة تسرق الوهج من الفكر، ثم لا تلبث أن تأخذ منه السواد الأعظم من الناس الذين جبلوا على الاستسهال في غالبيتهم الساحقة، وفي التاريخ العربي نرى كيف انفض الناس عن النبي وهو يخطب فيهم الجمعة لما سمعوا بقدوم القافلة التجارية لـــ"دحية الكلبي" التي كان فيها مهرجٌ يؤدي ألعابه مع بعض الراقصين والمغنين، فلم يبق معه سوى اثني عشرة فردا، إذن فمشكلتنا قديمة إن صح المثال والتعبير.
ليس من مهمة المثقف والأديب خلق جمهور ثقافي وحده، هناك الإعلام والجامعة وقبلهما المدرسة، لأنه في الغالب يكون الكاتب نصا فيتحول إلى موضوع بحد ذاته، أو يصيرهما معا، وهذا ما تعمل له هذه المؤسسات عند غيرنا، بشكل يُعلي من التراكم الثقافي للبلد، ويخلق حركية إيجابية متوازنة ومستدامة داخل المجتمع، وفي الدول الغربية -على سبيل المثال- التي تهتم بالآداب والفنون، الكاتب فيها أعلى شأنا من الجميع، وأعلى من مطربيها وسينمائييها ومسرحييها، لأنهم يعلمون أن كل تلك الفنون هي نص مكتوب قبل كل شيء.
لنأخذ الإعلام عندنا كمثال، إنه من فرط عدم احترافيته يقتل حاليا في الجزائر (مثلما تقتل حوادث المرور) فنا عظيما مثل الشعر، أو القصة، لصالح فن الرواية، رغم أن الجزائر متفوقة عربيا في الشعر والقصة، وفاشلة روائيا مع بعض الاستثناء الذي لا يصنع مشهدا مهما، أعلم بأنه تقليد لما هو كائن في الغرب، لكن الذي لا يعلمه هذا الإعلام هو أن روايات الغرب الصادرة بآلاف النسخ تتحول إلى أفلام تُدر الملايين من الدولارات، ورواياتنا التي لا يتجاوز عدد طبع الواحدة ألف نسخة في أحسن الأحوال، يفشل صاحبها في توزيع ثلثها، ثم تتحول في ما بعد إلى موضوع نميمة بين الكُتاب، وليس إلى فيلم سينمائي، وفي مثل هذا الزمن المغشوش تُنظم الأمسيات الشعرية للتأكيد زورا على أنه لم يعد للشعر هواته أو قُرّاؤه.
وعند الحديث عن افتقار هذه الفعاليات للجمهور وفشل المنظمين، يجدر بي الحديث عن تجربتي الشخصية في ذلك، حين كنت على رأس دار الثقافة لولاية أدرار، مثال الملتقى الوطني (السرد والصحراء) لقد ذهبنا مباشرة إلى المُتلقي الطبيعي، إنهم الشباب طلبة الجامعة، مع دعوة النخبة من المواطنين، لكننا ركزنا على اتفاقية مع الجامعة تقضي بتحفيز الطلبة على تقديم عرض عن كل مداخلة يقدمها الأساتذة والنقاد في الملتقى، ليحسب ذلك ضمن نقاط إضافية تُمنح للطالب، فحققنا الجدوى من الملتقى بامتياز، فكانت القاعة غاصة، وكان النقاش نوعيا كما استفاد النخبة ومعهم الطلبة من المداخلات، والتقوا بالنقاد والكُتّاب وجها لوجه، إننا هنا نعمل على إيجاد نخبة، وصنع تقليد، وزرع بذرة، لعلها تُثمر في المستقبل.
بشير خلف/ قاص و كاتب
عادة المقاطعة لا تخص جمهور الثقافة
عادة، ملتقياتنا الثقافية، وندواتنا الفكرية يغيب عنها الجمهور الثقافي، ولا يتعلق الأمر فقط بالملتقيات التي ينظمها القطاع الثقافي، أو الجمعيات الثقافية، أو جهات أخرى محلية، ولكن حتى ما يُــنظم بالجامعة، حيث جمهور الأساتذة والطلبة موجود، لكن هذا الجمهور لا يهمّه عما يجري من حوله: فبعض الأساتذة يُقاطع الندوة لأنه على خلاف مع بعض أعضاء اللجنة المُنظِمة، والطُلاب لا علاقة لهم إلا بالدروس للحصول على العلامات. في الجامعة، وهذا ما لمسته في العديد من المرّات أن أساتذة وطلبة كلية الآداب لا يحضرون ملتقى، أو ندوة تنظمها كلية العلوم الاجتماعية، وبالمقابل لا يحضر هؤلاء ملتقى، أو ندوة تنظمها كلية الآداب وكلا الكليتين متجاورتان في نفس الجامعة.
