الكاتبة التي ذهبت في كلّ الرياح وظلت جزائرية
حلت هذا الأسبوع، الذكرى الأولى لغياب الكاتبة والأديبة الكبيرة آسيا جبّار (فاطمة الزهراء ايملحاين: 30 جوان 1936/ 6 فبراير 2015). طفلة شرشال التي خلدت اسمها بإرث كبير من الكتابة والفن والتأريخ والتوثيق والسينما. تعود اليوم بمناسبة ذكرى غيابها، من خلال هذا الملف التكريمي المرفوع لها ولذكراها ولقبّراتها وأهازيجها. وفيه يستحضرها بعض الكُتاب الذين اشتغلوا على أدبها من خلال هذه الشهادات والمقاربات المفتوحة على سيرتها وأثرها الفني والأدبي.
آسيا جبّار، الشخصية العربية الأولى التي تنتخب عضوا في "مجمع الخالدين" في الأكاديمية الفرنسية للغة العام 2005، وأول كاتبة عربية تفوز عام 2002 بجائزة السلام التي تمنحها جمعية الناشرين وأصحاب المكتبات الألمانية. مرت مرورها الأثير في الحياة، وخلدت اسمها عاليا في سماء الأدب والفن. ترجلت عن الحياة واستمرت في الخلود.
صاحبة "نوبة نساء جبل شنوة" الذي نالت به جائزة وتقدير لجنة تحكيم مهرجان البندقية عام 1979. والتي كانت تقول: "أكتب ضدّ الموت، أكتب ضدّ النسيان، أكتب على أمل أن أترك أثراً ما". يحتفي بها "كراس الثقافة" في عدده اليوم نكاية في النسيان وطقوس النكران. ففي الوقت الذي مرت الذكرى السنوية الأولى لرحيلها بصمت مطبق في بلدها الجزائر، اختارت الهيئة المُشرفة على الدورة الـــ22 لصالون المغرب العربي للكِتاب الذي ستحتضنه العاصمة الفرنسية باريس يومي 13 و14 فيفري، الاحتفاء بصاحبة "لا مكان في بيت أبي"، و"القبرات الساذجة"، وتكريمها كشخصية العام.
إستطلاع/ نوّارة لحـرش
السعيد بوطاجين/ ناقد، كاتب ومترجم
لها مؤهلات أعلت من شأن منجزها وجعلته متداولا عالميا
بصرف النظر عن غيابها عن الترجمة إلى العربية لأسباب مجهولة، كما أشرت إلى ذلك في مناسبات، فإن أعمال آسيا جبار، كاتبة ومخرجة ظلت مهمشة في البلد، كما همّش مالك حداد وغيره لأسباب يمكن التطرق إليها في سياقها لكنّها، في كل الأحوال، عوامل تسببت في إغفال أقطاب وأعلام وظواهر أدبية وفكرية مكرّسة على المستويين العربي والعالمي.
لقد بنت الروائية جلّ منجزها الأدبي انطلاقا من معرفة نصية ووعي بنيوي مميزين، وعلى مرجعيات لم تتخلّ عن هويتها السردية كجزائرية. هناك، من جهة، هذا الزاد الذي ظلت تؤثث به إبداعاتها بحيث لا يمكن قراءتها إلاّ من خلاله، وهناك، من جهة أخرى، الحكاية، التي كانت، من منظوري، في درجة أدنى مقارنة بالإحالات التاريخية والفلسفية، كأن هذه الزاد كان جوهرا، أو موضوعا مركزيا ما كان للرواية أن تكون من دونه. وهذا أمر ساهم، بشكل كبير، في جعل نصوصها راقية وعالمة، أو مفتوحة على عدة إحالات غدت ناموسا في كتاباتها قاطبة.
وهناك، من جهة ثانية، مفهومها للتاريخي والفلسفي، على عكس بعض الطرح التبسيطي المهيمن على نصوص لم تضع فاصلا بين الواقع والمتخيل، بين الحقيقة الإملائية والأشكال التخييلية التي تتجاوز الحرفية، أو تركز عليها لاستثمارها فنيا، دون أن تصبح نسخة مطابقة للواقع والتاريخ، ودون أن تلحق ضررا بالمنظور الجمالي الذي يعد أساسا في الفعل الإبداعي.
