قراءة في رواية «رحيل» للكاتب محمد العيد بهلولي
من يقرأ رواية «رحيل» للأديب محمد العيد بهلولي، صاحب المشاعر الفياضة والحس المرهف، فكأنّما شدّ الرحال إلى الأوطان والأمصار التي طاف بربوعها الأديب، ومكث بين ظهراني أهلها أياما معدودات وفي بعض الأحيان شهورا متتالية. وجاءت روايته، الصادرة مؤخرا عن منشورات دار «الوطن اليوم»، مليئة بمشاعر الإنسان ومشوقة إلى درجة تجعل القارئ ينساق بهدوء وعفوية وراء تسلسل أحداثها المروية بمهارة فائقة وبطريقة فنية رائعة.
بقلم: فرحات زايت
وهكذا، فبأسلوب سلس طغى عليه جمال سرد وبوح قد لا نراه سوى في قصص تعلم «فن الحكايات» أي «ستوري تايلينغ « Storytilling، الذي أصبح علما قائما بذاته يدرس في أكبر الجامعات العالمية، نجد الكاتب يأخذ بيد القارئ ليرافقه في مغامراته، وما يلبث هذا الأخير أن يجد نفسه منخرطا كلية ًفي مختلف مراحل الرحلة، متفاعلا مع أحداثها ومعايشا لأدق تفاصيل الحياة اليومية لمواطني المدن والأمصار، التي مر بها الكاتب.
وكانت الرحلة قد «بدأت من تونس وهدأت على عجل بالأراضي المنخفضة»، وشملت عددا من الدول العربية والأوروبية التي يقول الكاتب أنّه زارها «مثقلا ومنهكا كحصان العربة.. يشاء الظرف فيركب هول البحر والبر والصحراء.. يمتطي متن القطارات والبواخر أو يمشي راجِلا ثم يركب سيارة أجرة.. منطلقا أبدا إلى الأمام كأنّ أفراسا ملعونة تجري خلفه». وعبر كلّ المراحل والخطوات كان «يرى ويشاهد ويحلل رؤياه حسب المقدور والإمكانيات واللغة».. وبعد أربع سنوات من الارتحال عبر 26 بلدا عربيا وأوروبيا عاد أديبنا إلى أرض الوطن مزودا بتجربة خصبة في العملية الكتابية وبحصاد ثمين تمثل في كِتاب «رحيل». شخصيًا، أعجبتُ أيّما إعجاب بثلاث محطات من هذه الرحلة.. الأولى مدينة طبرق على حدود ليبيا-مصر، حيث قضى الكاتب ستة أشهر اشتغل خلالها في ورش بناء، وانخرط في أوساط الطبقة الشغيلة فوقف على معاناتها من تصرفات المقاولين من أمثال المعلم «أبو مازن»، صاحب الورشة، ومن على شاكلته من المقاولين الذين يستغلون العمال البسطاء أبشع استغلال، ليس فقط هناك، وإنّما في كلّ الأقطار العربية.. «هيا يا رجال هيا، شوية هِمة يا جدعان»، ذلك ما كان يردده هذا المعلم بكسر الميم، كما قال، لحث العمال على زيادة الجهد، موضحا أنّ الحركة تزداد عقب ذلك و»تشتعل النار بالأكف، ترتفع السواعد بالرفوش وتهوي، يُهال الرمل والاسمنت في جنون.. تفتح أنابيب المياه على الخليط، تدور العجانات دورات لولبية../هنا ينبسط المعلم، يشعل سيجارة الديموري الطرية ويغور في هناءة حسابية مع ملايين الجنيهات آخر الانجاز.. «، كما قال مستدركا «ما أكثر من أمثال أبو مازن وما أبخس العمالة بمشاريع طبرق».
وتتمثل المرحلة الثانية في إقامته بمصر التي قصدها وهو يردد: «هي مصر إذن ليست حكاية تُروى على طاولة مقهى بظل شارع قريب، بل هي رواية الملحمة متشابكة، متقاطعة، ممتدة.. يعكسها النيل قصائد مجد وتذكيها بليالي الجوع مساجد وضمائر وأغنية.. مصر الهُـتاف البحري المثقل بزيت المنارات وضوء المنارات أخضر.. مصر التحية.. مصر المزار..». كما أوضح الكاتب مضيفا في نفس السياق: «لو كنتُ أدري أنّني سأزورك يوما لحملت معي ضمة شيح من جرجرة وحزمة ورد من الساحل وعرجون تمر من واحة الجنوب».. وقد نزل كاتبنا في مرسى مطروح أولا ثم توجه إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة حيث طاب له المقام فزار أحياءها العتيقة والجديدة، وقضى العديد من لياليها الملاح..
