لا بد من قتل الناقد الفقيه أو القاضي الذي لا يعرف من النقد سوى الحكم
صدر مؤخرا كتاب «موت الناقد» للكاتب والمؤلف البريطاني رونان ماكدونالد في نسخته العربية، وقد ترجمه من الإنجليزية إلى العربية، الكاتب والمترجم الأردني فخري صالح. الكِتاب الذي صدر عن دار العين المصرية بالتعاون مع المركز القومي للترجمة في القاهرة، أثار زوبعة وجدلا في الوسط الأدبي والثقافي العربي، وبخاصة في أوساط النقاد والمشتغلين في حقل النقد الأدبي.
فهل ما يكتبه كاتب وناقد بريطاني عن النقد وأحواله في بلاده ينعكس على واقع وحال النقد في بلداننا العربية، وهل موت الناقد في المشهد الأدبي والثقافي الغربي، يعني بالضرورة موت الناقد في المشهد الأدبي والثقافي العربي؟، وهل حقا مات الناقد الأدبي العربي؟.
الكِتاب أشار أيضا إلى انسحاب الناقد من وظيفته، ليحل محله القارئ البسيط الذي يدلي بانطباعاته السطحية على المنتوج الأدبي والفني، كما أشار إلى انهيار وتلاشي المؤسسة النقدية، بسبب صمت وانسحاب النقاد وعزوفهم عن ممارسة وظيفة النقد.
«كراس الثقافة» في عدد اليوم، يفتح ندوة حول كتاب «موت الناقد» مع مجموعة من النقاد الجزائريين والعرب، يتحدثون فيها، عن الناقد الأدبي العربي، وليس الناقد الأدبي الغربي، لأن هذا شأن آخر.
إن مشكلة «موت الناقد» ليست غريبة على الثقافة الحية التي تنهض على النقد الذاتي والسؤال الحقيقي المُلح. يمكن للمسألة أن تكون مثيرة في ظل وجود ثقافة نقدية فقهية والتي تنتمي إلى بيئة يستولي فيها القاضي على المركز لكي تبقى جميع الأسئلة الحقيقية مؤجلة، إن الثقافة التقليدية التي نشأ عليها القارئ العربي جعلته يستقبل إشكالا مثل «موت المؤلف» ثم بعدها «موت الناقد» بنوع من الإستياء والفهم المستعجل لكي يدخل فيما بعد في معرفة لا تعبر سوى عن ردود أفعال فجة وسطحية. لا يمكن البناء على مثل هذه الثقافة. لنوجه المشكلة وجهة أخرى لها صلة بواقعنا الحقيقي: هل موت الناقد سؤال متجذر في عمق اهتماماتنا النقدية؟ هل يشكل السؤال هاجسا ودافعا لعملية مراجعة حقيقية لكل أشكال التفاهة التي تغطي ما ورثناه وما نمارسه في شكل كُتب ومقالات ومحاضرات لا تضيف إلى العقل والمخيلة الإنسانية سوى المزيد من الخيبات؟، لقد أسأنا قبل سنوات فهم مشكلة «موت المؤلف» لكي تأتي المشكلة الجديدة فتفضح جهلنا مرة أخرى. إن سؤال الموت المتصل تارة بالمؤلف وتارة أخرى بالناقد يعني الغياب المؤجل الذي يسمح برؤية ممكنة لاحتمالات النص العاري من النسبة والمجهول والضارب في عمق التاريخ. إن الموت هو في الحقيقة حتمية الوقوف لمراقبة الثقافة في جوهرها ومساءلة الواقع الذي جعل من الأدب وما يحيط به قيمة تجارية خاضعة لمضاربة السوق والإشهار. فِعل الثقافة يواجه الظاهرة في إعادة قلبها على ظهرها لكي يستبان منها كل الزوايا الخفية. لقد فهم النقد العربي مشكلة الموت فهمًا أخلاقيا ولم يعنَ بالمشكلات الثقافية التي تحيط بها. لعل الحرص التقليدي على التركة القديمة هو الذي جعل من فهمنا قاصرا ويختزل المشكلات الحقيقية الدنيوية فيما له علاقة بالدين، فأضحت تفسيراتنا قائمة على أساس أن «رولان بارت» مثلا كان يعاني فراغا دينيا ومصاب بالشذوذ الجنسي ولحق به «ميشال فوكو» الذي قال بموت الإنسان تبعا لفكرة موت الإله عند «نيتشه». أمر غريب حقا أن نختزل بذهنيتنا المشكلات الفلسفية في مجرد الدين، ولكن هذا ينبئ على حالة من الهذيان الثقافي الذي لا يجرؤ على طرح المشكلات. موت الناقد بكل ما تحمل من مقاصد هي شكل من أشكال إعادة موقعة النقد في عصر سادته التيارات المتضاربة وغلبت عليه الثقافة السريعة والشكلية، أتذكر ما كان ينادي به الناقد والشاعر ت. س. إليوت بأن النقد يمر بأزمة حقيقية لأنه افتقد حقا إلى شخصية القارئ الذي تُشكل له النصوص الأدبية الكبرى مادة للحياة وللامتداد في هذا الوجود بطرق رمزية مختلفة.