تتعلق السمة الأخرى بمنظورها للبنية في حد ذاتها كتصوّر، وكفلسفة وعلم وممارسة. أشير ها هنا إلى البنية في علاقاتها السببية بالمحيط الخارجي وكمجموعة من العلاقات الداخلية التي تنتج نصا عارفا ومتكاملا بحيث تصبح كل عناصر دالة ووظيفية، وليست مجرد ترف ذهني عابث لا يعي أشكال التواصل وقيمتها الدلالية، لا يدرك علاماتها ومدلولاتها، ولا يقدّر آثارها الفعلية كخيارات واعية.
لقد سعت آسيا جبار إلى خلق مجاورة حقيقية بين الدال والمدلول، بين العلامة وإحالاتها، أي بين الأبنية كأجزاء متراصة ناتجة عن وعي بنائي ما، حتى في تشتتها وتشظيها، على مستوى الأزمنة والنظام المقطعي والجملي، وهذا في حدّ ذاته نجاح باهر يحتاج إلى وقفات كثيرة للكشف عن أهميته ومدى قدرته على خدمة السرد.
آسيا جبار أيضا هي مجموعة من الخلفيات والمعارف التي لا يمكن القفز عليها، لقد ظلت مرتبطة بالتاريخ. أمّا القائلون بأنها خدمت اللغة الفرنسية والموروث الفرنسي، فذاك شأنهم، وقد يحتاج هذا الموقف إلى مراجعة ومساءلة تأسيسا على النصوص، وليس على الخطاب الشفهي الذي لا يبني على القضايا العينية. كما يمكننا اعتبار ذلك موقفا من المواقف الممكنة التي يتعذر الحسم فيها، على الأقل في السياق الحالي، خاصة عندما تكون أدوات القياس مائعة. إنما وجب الإشارة إلى أن فاطمة الزهرة إيمالاين (آسيا جبار)، اشتغلت كثيرا على التراث العربي الإسلامي، ولم تبتعد كثيرا عن الجزائر بمختلف مقوّماتها، مع إمكانية فتح نقاش أكاديمي يخص بعض القضايا اللسانية، وغيرها من المسائل التي تستدعي ضوابط فنية وجمالية، بعيدا عن الأيديولوجي الصرف الذي له منطلقات أخرى. أقصد ها هنا مسألة الكتابة بالفرنسية، ومضمون الكتابة بهذه اللغة. وهل يمكن للغة وحدها أن تحدد قيمة الكتابة ووظيفتها وأثرها؟ مع العلم أن هذا الجدل قد يأخذ وقتا، وقد يستثمر بشكل تستفيد منه الجماعات السياسية، وليس الأدب.
ليس لنا أن نأخذ بكتاباتها كحكايات بسيطة نستمتع بشخصياتها وننتظر مساراتها ونهاياتها ذلك أن هذا الموقف الخافت لا يضعها في مكانها الحقيقي. إنها، إضافة إلى الحكايات المثيرة، طاقة معرفية ولسانية كبيرة، لآسيا جبار مؤهلات ثقافية وتاريخية وتراثية وسينمائية أعلت من شأن منجزها وجعلته متداولا عالميا، مفتوحا على الأمم واللغات. هذه المعرفة هي التي كرّست إبداعاتها ساهمت في انفتاحها على قراءات وتأويلات يصعب ضبطها بشكل نهائي، قراءات نصية وغير نصية تستحق التنبيه إليها، بصرف النظر عن بعض الرؤى التي تهمها ككاتبة حرّة تتحمل مسؤوليتها، ذلك أنها لا تمزح مع الجملة السردية وقيمتها، ولا تتخذ الرؤية كموقف عابر لا يبني على مفهوم متقدم، وعلى وعي له مقوّماته. المؤكد أن مواقفها تحتاج إلى مقاربات أخرى، ومن تموقعات متباينة لا تحصرها في زاوية أحادية منتهية، ولا تحكم عليها انطلاقا من مواقف متصلبة، لا مسوّغ موضوعي لها.
