ربما يكون أورهان باموك وجه تركيا الأدبي الذي يراه الغرب، لكن الروائي يشار كمال يمثل ضمير تركيا و قلبها، بهذه الجملة أعادت مجلة «ذي نايشن» الأمريكية نشر مقالة طويلة للكاتب الأمريكي مارك إدوارد هوفمان المقيم في إسطنبول عن الأديب التركي الراحل بعنوان «كبير مثل جبل أراراط» و هو الجبل الذي تقول الأساطير أن سفينة النبي نوح رست عليه بعد الطوفان، يشار كمال الكردي كان أول من ترشح لنيل جائزة نوبل، عمل كاتب عرائض للفقراء في بلدته الكردية ثم صحفيا و كاتب سيناريو و روائيا. بقي محافظا على مواقفه و التزاماته تجاه المحرومين و الفئات الضعيفة من أبناء الشعب. نترجم هنا لقراء النصر ما كتبه هوفمان عن يشار.
«أنت خائن، تريد أن تشتريني بأموالك الأمريكية، لا يمكنني ترك حزب العمال، أخرج من هنا، و لا تتحدث إلي بعد الآن». كان يرفع يديه في الهواء نافيا، بشيء من التهديد و عينه الوحيدة (فقد يشار كمال عينه اليمنى في حادث سكين عندما كان طفلا) تهتز بقرف مسرحي، أحسست معها أنه واهن قليلا، كان كتلة لحم غارقة في ثيابه.
كان جالسا، بهدوء ينظر حوله، محاولا معرفة رد فعلي. فجأة انطلق يشار كمال في ضحكة مدوية، ضحكة أطلقها من كامل حنجرته، و من كل جسمه، ضحك عصبي، كانت عينه الآن مفتوحة بالكامل و مشعة. قبل أربعين سنة كان قد رفض دعوة للشهرة و المال من الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر كاتب تركي.
كنت مع كمال جالسين في شقته في إسطنبول نشاهد غروب الشمس على البوسفور و كان يتذكر كيف أنه في الستينات تلقى اقتراحا من عميل للمخابرات المركزية الأمريكية «سي آي إيه» (كان صديقا له قبلها) بأن أعماله الروائية ستكون أكثر شهرة في أمريكا لو أنه غادر حزب العمال التركي، و هو منظمة ماركسية كان يشار عرابها الشهير. و مثلما دلت على ذلك إعادة تمثيله للواقعة كان يشار يحس بالإهانة من ذلك المقترح، و قد رفضه بقوة. و قال عميل المخابرات أنه لم يكن مطلقا يقصد توجيه سياسة الكاتب، لكنه لم يتذكر الحادثة مطلقا، و قد بدا فزعا من إعادة المؤلف حكاية الواقعة (لا ينكر أحد أن يشار كمال يحكي قصصا). لكن ما يفرض نفسه بعناد لسبب أو لآخر هو أن كمال لم ينل مطلقا الاعتراف الذي يستحق في العالم الجديد و القديم على حد سواء، بينما ينظر إليه على مدى عقود طويلة مرشحا وافر الحظ لنيل جائزة نوبل.
في هذه الأيام صار كمال منسيا بشكل كبير، على الأقل في الغرب، حينما غطى عليه أورهان باموك. و حين تسلم باموك جائزة نوبل سنة 2006 أثنت عليه الأكاديمية السويدية على أنه جعل من إسطنبول «موقعا أدبيا لا غنى عنه، مساويا لسانت بطرسبورغ في أعمال دوستويفسكي و دبلن جويس و باريس بروست». هذا حكم عادل، لكن مثله يمكن أن ينطبق على سهول كيكروفا في أعمال يشار كمال أين تجري أحداث مختلف رواياته، و التي قارنها النقاد بقرية يوكناباتاوفا في أعمال فولكنر و ماكوندو عند غابريال غارسيا ماركيز.