لعل المقصود من كل ذلك هو إعادة الاعتبار للنقد من حيث هو تجربة حية يعانيها الناقد كإنسان مثله مثل الفنان، وعليه أن يكتشف لغته التي تضمن له البقاء في عالم الكثافة. لقد استطاع الناقد الغربي أن يقتل الناقد/السلطة لكي يستعيد عافيته ويواجه العالم بأدوات متجددة. وعلينا نحن في الثقافة العربية أن نقتل الناقد الفقيه أو القاضي الذي لا يعرف من النقد سوى الحكم: حكم القيمة وكأنه هو الموزع الوحيد للفضائل التي يحيا بها المجتمع. علينا أن نعيد اكتشاف ثقافتنا وفق تموقع جديد يرى إلى نصوص الهامش التي جنت عليه سلطة النقد الفقهي، نصوص استطاعت أن تغني الذاكرة الإنسانية فيما قتلناها نحن بمنظومتنا الفقهية المتزمتة.
كان علينا –نحن العرب- أن نحذّر من «موت الناقد» قبل أن يحذّر رونان ماكدولاند، كما كان علينا أن نصرخ: «الأدب في خطر» قبل أن يصرخ تودوروف، ذلك أن الخلفية المعرفية لثقافتنا كلها هي خلفية تجعل الحياة هدفا لكل حركة وفعل، وتضع الكلمة في رتبة عالية ضمن منظومة حياة الإنسان، حتى لقد قال شاعرنا: «لسانُ الفتى نصفٌ، ونصفٌ فؤادُه/فلمْ يبقَ إلا صورةُ اللحمِ والدمِ». لطالما ردّدتُ هذا البيت لطلبتي، وأنا أنبّههم على أن وظيفة الناقد الأصيلة الجوهرية هي التقويم والتوجيه والتفسير، وليس مجرد التحليل والوصف «القراءة» كما يريد أن يوهمنا قِطاع كبير من النُقاد العرب المعاصرين. كنت أقول لهم: إن الحياة تحتاج إلى الناقد لأنها تحتاج إلى الأدب، وتحتاج إلى الأدب لأنه بمثابة النصف الثاني المكوّن لجوهر الإنسان، ولأنه هو المعبّر عن النصف الأول الذي هو الفؤاد «الشعور والفكر»، وإن هذا النصف محتاجٌ إلى تدريب وتهذيب وتقويم وتوجيه، وإن الذي يقوم بهذه المهمة العظيمة إنما هو الناقد، فكيف يصح أن يتخلى الناقد عن وظيفةٍ هي علة وجوده، وسبب افتقار الحياة إلى نشاطه؟.