بل في الجامعة بمجرّد أن تتمّ مراسيم الافتتاح، وتبدأ الجلسات العلمية لا يبقى في القاعة غير المُحاضرين الذين أغلبهم غايتهم الحصول على شهادة المشاركة للاستفادة منها في الترقية، أو الطلبة الذين عادة ما يحضرون تلبية لأمر أستاذة، أو أستاذ الاختصاص. نحضر اليوم ملتقيات ثقافية في هذه الولاية/المدينة، أو تلك لا نجد أثرا للجمهور الثقافي من المجتمع، تنظمها هذه الهيئة أو تلك، وكم يشقى منظموها في توجيه الدعوات، والاتصال بمن يعتقدون أنهم أهلٌ للحضور، وفي غالب الأحيان يكون الحضور مخيّبا للآمال. أتذكر أن المحاضرة، أو الندوة في السبعينيات، وحتى الثمانينيات في قاعة الموقار، أو في قاعة النفق الجامعي، أو قاعة اتحاد الكُتاب الجزائريين، أو فروعه، خاصة فرع وهران، وقسنطينة، وكذا المركز الثقافي الإسلامي، أو في جامعة الجزائر المركزية كانت القاعات تضيق بالجمهور من أطياف متعددة من المجتمع، كما كان الطُلاب يتسابقون على المقاعد مع الأساتذة، والجمهور أيضا من خارج الجامعة يظل فارضا حضوره حتى انتهاء المناقشة، أو المحاضرة.
في السنوات الأخيرة، وحتى في أيامنا هذه تُنظم هذه الجامعة، أو تلك ملتقى يتعلق بالشعر، أو بالسرد، أو المسرح، أو بالنقد، أو ما يتعلق بالإبداع الأدبي فلا تستدعي أي مبدع من خارجها، ومن يحضرون من المبدعين قـــد يكونون أساتذة، وما هو مؤكد أن الطلبة فيهم من سلكوا درْب الإبداع، ولهم مواهب وبإمكان الجامعة اكتشافهم، ورعايتهم، وإبرازهم في هكذا ملتقيات، ولكن لا يُلتفت إليهم، والعكس أن الملتقيات التي ينظمها القطاع الثقافي مركزيا، أو محليا لا يحضرها أساتذة الجامعات، ولا يُوصون الطُلاب بحضورها حتى يبرزوا، ويشاركوا في الفعل الثقافي في المجتمع، ومنهم سيتكون الجمهور المثقف الذي يُعوّل عليه مستقبلا، حتى النوادي الأدبية بأغلب الجامعات اختفت. قد يقول قائل: غياب الجمهور الثقافي من الساحة يعود بالدرجة الأولى إلى انتشار وسائل المعرفة الحديثة التي صار في إمكان الكبير والصغير، المتعلم والمثقف، الطالب والأستاذ الحصول عليها من مصادرها، وبأسرع وقت، ولا حاجة لهكذا ملتقيات وندوات، ومن ثمّة يرى عدد من المثقفين أن هذه الملتقيات الأدبية فقدت قيمتها وأهميتها، ولا أمل منها في التأثير على المشهد الثقافي، كما أن العديد من هذه الملتقيات هي تكرار مُــمِلٌّ لبعض المواضيع والوجوه، التي همّها في الحضور على المتعة السياحية أكثر من ممارسة الثقافة في الملتقى، كما أن تلك الملتقيات هدرٌ للمال، الذي من الأجدى صرفه في حاجات اجتماعية، كما أن التوصيات التي تخرج بها تلك الملتقيات كل عام مكررة، ودون متابعة لتوصيات الملتقيات التي سبقتها، ودون أن يحمل هم تنفيذ التوصيات الجديدة.