العديد من الأتراك يعتقدون أن باموك استفاد من ضربة حظ، أو من الميل إلى المقبول سياسيا، عندما كرمته الأكاديمية ردا على محاكمته من قبل الحكومة التركية قبل عام بتهمة «الطعن علنا في الهوية التركية» بعدما تطرق إلى مذبحة «30 ألف كردي و مليون أرميني» في حوار له مع مجلة ألمانية.
و هذا أيضا موقف عادل، لكن هناك الكثير من الكتاب و من بينهم كمال تمت ملاحقتهم تحت طائلة القانون الجنائي التركي بسبب مواقفهم غير المتوافقة مع الحكومة سياسيا حول الأكراد و الأرمن، لكن لا احد من هؤلاء الكتاب جلبوا الانتباه إلى أنفسهم، مثلما فعل باموك من خلال قوله الخاطىء أنه «لا أحد يتجرأ على التطرق لهاتين المسألتين».
و إذا كان باموك وجه تركيا الأدبي الذي يراه الغرب و يجد فيه الأكثر إغراء فإن كمال يمثل قلب الأدب التركي و ضميره. و بينما يتحدث باموك عن سكان إسطنبول المدينة و نخبتها العلمانية، فالأمر ليس واضحا تماما بكونهم كطبقة يتحدثون عن تركيا بكاملها. و بالفعل فالانتخابات التركية الماضية بينت في العديد من المرات العكس مما يظهر. إنهم الوافدون الجدد الأتقياء الذين يتولون مقاليد الأمور. و لكي يفهم أحدهم تركيا جيدا عليه أن يفهم هؤلاء.
و بينما يشار كمال لا يتحدث عنهم- فهو بعد كل شيء شيوعي، و الدين له دور محدود في رواياته- فهو رغم ذلك يكتب عن الظروف الاجتماعية التي جعلتهم أو تركت ممثليهم يظهرون و يكبرون.
تنغرس أعمال يشار كمال في تربة الريف جنوب وسط تركيا حيث ولد و نشأ، من روايته الكلاسيكية محمد النحيل كما صدرت بالعربية سنة 1955 التي تركز على الفلاحين و البدو الرحل السابقين الذين يصارعون من أجل التأقلم في عالم متغير. مكتوبة بأسلوب ملحمي و فيها بعض الأساطير المستوحات من قصص الجدات الخرافية و من أغاني و أهازيج سكان هضبة الأناضول، للكنها تحمل تفاصيل دقيقة عن قلق حياة القرية مع حلول الماكينات، و اقتصاد السوق، و كل التحولات في الريف. و ترصد أعماله تطور تركيا الملحوظ على مدار القرن الماضي من متعددة الأعراق، متعددة اللغات، كقطعة من تركة العثمانيين- كدولة دون هوية واضحة و لا تناسق طبيعي- نحو دولة عصرية و لو أنها لا تزال غير موحدة.
الرجل الذي سيعرف فيما بعد باسم يشار كمال، ولد يحمل اسم كمال صديق غوكسلي في هميت القرية القريبة من كيكروفا « السهل المجوف» و احد من أخصب المناطق الزراعية في تركيا، (ربما ولد سنة 1923 و هي السنة التي تأسست فيها الجمهورية التركية ، فلا يمكن التأكد من تاريخ ميلاده بدقة لأنه لم تكن هناك سجلات، و حتى الآن هناك العديد من الولادات في تركيا لا يتم تسجيلها). كان والداه كرديان هربا من شرق الأناضول أين كانا يمتلكان أرضا،عندما احتلها الجيش الروسي سنة 1915، كان عم والده آخر قائد لقبيلة لوفان، و بمعايير تلك الفترة و ذلك المكان كانت عائلته ميسورة. كانت القرية التي أقاما فيها متألفة من ستين منزلا، بسيطا من سقف قش واحد، أرضيتها وسخة، يغطيها أثر الدخان، كان السكان الآخرون من سلالة البدو الرحل التركمان، أقاموا هناك سنة 1865، بعدما تم قمع تمردهم من طرف العثمانيين. و رغم ذلك لم يحس كمال أنه غريب عن المكان، كان يتحدث التركية بطلاقة أكثر من الكردية. و لا يعرف شيئا من ثقافة والدية سوى الأغاني و القصص. بقية القرويين «لا يضعون فرقا بيننا و بينهم « مثلما قال للشاعر الفرنسي ألان بوسكي «و لا يرون مطلقا في اختلافنا عنهم وصمة عار» مثلما ورد في مراسلات يشار كمال و بوسكي المجموعة في كتاب بعنوان يشار كمال حياته و فنه من تأليف يوجين ليون هيبار و باري طارو، المترجم عن الفرنسية المنشور سنة 1999، و الذي يمثل أقرب تأليف دقيق بالإنكليزية عن حياة الكاتب.