ولكن هذه الفكرة البديهية غابت عن أذهان فئة واسعة من النقاد العرب المعاصرين وهم يندفعون إلى تصديق مقولاتِ نقد غربي أسرف في تمرده على القيم الحاكمة لحياتنا الإنسانية، وتحوله عن الأصول الفكرية التي أرساها النقاد الكِبار على امتداد تاريخ البشرية، فتخلى أكثرهم عن أداء رسالتهم النبيلة في رعاية القيم وترقية الأذواق وتصحيح المسارات وتقويم الأعمال وتوجيه الطاقات، وعكفوا على متابعة المناهج والنظريات المتلاحقة الوافدة من البيئة الغربية، يجتهدون في ترجمتها وتمثلها ونقلها، وفي الترويج لها وتطبيقها على نصوصنا الأدبية، مشيعين في أوساط الطلبة والباحثين أن مهمة الناقد هي أن يصف لا أن يقوّم، فكان ناتج ذلك أنْ تغرّب النقد عن نفسه وعن القارئ والحياة بإغراقه في قراءات شكلية وصفية نمطية لا تكاد تسمن أو تغني من جوع، وأن تهرّب من أداء واجب الوساطة بين النص والقارئ، وبين الموهبة والدربة، كما كان يفعل النقاد على مرّ العصور، وهكذا تُركت ساحة الأدب فوضى يرتادُها الموهوبون وغير الموهوبين، وتُركت ساحة النقد نهبا لكل صاحب رأيٍ ولو كان بينه وبين الذوق والخبرة النقدية بُعدَ المشرقَين. زالت الحدود، وغابت العلامات، واختلط الحابل بالنابل، حتى فقدت الكتابة سحرَها والكلمة قداستَها والشعر شعريّتَه والسردُ سرديّتَه لدى أقوام كثيرين. ليس غريبا إذن أن يتحدث رونان ماكدونالد عن «موت الناقد» عندهم، فهم أول من أشاع فكرة التمرد على السلطات والمركزيات والثوابت والقيم. إذا فقدت القيمة سلطتها فقد الناقد سلطته كذلك. وإذا فقد سلطته فقدت الحياة شعورها بالاحتياج إليه. وما دمنا قد سايرناهم فقد سرنا معهم في طريق يؤدي حتما إلى «موت الناقد». إن «موت الناقد» نتيجة حتمية لتخليه عن وظيفته الحيوية.
لا يمكن أن نصدق أسطورة «موت النقد»، كما لا يمكن تصديق أسطورة أخرى عن «موت المؤلف»، لا أدري ما الذي سيولد من أساطير بعد هذه؟، لكن الأكيد أنّ هناك كلمة أكثر دقة في توصيف «أزمة النقد» وهي «تعطل النقد» بدل «موته». هنا، يمكن أن نتفق بوجود تعطّل حقيقي للنقد سواء في وعينا ككائنات اجتماعية أو سياسية أو ككائنات أدبية أو نقدية. العطل يعني أمرين: أوّلا انسحاب النقد عن وظيفته الاجتماعية والسياسية، ففي سياق اجتماعي يكون الأفراد ممنوعون عن إبداء الرأي المخالف لا يمكن أن نتحدث عن شيء يدعى «نقد»، لأنّ المسألة تتعلق هنا بمدى إدراك الأفراد لوضعهم الاجتماعي والسياسي كأفراد متفردين مجبولين على التفكير المسؤول دون وساطة ولا وصاية. في هذه الحالة، فإنّ المجتمع الذي يربّي كائناته داخل ثقافة القطعان لا يمكن أن نجد فيه شيء يسمى نقدا، وإن وُجد فهو محرّف عن طبعه. أما الأمر الثاني، فهو النقد كممارسة معرفية، أي النقد كأداة للمعرفة والبحث وطرح الأسئلة ومناقشة أفكار الكُتب وأفكار منتجي الكُتب، أيضا النقد الذي ينبش في قواعد الخطابات، ويبحث عن مضان الجمال في الأعمال الأدبية أو الفنية، فهذا النقد هو النقد الذي لا ينشأ إلا في حيّز نخبوي. بالمناسبة، النخبة لا تعني الكائنات العليا التي لا تتنفس الهواء، بل هي مجرد مصانع لإنتاج الأفكار والمفاهيم والتصورات والأحلام وفي فترات ما صناعة الأوهام. هل نملك نقدا في الجزائر؟ هو سؤال طرحته على طلبتي في الجامعة في مقياس «قضايا النقد الجزائري المعاصر»، فكنت أول الأمر مستاء من هذا الخيار في عنوان الوحدة، لأنه خيار غير دقيق، بل غير علمي بتاتا، لذا فضلت أن أسمي الوحدة «قضايا النقد في الجزائر» هنا، شعرتُ بنوع من الارتياح، والسبب أنّ الممارسة النقدية داخل الجامعة تتوقف في مستويين: مستوى غائب عندنا هو مستوى صناعة النقد منهجا ومفاهيما وأدوات ومخيالا، ومستوى شائع هو استهلاك مادة النقد كما تمخضت عن ممارسات نقدية لا علاقة لنا بها، على الرغم مما يُشاع في بعض المجلات المحكمة التي تطالب الباحث عندنا بأن يكتب بحثا أصيلا في حين فكرة أصالة البحث منعدمة في سياقاتنا.