إننا نتذكر طاقاتنا متأخرين جدا، ولا نتحدث عن هذه الأسماء إلاّ كأموات يستحقون أن نتعاطف معهم، تماما كما نفعل مع العقل الذي عادة ما يظل مهملا إلى أن يهاجر أو ينطفئ، وعندها فقط نشيد بعبقريته وخصاله، وهنا تكمن المشكلة. علينا، إن كنّا نريد احترام هؤلاء، أن نهتم بهم كأحياء، مهمّين وضروريين، وليس كأموات فحسب، أم أنهم أخطأوا إذ لم يموتوا قبل الأجل لنكرّمهم ونحتفي بمنجزهم؟.
أمين الزاوي/ روائي
قلم امرأة بجيش من الحساسية وبكومة من الألم والمواجهة
عرفت آسيا جبار عن قرب في لقاءات وأمسيات أدبية، كان آخرها أمسية أحييناها معا في أوبرا سترازبورغ بفرنسا، إنها امرأة امتداد لنصها، أنثى، نثى، أنثى، شغوفة بنفسها، بجسدها، بمنظرها، بهيئتها، بهندامها، بماكياجها، بتفاصيل ما فيها وما عليها، كاهتمامها وكشغفها بنصها، بلغته، بموسيقاه، بالشخوص المستحضرين فيه، شخوص قادمين من التاريخ أو من الحاضر، من الأصدقاء أو من المثقفين الذين تحترمهم اختلافا أو اتفاقا، من الأسرة وما أصعب الكتابة عن الأسرة، خاصة حين يكون القلم قلم امرأة بجيش من الحساسية وبفيالق من الملاحظات وبكومة من الألم والمواجهة...
ما أصعب الكتابة بشكل عام في العالم العربي والمغاربي، وأصعب من ذلك أن يكون الكاتب امرأة. فإذا كانت شهادة المرأة في الشريعة تساوي نصف شهادة الرجل، ففي الكتابة شهادتها هي ضعف شهادة الرجل أو أكثر من الضعف، لأنها ترى ما لا يراه، ترى ما تحجبه عنه الثقافة الذكورية المستفحلة في مفاصل الشأن الثقافي والسياسي والاجتماعي والأخلاقي.
كانت آسيا جبار كاتبة بشهادة تعادل صوتين أو أكثر من أصوات الذكور الذين لا ذكورة فيهم سوى الاسم الذي لا يحمل تاء التأنيث العربية الإسلامية.
حين دخلت آسيا جبار دار الخالدين، الأكاديمية الفرنسية العام 2005، رجمها أهلها، ملصقين فيها تهمة الخيانة، تهمة "حزب فرنسا"، والحزين أن من الذين هاجموها كانوا من الكُتاب، لا أتحدث عن الكُتاب المعربين، فهذا منتظر، خاصة من المعربين المتزمتين الذين لا يزالون يعتقدون بأن الجزائر، على المستوى الأدبي، ملحقة بالرياض أو القاهرة أو دمشق أو دبي البترو دولار في العشرية الأخيرة، لكني حزنت إذ وجدت من الذين وقفوا ضدها كانوا من الكُتاب باللغة الفرنسية، من الذين يُصنفون في صف الكِبار، وهم يعرفون بأنها المجاهدة أيام الثورة والمجاهدة سينمائيا وروائيا والمكافحة ضد جميع أشكال "تقفيص" المرأة وترويضها.
أنا لا أحب كثيرا أدب آسيا جبار، هذا ذوقي الأدبي باستثناء روايتها الأولى "العطش La Soif" ولكني أحب وأقدر شخصية آسيا جبار المثقفة المبدعة، بعنادها ومثابرتها واجتهادها ومقاومتها للصوت الذكوري الوصي في العالم العربي الإسلامي الذي يصادر حرية المرأة فكرا وثقافة وحياة، حيث يضعها في خانة الفئة غير الراشدة، يضعها في خانة الأحمق والمراهق، نصف صوت شهادة!!.