كل الرجال من جانب أمه كانوا صعاليك و خارجين عن القانون قليلون «ماتوا في فراشهم هرمين» مثلما كتب كمال «بخلاف والدها كلهم ماتوا بعنف بالرصاص» كانت أمه « أكثر قليلا من فخورة بهذا الأمر و تتباهى به. و كنتيجة نمت عند كمال علاقة رومانسية بهؤلاء الأشخاص، و كانت تعجبه كثيرا قصة خاله ماهيرو «الخارج عن القانون الشهير في كل شرق الأناضول،و إيران و القوقاز، الذي قيل أن جسده كانت به أربعة قلوب دليلا على شجاعته، و كانت الأغاني تمجد بطولة ماهيرو كبطل شعبي و قد ظهرت أصداء من تلك القصص الشعبية لاحقا في روايات كمال يشار.
في عيد ميلاد كمال الثالث أو الرابع، قام أحد أعمامه بذبح خروف للاحتفال بالمناسبة و فقد السيطرة على الخنجر الذي أصاب عين كمال اليمنى، عميقا مما استدعى استئصالها، و بعد حوالي عام حينما كان مع والده في المسجد قام أخوه بالتبني يوسف الأكبر منه و كان فيما يبدو مصابا بغيرة غير طبيعية بطعن الأب في قلبه، بعدها صارت أمه مسكونة بهاجس الانتقام، و أصرت بعد سنوات على كمال ليقتل يوسف متذرعة بشرف العائلة و علاقة الدم، لكنه رفض باستمرار، مما ترك خيبة أمل كبيرة في قلبها.
كان تبذير أعمامه سببا في تلاشي ثروة العائلة بسرعة و كتب «عندما بلغت الثمانية، كانت كل مظاهر الترف قد صارت ذكريات بعيدة، و صارت عائلتي من بين أفقر العائلات في القرية»، رغم ذلك كانت طفولته «غنية إلى أقصى الحدود، كل مخلوق في الطبيعة، كل لون، كل رائحة كانت تأخذني بعيدا بفرح، كأنما كنت منتشيا. و أخذ كمال متعته في غنى المنطقة الثقافي «كانت مسرح لعب طفولتي مليئا بالآثار التي تعود إلى عصور سحيقة»، و كان الربيع «مزينا بأعمدة تحمل نقوشا الحيثيين» و على واحدة منها ملك مات منذ زمان بعيد يفاخر بأنه وضع حدا للصعاليك في المنطقة. و توالت أساطير كيكروفا مع الخارجين عن القانون عند يشار كمال الذي يتحدث عن الذين مروا من هناك منذ هوميروس و سيليسيا حتى ميلاد المسيحية و بعدها العثمانيين و ما بعدهم. و أخذ كمال الكثير من أغاني القرية التي قال أن «كل امرأة فيها كانت شاعرة» تغني ملحمة قره كاوغلان الشاعر الملحمي من القرن السادس عشر الذي لا يزال حيا في الأناضول.