يبدو لي أنّ الجمهور الثقافي يأتي نتيجة التربية والتكوين، فالمنظومة التربوية منها تبدأ صناعة الجمهور الثقافي، من غرْس حبّ المعرفة، والتدريب على مهارات القراءة والمطالعة منذ السنوات التعليمية الأولى، وكذا استثمار حصص التنشيط في الاستماع إلى الإبداعات الشعرية، والسردية، والمسرحية، والتنافس الثقافي بين المؤسسات، لتكتمل صناعة الجمهور الثقافي في رحاب الجامعة، ضِفْ إلى ذلك أن العديد من القطاعات من مهامّها المشاركة في هذه الصناعة كالمجتمع المدني بكل مكوّناته، سيّما الأحزاب. السبب الأهمّ في رأيي عدم وجود إستراتيجية أو رؤية وطنية شاملة للثقافة، لا يوجد عندنا مشروع ثقافي قومي مؤسِس لثقافة وطنية. لا نعجب لمّا نجد المواطن العادي ينظر إلى الثقافة على أنها فعل فلكلوري، وتبذير للمال العام.. كيف يمكن إقناع هذا المواطن بأن الثقافة معرفة، وتنوير، وسلاح للرقي.
نبيل دحماني/ كاتب و باحث أكاديمي
المسألة تتعلق بالتنشئة الثقافية لدينا و بضعف أداء الوسائط الإعلامية
مما لا شك فيه أن النشاط الأدبي والفكري من خلال الندوات والملتقيات والمهرجانات الأدبية، هي ضرورة اجتماعية قبل أن تكون فنية أو ثقافية أو ترفيهية لسبب بسيط، يكمن في الدور الحاسم لمثل هذه الأطر في إحياء الفكر والوعي ونشر الخلق السليم والتفكير المهذب، غير أن واقعنا الجزائري والعربي عموما ينقل صورة مغايرة عن مثل هكذا نشاط، قد يعود ذلك لضعف النشاط في حده أو لانحصاره حول حلقة زبائنية مكررة لمسلسل درامي ممل كتلك المسلسلات المدبلجة. أو نتيجة ضعف أداء الوسائط الإعلامية والإعلانية والاتصالية بالشكل الذي يدفع الجمهور إلى الإقبال، فالإعلام هو الذي يصنع النجوم وهو الذي يدعو الجماهير لتتبع دقائق وثواني نجومهم المفضلة، ثم تأتي مسألة قد لا يوليها معظم المثقفين أهمية لكنها في غاية الخطورة تتعلق بالتنشئة الثقافية لدينا، ففي مدارسنا لا يقرأ أبناؤنا سوى لشعراء ماتوا، وليس لشعراء على قيد الحياة، معظمهم غير جزائريين. قليلة هي المدارس التي تحتضن أمسيات شعرية وأدبية يحضرها تلاميذها ويحتكون بشكل مباشر مع الشعراء والكُتاب والقصاصين، أو تتوفر عن نوادي ثقافية كنادي المجلة والإذاعة والفنون، وتلك مفارقة عجيبة لدينا عربيا وجزائريا، فالذي لم يتعلم يوما لغة القلب والعاطفة كما كفر ذات يوم لغة الفكر والإبداع، لا يمكن أن نطلب منه شيئا في المستقبل. كل هذه العوامل وغيرها جعلت من منظوماتنا الاجتماعية والثقافية والتربوية ترزح تحت وطأة الجهل بذواتنا، فكيف بنا نعي ذوات غيرنا؟ نحن شعب لا يقرأ بامتياز، ولا نريد أن يخاطبنا أحد بفعل "إقرأ"، ولكننا ننافق فكريا وثقافية ودينيا واجتماعية بادعاء: "إننا أمة إقرأ". هاته هي مشكلتنا الأولى، فكيف بنا نسعى لتحريك جمهور باتجاه ندوة ينشطها أناس يقرؤون، إن ذلك في مجتمعنا وللأسف مدعاة للسخرية، خاطبني أحد ذات يوم على هامش ندوة حين سألته لمَ لمْ تحضر؟ فقال لي بصريح العبارة: (ليس لدي وقت كي أضيعه مع "فارغين شغل")، هكذا ينظر المجتمع للثقافة والأدب، وما زاد الطين بلة أن إعلامنا استقال مذ زمن بعيد من الثقافة والفكر بعدما اختصرهما في كعب "ليلى علوي" وجاكيت "عمر ذياب".