بعد وفاتها تسابق الذين لم ينتبهوا إليها طوال نصف قرن من الكتابة ومن تاريخ الدولة الوطنية، لم يقرئوها، لم يراهنوا عليها، تسابقوا لأن الميت استثمار سياسي أيضا، تجارة فيها ربح وفير، حتى ولو كان هذا الميت من حجم آسيا جبار، والخرجة أنهم صنعوا، أقول "صنعوا"، لاسمها جائزة أدبية، سموها على بركة الله: "جائزة الرواية آسيا جبار"، ومثلما فعلوا سابقا بجائزة الرئيس للرواية، فعلوا بجائزة آسيا جبار للرواية، أي جاؤوا بها ميتة، لقد ولدت جائزة آسيا جبار للرواية ميتة، النهاية في البداية، نحن نلعب ثقافيا بأسماء الكِبار ونحولهم إلى ما يشبه الكرة المصنوعة من جورب يلعب بها في حارة شعبية، لماذا هذا البلد، ممثلا بالمؤسسات الثقافية فيه، لا يعرف كيف يقدر مثقفيه ومبدعيه في حياتهم وفي مماتهم، أسماء كثيرة تستحق أن تكرم كرموز إبداعية من خلال خلق جوائز باسمها، لكنها حوربت في حياتها وفي مماتها، على سبيل المثال: "جائزة محمد أركون للبحث الفلسفي والفكري"، جائزة "جمال الدين بن الشيخ للحداثة الشعرية"، جائزة جمال عمراني "للبرنامج الإذاعي للشعر"، جائزة أبو القاسم سعد الله "للدراسات التاريخية"، جائزة أبو العيد دودو "للترجمة".... تعبت....
لقد انتهت جائزة آسيا جبار يوم أعلن عن المتوجين بالجائزة، مع احترامي للأسماء التي حازت على هذه الجائزة، ولكن هل يعقل أن تدخل روائية مثل "مايسة باي" هذه المسابقة بروايتها "حيزية" التي كانت في قائمة جائزة فيمينا ثم تُقصى، وهي التي تحتفل هذه الأيام بالذكرى الأولى لوفاة آسيا جبار، احتفال تنظمه بلدية باريس بالتعاون من جامعة السوربون، نعم هذا أيضا بلاغ للنائمين في الجامعة الجزائرية، كيف تتذكر باريس من خلال بلديتها وجامعاتها وأيضا المجتمع المدني الثقافي آسيا جبار ونحن ننساها أو نتجاهلها.
على كل حال، شكرا كبيرا لجريدة النصر، شكرا لملحقها الثقافي على هذه الوقفة، وعلى هذا الحس الحضاري الأدبي تجاه آسيا جبار، كاتبة صنعت صورة للجزائر في أرقى مؤسسة ثقافية أوروبية وعالمية.
ميلود حكيم/ شاعر ومترجم
كانت تعتبر الكتابة إنقاذا لما يزول ويتلاشى و انتصارا للهوامش المنسية
لا نفلت من سحر الراحلة آسيا جبار، ولا نملك إلا أن نتخيلها غائبة في رحلة ما، أو منزوية في شقتها النيويوركية، أو لاجئة مع الأصوات التي تحاصرها في ذاكرة مجروحة بانتظارات تشبه ظهيرة قائظة في مدينة ساحلية، ولتكن "شرشال"، وليكن للأزرق اللازوردي فيض ما تتركه النوارس وهي تقطع برفّة السماء الملتصقة بالبحر، وليكن للصيادين العائدين من رحلة البحث عن الرزق، وهم يكررون بدون ملل هذا الذهاب والإياب المنتصر لأسلاف روضوا الموج، ونبتوا على صخور الساحل كنظرة جريحة لا تجد ما يواسيها، غير الهواء العليل لأحراش ما زالت تدفع بهم إلى المغامرة.. ليكن لهم ذلك الصمت الآسر في الأبدية الزرقاء للأعماق.
بعد عام من رحيلها، لا يمكن أن نستعيد حضورها دون أن نترك للتداعي البسيط، وللعفوية المنطلقة، أن تقودنا وتدلنا. فبعد أن تنتهي الإحتفاءات الرنانة، والخُطب المتشابهة للجنائز، تأتي تلك اللحظة الطالعة من الصمت، أو من تلك الحميمية التي ترافق القراءة المستمتعة للأثر، أي لتلك العلاقة الفاتنة التي تأسرنا ونحن نسافر مع كِتابات الراحلة.. هنا يرشد خيط سحري وفاتن روبصتنا الهاذية، وهي تحاول أن تجد مسارات سالكة في المتاهة المدهشة لنصوص الراحلة آسيا جبار، حيث ما يدل يبقى خفيا ومتكتما.