صحيح أني لا أدعي نكران أهمية التفاعل مع ما ينتجه الآخر من نظريات ومدارس ومعارف عظيمة لن يكون في مصلحتنا رفضها كما ينادي البعض من المتسرعين، لكن هذا لا يمنعني من طرح السؤال التالي: لماذا لا نستطيع بناء نظرية نقدية تشبهنا؟.
التحولات التاريخية تترك تأثيراتها على المنظومات المعرفية في مختلف الحقول، وراهنا يعرف العالم تحولات تتجلى تأثيراتها في إعادة تنظيم وترتيب وصياغة المقولات والصيغ. ليس النقد وحده في مواجهة المأزق المتعدد إبستمولوجيا وأنطولوجيا وأنثربولوجيا وتاريخيا، بل هو مأزق تواجهه حتى العلوم التجريبية والتي تسمى تقريبيا بالدقيقة، لأن الدقة ليست مطلقة في معرفة تتأسس وتعيد التأسيس بالارتكاز على احتمالية تبقي حيوية التدبير. وما كتبه البريطاني رونان ماكدونالد في كتاب «موت الناقد»، يندرج ضمن سرديات أعلنت الموت والنهايات منذ تهاوي سور برلين، مع تمهيدات ترجعنا إلى اللحظة النيتشوية ثم الزحف البنيوي، والموت قد يحمل فناء يحمل انبعاثا. والكِتاب أيضا متصل بكتابات تتأمل التحولات وتدق الجرس تنبيها، ونستحضر في هذا السياق ما كتبه تودروف في «الأدب في خطر». وتمثل ما يطرحه ماكدونالد قد يحيلنا إلى تأثيرات التطور التكنولوجي إعلاميا وما أفرزه من وسائط، بقدر ما فيها من مكاسب، حملت وتحمل ما أهلك المعنى وخلخل القيم والمعايير فصار التلقي مثلا خاضعا لمعايير تلفزيون الواقع، كما في مسابقات ما يسمى بـــ «أمير الشعراء».
والنقد مستويات متعددة بتعددية أفاق المتلقين، وتعددية التلقي مؤشرا إيجابيا، منتجا للقيم المضافة. لكن النقد المقصود هو النقد المؤسس معرفيا والمتبلور منهجيا، وهذا في الغالب نخبويا ومرجعيا لبقية المستويات الباقية في التعاطي مع المنجز الجمالي والثقافي. والمأزق الذي يثيره ماكدونالد وغيره، هو مأزق التصدعات التي أصابت الكيان العالمي بمختلف مؤسساته وتأسيساته، مأزق يفرض تحديا، يتمثل في إنجاز يتجاوز ليفتح أفاقا تستوعب التحول، فالنقد هو أساسا تملك للشيفرة، شيفرة التاريخ والمعرفة والمجتمع.
كتب تودروف كتابا بعنوان «الأدب في خطر» والخطورة نرصدها في ما يرهن الممارسة النقدية ويبدد إمكانات ارتقاءها إلى المستويات المنشودة جماليا ومعرفيا وفكريا، خطورة تتضاعف بتقنوية تصادر الجمالي وتغلق على النصوص بتطبيقات لنظريات وأنساق، تطبيقات غالبا ما تختزل الإجراء النقدي في تقنيات صرفة، تصرف عن الجمالي وعن ما تضمه الشبكة الدلالية من إحالات إلى رموز وعلامات وشيفرات تتصل بالمخيلة والواقع. خطورة تتصل بما يسميه أركون بــ «السياج الدوغمائي المغلق»، سياج دكتاتورية التخريج التأويلي الأحادي، سياج يتناقض أصلا وفصلا مع النقد، النقد كحس منتبه يقظ، كسؤال رافض للتسليم.
