يرمي بأوراقه الملوّنة على الأرض، وهي مجتزأة بشكل جميل وبقياس متناسق، عيناه تقفزان بين الورق المقوّى بشغف، المقص منفرج على جانب، في حالة استرخاء أو كأنّه يتأهب لحالة القصّ من جديد، أدوات أخرى مبعثرة بغير انتظام: مدور، شريط لاصق، أقراص...، أدوات يستعملها في صناعة العلب هوايته المفضلة.
وكلّما أكمل واحدة يضعها أمامه وينظر إليها، وهو يدير رأسه ويمعن النظر من زوايا مختلفة، وينتقل إلى لون مغاير. فتشكّلت أمامه علب بألوان مختلفة، حمراء، بيضاء، زرقاء، وخضراء..
ذات مساء وهو مستلق على الأرض يتابع صناعة العلب في شغف شديد كالعادة، بدر إلى ذهنه أن يصنع علبا من عدة طوابق.. وبتشكيل مغاير لم يسبقه إليه أحد.. راح يفكر، ويشحذ همّته، لتحقيق حلمه.. حلمه الصغير، كسنه الفتيّ فهو لم يتجاوز الأربع سنوات بعد.
بعد ساعة من العمل، والقطع والتلصيق، شكّل ما أراد. وابتعد قليلا، يتأمل:
تبدو هذه العلب جميلة... أليس كذلك؟.. كأنّه يسأل نفسه.
ولكنّه أحسّ بشيء من عدم الارتياح، سرعان ما قلق.. يبدو أن ما أنجزه لم يرقه تماما..
وهو يضع يده على خدّه منزعجا:
أف..أف..
ليس هذا الذي كنت أريده..
ما هذه الفتحات على الجانب؟
هذه العلبة لم تغلق جيدا؟
هناك الكثير من الحواشي الزائدة..
هذه الألوان الفاتحة كثيرا، لا تليق لصناعة علب جميلة.
أوه.. ما الحل؟ ماذا أصنع؟، وهو يضرب تلك العلب بغضب وامتعاض...
وخطر بباله أن يغيّر تماما من نوع الورق المستعمل.
وراح يفكر في الورق المناسب.. أين سيجده، لا بدّ من ورق ذي نوعية متميّزة، حتى يحقق حلمه في صناعة علب بشكل فريد وجذّاب.
بسط رجليه على الأرض، ومدّ يديه إلى الخلف.. مستندا عليهما، وهو يفكر في نوعية الورق الجيدة.
بينما هو كذلك لمح والده وهو يضع معطفه على المشجب، ورآه وهو يدسّ في جيبه العلوي بعض القطع الورقية الجميلة والملوّنة بشكل لم يعتده. لم تبد له بشكل كامل. ولكنّها رغم ذلك أخذت بلبّه، والأكيد أنّها أفضل بكثير من هذا الورق الخشن الذي أستعمله دائما.. هذا ما كان يختلج في نفسه وهو يسترق النظر..
تذكّر أنّ والده معتاد دائما الاعتناء بهذه القطع الورقية، ويحرص على الحفاظ عليها.. كما تذكّر أنّه دائما يحذره من الاقتراب من المعطف.. لاحت في ذهنه فكرة:
لعل هذه القطع هي الأنسب لصناعة العلب، وتحقيق الحلم.
نعم، هي الأنسب..
وستكون العلب متميّزة حقا.
وهو يسحب يديه إلى الأمام، ويجلس وقد ثنى رجليه:
ولكن كيف الوصول إلى تلك القطع؟ وهو يهمس في نفسه:
- ستكون العلب فريدة من نوعها.. ويتحقق حلمي.. نعم.. سيتحقق الحلم.. سيتحقق الحلم. وستكون عندي أفضل علبة، وأغلى علبة..
وهو يستشعر بانجلاء الحيرة.. وقد غمره سرور شديد..
- آه، نعم، سيتحقق الحلم.
في لحظة ما غافل والده، وسحب مقعدا بجانبه، يستعين به كي يصل إلى جيب المعطف.
ارتقى المقعد. ومدّ يده الرقيقة في الجيب ليسحب ما فيه من قطع الورق الجميلة.
لم يكن مرتبكا، وكان هاجسه الوحيد هو تحقيق حلمه في صناعة علبة متميزة. بورق متميز. لم يكن ليعرف البتة أنّه بصدد عمل مشين، بل كان يُدخل كلّ ذلك في سياق هوايته المفضلة في صناعة اللعب.
وهو سعيد بأن تفطّن لهذه الفكرة الرائعة. وسيصنع علبة فريدة لم يصنعها أحد غيره من الأقران.
وراح يوزع تلك القطع التي سحبها من معطف أبيه على الأرض، راح يتفنن في القصّ والتلصيق والتشكيل.. وهو يعمل بمنتهى الهدوء والتركيز.. والشغف.
يهمس في نفسه: هذه تكون هنا..
- وهذه هنا.. ما أجمل هذه الألوان..؟
- ورق بديع، وخفيف.. يا للروعة.. ليس هناك أجمل من هذا؟
- سيتحقق حلمي أخيرا ..
شكّل أكثر من علبة، أغلقها جيدا، ليست هناك فتحات، ولا حواشي زائدة، علب خفيفة رائعة، جمعت كامل الأوصاف، رتّبها، ووضعها أمامه وابتعد قليلا، وقد رمى ذلك الركام من العلب السابقة جانبا. وراح يتأمل. هذا الذي كنت أريده، وبرقت في عينيه نشوة عارمة، واعتلى وجهه سرور بهيج.
وهو يتأمل، وفي حالة من الوله والشغف، لا حظ سيلان ماء يتسرب بين رجليه يميل إلى الصفرة ، مازال يتأمل على كل حال، وإذ بعلبه الجميلة تلك، تطفو، يسحبها الماء المتسرّب إلى حيث باقي العلب التي رماها بعيدا.
وبقي يـتأمل مبتهجا.