وقد استوقفني في هذا الاستحضار اليقظ لروح الكاتبة التي كانت تؤمن بحضور الأصوات وتأثيرها، وكانت تعيش معها، لأنها كانت تنقذها من النسيان المحذق والكآبة السوداء، هي التي كانت تعتبر الكتابة إنقاذا لصنيع يتلفه الزمن، وانتصارا للهوامش المنسية، وتخليدا لمن بقوا طيلة أعمارهم في الزوايا الظليلة لكسور وخدوش هي ميراثهم الوحيد، ولمن لم ترافقهم جوقة، وهم يعلقون أصواتهم في سطوع الشمس هبة للبحر والأحراش، كما يعلقون القديد ليجف مانحا للحكايا ملحها وحظها من إغفاءات الوله الباذخ بمسراته ومكره.
قلتُ استوقفني ما كان يسحبها في وحدتها إلى مناطق الوحشة الصافية، والانتباه الجريح لمن غابوا ورحلوا، وكيف تُحييهم وتعود بهم من بياض الغياب... هنا أعود إلى كِتابيها "بياض الجزائر" و"فسيح هو السجن"، الذين وجدت فيهما حشرجة الصوت الراجف بنبرة مخدوشة بثقل الذكرى، والتفاصيل التي تصنع حياة، وتشكل صداقات وامتلاء فاتنا للزمن، ومحبة تتغذى من ذلك الألق الباقي للقسمة التي تنقذ ما يزول ويتلاشى، لأنه في آخر المطاف لسنا إلا أشباحا عابرة، وأطيافا مسافرة. تقول عن الكِتابة: "لوقت طويل، اعتقدت أن فعل الكتابة هو فعل موت، موت بطيء. أن نطوي متقرين كفنا من الرمل أو الحرير فوق ما عرفناه، متحركا بشدة، خافقا. إنفجار الضحكة المجمدة. بداية النحيب المسحوقة. نعم، لوقت طويل، لأنني وأنا أكتب، كنت أتذكر نفسي من جديد، وكنت أريد أن أجد مرتكزا ضد حاجز الذاكرة، أو ضد قفاها الغبشي، المخترق رويدا رويدا ببرودتها. الحياة تتشظى، والأثر الحي ينحل".
في هذا البوح الجريح تتجلى علاقة الكِتابة بالموت، باعتبارها إنقاذا لما يزول ويتلاشى، وانتصارا على الزمن بتخليد ذلك الامتلاء الذي نسميه أعمارا أو وجودا.
ثم في كِتاب "بياض الجزائر"، وهو كِتاب رثائي جميل عن ثلاثة أصدقاء لآسيا جبار اغتالهم الإرهاب الأعمى، في محنة الجزائر وهم "محفوظ بوسبسي"، و"محمد بوخبزة"، و"عبد القادر علولة"، تتوغل الكاتبة في معنى الموت والغياب، وتعتبر نصها استجابة لإلحاح الذاكرة الفورية، بعد موت أصدقائها، رغبة في أن تواسي نفسها بحكاية بعض تفاصيل الصداقة.
أنا أستحضر آسيا جبار اليوم، في هذا الأفق الذي فتحه الكِتابان أمامي، لأتأمل معنى رحيل الكاتبة، وأسئلة المشهد المجروح والناقص للفضاء الثقافي والإبداعي الجزائري، والذاكرة المثقوبة والمعطوبة، والتي تنسى لأنها لا تملك ذلك المهماز الذي يضيء المناطق المعتمة.
آسيا جبار كانت كهاجر الراحلة والمطرودة، تبحث في اللغة عن مكان، وتؤسس في القفر لأمة من المنفيين والباحثين عن ألق المعنى في ليل الصحارى. ألم تقل في "بياض الجزائر": "ما أن يموت الكاتب، وقبل أن تُفتح نصوصه، تتقاطع حول جسده المدفون وتتشكل عدة جزائر". تقصد هنا الكاتب الجزائري والنص كُتب أثناء سنوات الإرهاب، أين تعرض الكثير من المبدعين للاغتيال. هنا أترك للتأويل أن يتهجى اسم الجزائر المتشظي في فراغ الجهات الخمس.