ما كتبه الناقد البريطاني قد يأخذ دلالات أكثر في سياقنا وفي محيطنا لأن وضعنا لا يحتاج إلى توصيف، كما أن ما ذكره ويذكره غيره في الغرب، ممتد إلينا كمستهلكين ومستخدمين لما أنتجته الدوائر المعرفية والفلسفية والنقدية الغربية من نظريات ومفاهيم وصيغ، وهو ما يلخص ما يمكن قوله عن وضعية النقد عندنا.
إن سؤال النقد يُطرح في كل مرحلة بما تقتضيه من انخراط في رهاناتها وبما يقتضيه التعاطي النقدي المؤسس معرفيا وفكريا من مقومات لاستقامته، وهذا ما يجعلنا عند النظر إلى المنجز النقدي نعتبر بالسياقات ونعي جدل الأنساق وصراع المقولات، ويقودنا النظر إلى ما يحقق تفعيل ما شكلته التراكمات بدون مصادرات وبدون إسقاطات متعسفة.
سؤال النقد هو سؤال التاريخ بتوتراته وسؤال الصيرورة وما يطرأ على معادلاتها من معالم ومجاهيل، سؤال تشعبت منطلقاته ومراميه، تشعبا يقود إلى مساءلة النقد كاشتغال، فما هو النقد؟، هو تمرس على التحرر في التواصل مع النصوص، التحرر من وهم تملك اليقين، من وهم جاهزية الجواب، التحرر من سلطة المفهوم النسقي ومن ملابسات النسق الملتبس بسياق.
النقد سؤال جامع بين الجمالي والأنطولوجي والمعرفي المتعدد، سؤال يفتح إمكانات التأويل بحفر وتفكيك. النقد إبداع في مقاربة الإبداع، مقاربة بمحاورة واختراق واستنطاق ورصد للمنفلت وطفو بالمخبوء وفتح للمستغلق وتجديد لخصوبة النص بتكثيفه علاماتيا ودلاليا.
ربما كان عصر المعرفة والمعلومات عصرا فارقا في مفاهيمه وفي تحولاته وتأثيره على العالم، وعلى الخبر، وعلى الصحيفة وعلى الكتابة في حد ذاتها، مازالت أقسام النقد في العالم العربي ترسل إلينا كل عام بعشرات النقاد الذين لا يمكنك أن تعثر عليهم في الحقيقة على صفحات الصحف، وتحول الكثير منهم إلى أساتذة يسعون جهدهم للترقي مثلهم مثل رفقائهم من أساتذة الجامعات، ومع هذا الانحراف أصبح النقد منفصلا عن الواقع الإبداعي، وستجد أن الكثير من هؤلاء النقاد أيضا تحولوا لفكرة الإبداع ذاتها، أو يقومون بعملية النقد بعد أن يكونوا قد انتهوا من حياتهم الوظيفية، أو أنهم أصبحوا مبدعين شأنهم شأن الكثير من أصحاب الوظائف الأكاديمية، هذا أمر في غاية الأهمية، لأن موت المؤلف وهي النظرية التي نادى بها رولان بارت تأثرا بما نادى به نيتشه نفسه حين استخدم عبارة «موت الإله»، كان لابد أن يستتبعه بالضرورة موت الناقد، وهنا لا يعني الأمر الموت العضوي لكل من المؤلف والناقد، إنما هو نوع من الموت الاعتباري والمعنوي، لأن وجود النص في يد القارئ منحه القدرة على التأويل والتفسير وفقا لوجهة نظره، وبالتالي شحت الحاجة إلى معرفة رأي الناقد الذي سيستخدم من العبارات والاصطلاحات النقدية التي لا يعيرها القارئ أدنى اهتمام.