قليلة هي الوسائط المتمسكة بنقل الفعل الثقافي والتعريف بشخوصه أو المساهمة في صناعته، فعلى سبيل المثال لا الحصر، حضرت مرة أمسية شعرية للشاعر محمود درويش بالقاعة البيضاوية ولم يكن الدخول إلى القاعة بالأمر الهين، ولا بالمجان، لكن رغم ذلك فالقاعة راحت تئن تحت وقع الضغط والأعداد الكبيرة من الحضور، لأن درويش شاعر القضية الفلسطينية، ولأن درويش صناعة إعلامية عربية وعالمية، حتى صاحب "التأشيرة" الجخ صنع الحدث، لا لشيء سوى لكونه ارتبط بحدث بعينه وساهم الإعلام في الترويج له، على خلاف الشاعر بوزيد حرز الله، الذي يجهل الكثير وجوده أصلا رغم أهمية هذا الصوت وقامته في الشعر الجزائري والعربي. إن الإنسان الجزائري اليوم لم يهجر المسارح والمكتبات والنوادي الأدبية والفكرية فقط حيث خِطاب الثقافة والفكر، ولكنه أيضا هجر مدرجات الجامعات وتلك طامة كبرى، إننا نعيش مرحلة موت الذائقة الأدبية وموت الذات الشاعرة والمبدعة في مقابل انتعاش ذوات مشوهة ذائقيا وعاطفيا ونفسيا وحتى اجتماعيا، في الوقت الذي راجت فيه تجارة السخف والميوعة.
خالد بن صالح/ شاعر
الأسرة هي المتسبب الأول في غياب الجمهور
إن غياب الجمهور، حتى النخبوي عن النشاطات الثقافية، يشكل حلقة مفقودة، بين المبدع والمُتلقي. ولا يمكن اتهام طرف بذاته، لأن المشكل معقد، تشترك عدة عوامل وأسباب في استمراره على مدى سنوات طويلة. لعل الحديث عن التقاليد الثقافية في هذا المجال، تفتح باب الحسرة والأسف. وفي محاولة قد تكون فاشلة في مقاربة هذا الإشكال أقف أولا عند دور الأسرة، التي غالباً ما تعتبر اهتمام أبنائها بأي شكل من أشكال الإبداع، كالمسرح أو الرسم أو الشعر، ترفا زائدا ولا حاجة لهم به، بل هناك من الآباء من يمنع هذا الاهتمام ويبني جدارا مانعا باسم الدين والأعراف ونظرة المجتمع.
ينتقل هذا الهواء الملوث إلى المدرسة، ليختنق التلميذ الموهوب به، ويجد نفسه في الكثير من الأحيان، أمام حواجز يصعب تجاوزها، وحتى إن كانت هناك أنشطة ثقافية تظل تقليدية، وتخضع للنهي والأمر وكل ما يحد من حرية التطلع والسؤال.
على هذه الحال بقيت المؤسسة الثقافية الرسمية منغلقة هي الأخرى، دون محاولة للخروج بطريقة مبتكرة لتقديم أي عمل فكري وإبداعي للجمهور، وتنحسر تلك المساحات في حلقات حضور قليل جدا، قد لا يتعدى أصابع يدين اثنتين ويكون من معارف أو أقارب صاحب النشاط.
لا يمكن تحميل المسؤولية لأحد، ولكن لا يمكن لأحد أن يتنصل من المسؤولية حتى الكاتب والمثقف نفسه. لا زالت الجدران تمنع القصيدة، وأتحدث هنا كشاعر، من أن تخرج للشارع، أن تختبر أمكنة جديدة وفضاءات لا يحتاج أن يرتدي فيها المبدع ربطة عنق، تتحول إلى حبل مشنقة مع مرور الوقت وتكرار المشهد الجامد.
تجربتي بسيطة جدا، لأدلي برأيي، ولكنني أدعو لأن تساهم وسائل الإعلام، كما الجمعيات والفضاءات التي يجب أن تتبنى المشاريع الجادة، لتقديم أي إبداع، بطريقة حديثة وحداثية يمكن لها أن تستقطب المتلقين، الذين سيحبون الاختلاف والابتكار والتجريب، بأساليب يمكن لنا أن نفكر فيها بجدية ورؤية فنية واعية.