في 1941 أو حولها ترك كمال الدراسة النظامية كان على بععد عام من إتمام المرحلة المتوسطة ووجد عملا في مكتبة مدينة أضنة، و كانت المكتبة غير مليئة و له كل الوقت ليقرأ ما شاء من الكتب. و كان مسير المكتبة يسمح له بالبقاء فيها ليلا ليقرأ أطول مدة يستطيعها. «صرت دودة كتب ألتهم كل شيء» مثلما كتب عن ذلك من « هوميروس و كلاسيكيات الإغريق و كلاسيكيات القرن التاسع عشر»، كان مأخوذا بستندال و سيرفانتس و تشيكوف الذين كان يراهم معلميه.
و التقى سريعا بالدوائر الشيوعية في أضنة و بدأ يقرأ كل ما يعثر عليه عن الأيديولوجيا، و لكن الكثير كان ممنوعا في ظل حكمة عصمت إينونو، و كانت الكتب تتسرب من يد ليد و غالبا في شكل مستنسخات و كانت بعض مؤلفات كارل ماركس غير متوفرة البتة. « في تلك الظروف- كتب- جاءتنا الاشتراكية بالطريقة الشفاهية التقليدية، من المعلم إلى المتمرن، و خلال فترة التدريب تلك تعلمنا الكثير من المفاهيم الخاطئة». سألت كمال عن تلك المفاهيم الخاطئة لكنه لم يشأ الإجابة على سؤالي، لكن الواضح أن ماركسيته لم تكن أرثوذوكسية، بفعل البيئة التركية و كانت الشيوعية رومانسية أكثر منها عقائدية نظامية. و بالنسبة إليه كانت الشيوعية ليست أكثر من حرية الفكر و تحرير الأفراد، كان يرفض العنف بأي شكل، «لا يمكن قتل أي إنسان» مثلما قال لي «حتى و لو كانوا رأسماليين».
و لم يكتشف يشار كمال طموحاته اللغوية و الأدبية إلا بعد أن وصل إلى إسطنبول مع بداية 1951 بمساعدة من أحد الأصدقاء و صار مراسلا لصحيفة «جمهوريات» بصفته مراسلا من الأناضول، و تبين فيما بعد أن تلك كانت نقطة تحول في حياته، و صارت السلطات تتحرش به في كوكروفا، و بلغت حد سجنه لعدة شهور بتهمة نشر الشيوعية و حينها أخذ اسمه المستعار يشار كمال لتضليل الشرطة، قبل أن تأخذه مهمة عمل إلى الشرق. و نالت روايته محمد النحيل الصادرة في أربعة أجزاء عن رجل فقير سليم محمد يتصدى لحاكم القرية و يصير صعلوكا من طراز روبن هود أو بيللي الصغير شهرة عالمية. لكنها جعلت منه في بلاده تركيا هدفا مثاليا لمضايقات الشرطة، و سعت السلطات لدى جريدة جمهوريات» لكي تقلص من مساحة يشار كمال على صفحاتها، و ازدادت الأوضاع سوءا عندما انضم عام 1962 إلى حزب العمال التركي. و نجحت السلطات عام 1963 في إقناع صحيفة جمهوريات بطرده من العمل و منعت السلطات عرض فيلم عن روايته الشهيرة. تنقل في مهام حزبية عديدة لكنه صار قليل الظهور بسبب القمع.
عاد يشار كمال للأضواء بمقال كتبه عام 1995 في مجلة دير شبيغل الألمانية عن الأكراد و قال أن معظمهم لا يؤيدون مطالب حزب العمال الكردستاني في إقامة دولة مستقلة، لكنه تعاطف مع حقهم في ذلك إن رغبوا في كيان سياسي مستقل لهم، و لم تتحمل القوى الصلبة في تركيا هذا الموقف من يشار كمال الذي رأته يدعم الانفصاليين الأكراد، و انبرى عدد من المثقفين الأتراك للدفاع عنه. و تم الحكم عليه سنة 1996 بعشرين شهرا سجنا موقوفة التنفيذ.
يقول كمال عن نفسه للشاعر بوسكي « أنا روائي التحولات، التحولات التي تشهدها تركيا» و إلى جانب ناظم حكمت الشاعر التركي الشهير قدم يشار كمال للغة التركية ما قدمه مارك تواين للإنكليزية و بوشكين للروسية.