أحمد خيّاط/ ناقد ومترجم
آسيا جبار والذات الكولونيالية
يتوخى الأدب الكولونيالي، أسلوبا فلسفيا يشكّل العبث فيه بؤرة مركزية، هي بوابة الرؤى، لم يكن للمستعمر سواها ليبصر الجزائري مطرودا من الوجود يبتلعه الفناء حتميا كفراغ أكثر رعبا من الانتحار.
لعلّ مقارعة التاريخ في روايات آسيا جبار هي المعادلة الصوفية التي تحتضن فلسفة العبث صيرورة هباء ومغامرة غير مجدية، مفرغة من الأمل يبدو الكائن فيها معزولا عن كل شيء قدره بعد التضحية العزلة والفشل الذريع.
تظهر الذات الأنوثة في كتابات آسيا جبار أيقونة قد تساعد في بداية الأمر على الانفلات من مأزق الفراغ، إلا أنّها تضمحلّ عبر مستويات السرد وينطمس طريقها المؤدي إلى سلطنة الحب في العالم. يتواصل السرد بصور بلاغية ومجازية تشكّل جسدا أنوثيًا غير ذي قداسة يُعيق الذَكر على اعتناق الحب، بل يُحتّم عليه الشكوك والتخوف حتّى وإن التقت الذوات -الذكر والأنثى- تظلّ متأرجحة بين الظنون والانطواء، تقترب تارة، وتتقابل وتبتعد تارة أخرى، وتستبدل العشق بالانكفاء. تبخّر ماء الوعي والحكمة فلم يعد في إدراكها ما يعارض الشتات وصياغة اللامعقول ليتّخذ شكله ثمّ بنيته التي ترفض اللغة سندا.
ليس سوى اللغة التي تبسط سيادتها على اللامعقول بامتصاص مضامينه وتحويله إلى التزام سلوكي جمعي ومنبع روحي متدفق في لحظات حاسمة باتجاه العالم فتجنّبه التحول إلى تجربة نفسية تعيسة وقنوط ومعاناة تلحق العطالة جرّاء ذلك بالذات مثلما حدث مع لوكيوس.
يتوقف جسم المرأة في رواية "الظمأ" عن الإشعاع بالأنوثة والتشهي باللحظة السديمية الأبدية كونها منعرجا حاسما لزرع بذرة الحياة، فينحرف نشاط الشخصيات النسوية في الرواية إلى التكلس والاحتباس، فهي من جهة تُناغي شمس التبريزي منذ أول تجربة روائية (1957) إلى بوابات الاعتراف وتتجاهل رسالته الروحية: "كن عاشقا قبل نهاية الطريق"، ومن جهة أخرى تعرض شخصياتها النسوية للتعري كي تصبح كُتلاً لحمية تُشاهد عن قرب ومُعرضة للغياب إذا ما اتّسعت المسافة.
تلك هي صور العين الكولونيالية، لا تخشى الرقابة فضلا عن أنّها تبصر كما تشاء، فكانت ترى الإنسان الجزائري حشدا من الأشياء كالحجارة أو جذوع الأشجار مسندة بعد اقتلاعها أو حرقها. هكذا استلفت الروائية عين الرسام Delacroix والرّحالة الفرنسيين الذين كان بصرهم تمرينا ذهنيا يصور الأهالي كائنات رديئة ينبعث منها القلق كما تظهر مضطربة ومنهكة تحرّكها في سردياتهم وظيفة أيديولوجية (ج.جينات) وتلاحقها الأمراض النفسية التي تفصلها عن عالم البشر السوي.
ماذا تعني أحداث رواية الظمأ (La Soif) حين تكتشف جدلى أنّ صديقتها نادية تزاحمها في زوجها وتعترف لها بعشقها الدنيء وفي الوقت ذاته تفكّر في الزواج من علي؟ بينما تغوص جدلى في معاناة أليمة تنصرف نادية ذات العشرين ربيعا غير مبالية كسيارتها التي تشبه فرسا حرونا، تنزل إلى البحر لتستحم في مائه البارد، في الأماكن الخالية بعيدا عن الأنظار حيث تتمتّع بمداعبة الحصى لجسدها الطري لتعود في المساءات إلى غواياته ا(Turpitudes).