يمكننا في المقابل، أن لا نعتقد أن هذا العزوف عن الأمسيات الأدبية وعروض المسرح، مشكلة محلية، لكننا مطالبون كمبدعين، أن نستمع لبعضنا البعض، وأن نحتفي بمنجزاتنا، وننتقدها، دون تجريح، ولا شخصنة، أن نؤمن بالتراكم والتفرد، بالكم والكيف معاً، ونحن أشد البلدان فقراً إن أحصينا زادنا السنوي من الأنشطة، التي تندثر بمجرد انتهاء المناسبة. أعيد وأكرر، التقاليد الثقافية التي نفتقدها ككُتاب ومبدعين، في التعامل مع المشهد بغثه وسمينه، تنعكس بلا زيف في مرآة، يستحيل أن يرى فيها المتلقي ملامحه بوضوح.
اليامين بن تومي/ روائي و باحث أكاديمي
الجماهير لم تتكون تكوينا يجعلها تهتم بالثقافة
تعاني الملتقيات الثقافية عادة غياب الجمهور، بل لنقل تعاني عزوفا كليا عن حضور هذه الفعاليات، وذلك لأسباب تتعلق أساسا بالبنية الثقافية للجماهير التي لم تتكوّن تكوينا يجعلها تهتم بالثقافة، يتعلق الأمر في منظوري بعدم وجود طبقة ترعي وتحمي مثل هذه النشاطات، أقصد هنا الطبقة المتوسطة التي عرفت انكماشا رهيبا بعد أحداث 1988، واتساع طبقة الفقر والحرمان في المجتمع.
الفقر عادة لا يفكر ولا يهتم بالثقافة ولا بتبعاتها، لأنه فقط يعمل على حماية الوجود المادي، ففي البيئات الفقيرة تكثر الكرنفاليات والشعبوية والكوميديا، أما الأمور الجادة والمصيرية فهي أبعد ما تكون عن تلك الطبقة، لذلك قبل أن نتحدث عن الملقيات الثقافية علينا وضعها ضمن تحليل ماركسي يكشف عن الهوة الرهيبة في البنية الاجتماعية، وهذا يجر حقيقة اختلافا رهيبا في الموضوعات، بين موضوعات الأغنياء وموضوعات الفقراء، وبين هذه الطبقة وأخرى تضيع الاهتمامات الجوهرية التي توجه المجتمع، لغياب حاد في الطبقة المتوسطة التي تعمل عادة ما يخالف مصالح الطبقة الغنية وموضوعاتها.
ثم إن التحول السياسي والاقتصادي في البلد سرَّب جملة من القناعات عن عدم جدوى الثقافة حيث حصل تحويل رهيب للقيم والأخلاقيات جعل كل القيم الفاعلة مادية، أما القيم العقلية والروحية فقد صارت بالنسبة للناس لا عمل لها، بل ليس لها فاعلية تذكر.
هذا دون أن ننسى أن الأزمة الأمنية في الجزائر قضت على المتبقي الثقافي لدينا، أصبح اهتمام الجزائريين وشغلهم الشاغل هو الحياة في أصلها، ولا حلم لهم فيما يترتب عن كمالياتها، حيث يصبح التمسك بالحياة كقيمة أهم من الخوض في الكماليات المصاحبة للحياة ذاتها، هذا الأمر ولَّد غيابا للمرافق الثقافية لمدة زمنية طويلة أنشأت جيلا غريبا ولا علاقة له بالثقافة، ناهيك عن عقلية التحريم التي تسربت إلى هذا الجيل عن هذه الملتقيات أو المهرجانات، فالأزمة الأمنية وانحدار القيم وتشييء الحياة جعل الجزائري يشعر بلا جدوى الفعل الثقافي ذاته. كل هذا أدى إلى فراغ رهيب في الساحة الثقافية وما يتعلق بها.
وبالتالي فعزوف الجمهور عن الملتقيات ضمن الإطار الذي قدمناه يكشف البنية المتهالكة للمجتمع المفرغ من أشياء الثقافة، كقاعات السينما والمسارح وغيرها من المؤسسات، فعن أي جمهور نتحدث ونحن أفرغنا الحياة الثقافية من مؤسساتها، لذلك ما يمارس عندنا لا يعدو إلا أن يكون مجرد كرنفاليات لا علاقة لها بتصور الجمهور لا بفعل الثقافة.