يرى مؤلف الكِتاب أن هناك تحولات جذرية حدثت في دور الناقد الأكاديمي القائم على حكم القيمة وأن هذا الدور قد تراجع وتضاءل تأثيره وأصبحت علاقته بالجمهور في غاية الوهن في ظل مد النقد الثقافي الذي يتصدر المشهد النقدي في المؤسسة الأكاديمية البريطانية وكذلك الأمريكية.
هذا التحول شمل المشهد الأدبي والفني في العالم بتأثير عصر المعرفة الذي أشرت إليه، حيث أصبح النقد في متناول الجميع، بل إنه أصبح سلعة مستهلكة لا يكاد أحد يلتفت إليها، بحيث حل القارئ العام محل الناقد المتخصص الذي يعمل في المؤسسة الأكاديمية، أو حتى في الصحافة السيارة التي أتاحت في عقود سابقة تأثيرًا واسعًا للنقاد الذين ينشرون مقالاتهم وتعليقاتهم في المجلات التي لديها مساحة من مراجعات الكتب، وكذلك في الملاحق الثقافية التي تصدرها الصحف في العالم الغربي.
إن ذائقة القارئ العادي، والتأثير المعلوماتي القادم من صفحات المدونات والفيسبوك وغيرها من أدوات الشبكات الاجتماعية أصبحت هي المتحكم في هذه المسألة، وهي كتابات في مجملها سريعة للغاية لا يمكنها أن تقيم ثقافة نقدية حقيقية ولكنها طبيعة العصر التي لم يلتفت لها الأكاديميون في مدارس النقد أو تعالوا عليها، وبشكل مؤسف مما ترك الساحة لتلك الذائقة السطحية والتي لا ترى سوى الزخم المعلوماتي والإعلامي، وفي ظل كثير من النقد لأحكام النقاد أنفسهم، وبالتالي إذا كان النقد عاجزا أمام الشللية وأمام الإعلام، فما الحاجة إليه!.
الأمر يحتاج لمراجعات فكرية في مدارس النقد العربية للظاهرتين، عالم المعرفة، وشيوع الذائقة الشخصية، الإنترنت أتت بديمقراطية العوام، فهل يمكن مقاومتها؟!.
ينتمي كِتاب «موت الناقد» لرونان ماكدونالد، الذي تُرجم من طرف فخري صالح، إلى أرشيف مأساة العاملين الأكاديميين منذ القرن العشرين حتى الآن، الذين يعيّنون كمدرسين (أو محاضرين) لكنهم يحملون عبء مصطلحات ذات وظائف تخصصية –فوق طاقتهم- «الأستاذ» و»الباحث» و»الناقد» و»المثقف». وهم لا زالوا يعانون مرارات «تاريخ النقد» الذي لن يكون علماً ولن يكون أدباً أو فناً. رغم أنه يتوجب الحذر في التعامل مع استخدام اللغة المجازي لمفهوم «موت الناقد» غير أنه يتعامل بشكل حرفي مثلما حدث سابقاً مع «موت المؤلف» وسواها من المصطلحات، ولا أكثر موقف سخرية من أن غلطة أكاديمي أمريكي هو فنسنت ليتش أطلقت مصطلح «النقد الثقافي» في كتابه «النقد الأدبي الأمريكي» عام1988 تحولت إلى «حرَاج نقدي» عرض فيه الكثير من بضاعاتهم في الريادة والإنجاز!. وبحسب أطروحة التضاد بين مسارين في تاريخ النقد العربي متوازيان لا يتقاطعان ولا يلتقيان البتة. وكنت قد طرحتها في كتابي «سيادة الكلام: في فعالية النقد» عام2013.
فإنني أفرّق بين نقاد يطوّرون «النظرية الأدبية» غالباً من تتفوق عندهم موهبة التفكير أو الأدب أو الفن مع تطور الأدوات المعرفية والتحليلية، هم من خارج الأكاديمية، بداية من الجاحظ وعبد القاهر الجرجاني حتى عبد الله عبد الجبار وغالي شكري.