تتقاطع صورة الثعبان بصورة الجزائري عندMérimée وJ.Teisson من فرط التوهم إلا أن آسيا جبار جعلت من الأنوثة في روايتها "الظمأ" أفعى لم تكترث لموت جدلى. وأمّا لهذه الصورة البشعة عن أقدس المخلوقات على أنه رهط يفسد ولا يصلح حكاية أخرى في فلسفة الاستعمار وتشريع نابليون قد أشار إلى وجه منها فرانز فانون رحمه الله.
مرزاق بقطاش/ روائي ومترجم
ظلت جزائرية مبنى ومعنى
حدث آخر لقاء بيني وبين الروائية، آسيا جبار، عام 1990 في مقر دار نشر "لافوميك" التي ما عاد لها أثر يذكر في مضمار الطبع والنشر. وكنت يومها رفقة الشاعر والروائي القتيل، الطاهر جاووت.
سألتني آسيا جبار عن الإبداع الأدبي، وهي تحدق في غلاف روايتي "عزوز الكابران" التي خرجت طازجة من المطبعة، فقلت لها ببعض الامتعاض: "مشكلتي تكمن أساسا في الذهاب إلى السوق لابتياع البطاطا والحليب والخبز وغيرها من أمور البيت الأخرى. أما هموم الكتابة فإنها بلا نهاية، ولذلك فأنا لا أحب التحدث بشأنها". علقت هي قائلة: "أما أنا فلست أعرف شيئا من هذه الهموم، يا صاحبي. جهودي كلها منصبة على الكتابة بلا توقف".
قلت لها: "أنت محظوظة، أيتها الروائية، بالقياس إلى كل من يتناول القلم في هذه الجزائر". وكنا على وشك السقوط في هاوية لا قرار لها، والانهماك في إحصاء قتلانا وجرحانا وأولئك الذين نال الإرهاب الهمجي من صحتهم العقلية. وكنت قبل ذلك قد التقيت بآسيا جبار عدة مرات في مقر وزارة الإعلام، خلال السبعينات من القرن المنصرم، أي، أيام كانت تجتهد من أجل إخراج فيلمها عن "نساء جبل شنوة". أحببت روايات آسيا جبار منذ عام 1962، أي، منذ أن طالعت روايتها الأولى "العطش" التي كانت باكورة إبداعها.قارنها البعض بالروائية الفرنسية "فرانسواز ساجان"، ربما لأنهما دخلتا عالم الأدب في وقت واحد. أما أنا فلقد رأيت في آسيا جبار أديبة ملتزمة بقضايا شعبها في المقام الأول. ما من رواية من رواياتها إلا وتضمنت هموما جزائرية بغاية معالجتها. أسلوبها نقي النقاء كله، وكيف لا يكون كذلك وهي تمتلك ناصية اللغة الفرنسية، وتعرف اللاتينية واليونانية، أي الأصول التي متحت منها اللغة الفرنسية بالذات.
وميزتها الأساسية هي أنها ظلت جزائرية مبنى ومعنى. الغربة الطويلة عن بلدها لم تحل بينها وبين التغور في مشاكله، ولم تجعل منها أديبة فرنسية. ثقافتها الواسعة أفسحت دونها المجال لكي تقف على أرضية صلبة، وذلك ما يفتقر إليه العديد من أولئك الذين اختاروا أرض المغترب مقر إقامة فكرية وإبداعية لهم. ولا أحسب أن انتماءها بعد ذلك إلى الأكاديمية الفرنسية غير شيئا من هذه الميزة، ميزة الانتماء إلى أرض الوطن.
ثم إن آسيا جبار أدركت في وقت مبكر أن العالمية إنما تبدأ من القرية والدوار، وليس من الموضوع القادم من أرض الشمال، أي، موضوع الانتماء إلى مساحة حضارية قد لا تعنيها في شيء. وما أكثر ما ضاع كُتابنا حين سمروا أبصارهم في هذا الشمال بالذات، وأضافوا إلى اغترابهم هذا، غربة الفكر والروح، بل، والجسد كله. وأحسب أن آسيا جبار التي ظلت مرتحلة يشدها الحنين إلى شواطيء وطنها، لن تنال حظها من التقدير عندنا إلا بعد أن نرسو في ميناء ثقافة وطنية حقيقية أصيلة.