ومكث أديبنا بالقاهرة والإسكندرية ما يقارب الستين يوما قضاها متنقلا بينهما، بين البحر وبين النخيل النهري على ضفاف النيل.. يسوق روافده، ينزل على هذه يومين أو ثلاثة ويعود لتلك أسبوعا أو أكثر، وفي كلّ يوم كما قال «تشده الساحرة من عنقه، تربت على كتفه ضربات المودة، تسأله على لسان أهلها الصابرين (أنت لسه شفت حاجة؟)».. تلك هي «القاهرة الماهرة في الضيافة والمودة والأمان».أمّا المحطة الثالثة، والأهم دون منازع حسب رأيي، فهي الشام التي يبدو من الوهلة الأولى أن لأديبنا علاقة خاصة بها وبأهلها الكِرام حتى وإن كان هو نفسه يجهل، ربّما، سبب وسر وجود هذه العلاقة، فنراه يتساءل: «فماذا بيني وبين دمشق هذه الساكنة عمق الروح..هل هي حكاية قديمة تشدني إليها إنشداد الذكرى الكريمة.. هل هي نغمة –عتابا- (موال سوري) على ذرى جبال (النبك) تحفر أخاديدي بدمع الشوق.. هل هي التاريخ الزاخر بالإيمان والجمال والرشاد؟».
وبعد تساؤلاته هذه يؤكد أن «دمشق تتصدر القائمة علامة مضيئة بليل الزمن، وأنا أرحل بين بوابات الدنيا شعاعا من تعب.. أبحث عنها بين الأمصار والبلدان.. هي إذن دمشق مدينة المدينة.. قصيدة القصيدة جوهرة الله بقلب الكون.. من سار على دربها أحبّها.. ومن أحبّها عشقها وتفانى في حبها وزارها لمرتين أو أكثر وبقى ناطرا (منتظرا) يهزه الشوق من جديد لتخومها والضفاف.. كلّ من تغنوا بسحر دمشق، كلّ من خلدوها في الشعر والتاريخ يحملون بين حناياهم نارها المقدسة وذكرها الباقي».
ويضيف كاتبنا قائلا: «لا أريد أن أسقط في شرح مفرداتي لدمشق المدينة، ولستُ بحاجة لشرح آخر، إنّما يحلو لي أن أفلسف شرح دمشق كما بان في خاطري شعرا وفتنة.. يشدني من الكلمة إيقاعها الموسيقي اللامع المضيء».
دمشق.. هذا الشهق النغمي.. يفجر بالذاكرة أحلام الطفولة وقصصها.. يفتح بالصدر شد الحبل للسفر المنسي وأحياء ما تناسل من عمر الأيام..». لا شك أن كلّ هذا التاريخ والجمال اللذين أبدع أديبنا في وصفهما بكلّ حميمية هما أحد الأسباب الرئيسية للمؤامرة الذنيئة التي أُحيكت ضدّ سوريا..بقيَّ أن أشير إلى أن إعجابي بهذه المحطات الثلاث لا يعني أبدا أن المحطات الأخرى ليست بذات القيمة الجمالية والتفاعلية، فالرحلة كلّها رائعة سواء في شقها الشرقي أو الغربي. فإذا كان أديبنا قد أبدع في وصفه لزيارته لأوطان المشرق العربي، ومعايشته للحياة اليوميّة لسكانها بكلّ أفراحها وأتراحها، فإنّ ما كتبه عن تنقلاته بين «أقاليم البرد» أي بلدان أوروبا لا يخلو من الصور الجمالية والإبداعية.. فرحلته على متن باخرة من ميناء «أوسطوند» البلجيكية إلى هولندا، على سبيل المثال لا الحصر، جاءت كأنّها حلقة مسلسل من إخراج أحد مشاهير السينما العالمية، أمّا عن تنقلاته بين المدن الأوروبية التي قصدها، ونزوله ضيفا على عدد من الأصدقاء بها، فقد عالجها بنفس الحماسة والحميمية التي تخللت وصفه للنيل ولتنقلاته بين القاهرة والإسكندرية وكذا لجبل «بلودون» وكيفية نزوله منه إلى الشام.. إنّها رحلة واحدة قام بها صاحب «رحيل» محطة فمحطة وفي كلّ محطة كانت تلحقه «آيته الساكنة فيه» لتقول له بين ثنايا الصمت المنفرد «احذر من النسيان..»، وأكيد أنّه لم ينس ولا أعتقد أنه سينسى ما دامت «آياته» هذه تقود خطاه و»تلملم ضياعاته كلّها..».