وآخرون هم عبدة «النظرية البلاغية» يستخدمون – بالوهم بينما العكس تستخدمهم- النظريات والاتجاهات النقدية شغلهم الشاغل إصدار الأحكام ومنح الألقاب وإسكان من يريدون تحت مظلتهم أو قطع أرجل من امتدت خارج أسرتهم النقدية، وهم حفدة ابن قتيبة وقدامة بن جعفر حتى آخر أي بحث لأحد طلبة أقسام اللغة العربية وآدابها في النقد العربي لدرجات الماجستير والدكتوراه، فهم لن يروا في النقد إلا صرف القيمة الحسابية لا القيمة النسبية!.
وحين يتباكى الناقد الإنجليزي ماكدونالد على انهيار السلطة الأكاديمية في الثقافة عبر فصلين «قيمة النقد» و»أسس القيمة النقدية» ما جعله يساوي بين أحكام الأكاديمي وأي كتابة رأي في المواقع الاجتماعية يتجه في الفصلين الآخرين «العلم والحساسية» و»صعود الدراسات الثقافية» إلى الاعتراف بأن هناك من هم متفوقون على تخرصات الباحثين الأكاديميين. إذ يعترف بأن القرن العشرين مستمر في فضل هؤلاء الأكاديميين حين يضعون أبحاثاً حول «الإنتاج الثقافي» وجعل من مرحلة «الحداثة» أكبر فضيحة كشفت عجز أدواتهم المعرفية والنقدية عن استيعاب هذا الإنتاج ومن ثم محاولة نقده ما دفع إلى أن نشط المثقفين أنفسهم إلى وضع كتابات نظرية كالبيانات والشهادات بالإضافة إلى مقالات ومراجعات كُتب تمكنت من كشف جماليات الحداثة عبر ما أنجزه كل من ت. إس. إليوت وفرجينيا وولف وعزرا باوند، وهو ما حدث أيضاً في مرحلة «ما بعد الحداثة».
فقد عادت لتتضامن العلوم الإنسانية والاجتماعية مع الثقافة ونتاجاتها من الآداب والفنون والفكر، وهو ما أنتج «الدراسات الثقافية» التي أعادت العلاقة بين نتاجات مفكرين ومحللين –وليسوا نقاداً فقط- والثقافة بمفهومها الواسع بالإضافة إلى فئاتها وطبقاتها الاجتماعية مثل رولان بارت وميشيل فوكو وجوليا كريستيفا وجاك لاكان وميخائيل باختين ووريموند وليامز وريتشار هوغارت وستيورات هول وسوزان سونتاغ وتيري إيغلتون وسواهم..
ولعلنا نذهب إلى ما هو أبعد من الإشهار الظاهر لـ «موت الناقد» في تلك الأطروحة بل إلى الإشهار الباطن في العجز المرير لممثلي الأكاديميات مقابل منجزات «الدراسات الثقافية» لكثير من علماء اجتماع هم مثقفون بالفكر والأدب والفن، وليس ممن يكتب عنواناً فاضحاً عن «القبيلة» ولم يرجع إلى مصدر أو مرجع من الأعمال البحثية لعلم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا أو التاريخ الاجتماعي وإنما التعامل مع الحقيقة الاجتماعية والتاريخية التي بوصفها مؤسسة اجتماعية فاعلة في المجتمعات المختلفة باعتبارها ظاهرة بلاغية!.
ويمكن أن أسوق هنا إلى منجزين نقديين كشفا تلك المأساة الأكاديمية الأول «استقبال الآخر» (بيروت، المركز الثقافي العربي، 2004) للناقد سعد البازعي، والثاني «حرباء النقد» (طرابلس، دار الكتاب الجديد، 2011) للمعلم الفاضل حسين الواد.
وقد انعكس على الثقافة العربية تكريس مؤسسة كاذبة تدعي النقد ليس في الأكاديمية فحسب بل حتى في الصحافة الثقافية، ولا أقصد المؤسسة النقدية العربية، لكنها لا تقدم شيئاً غير مجموعة من البحوث والمقالات الممطوطة التي تنتهي صلاحيتها قبل ختامها، وتكشف عن توهم منح الأحكام.
الآن مع تطورات الفنون الأدائية والكتابية والبصرية تطور النقد أيضاً صار صياغة إبداعية وشكل أدبي وفني، النقد الذي لا ذوق له لا شيء أبداً.