قارع طبول الحق الذي انحاز للخاسرين
فقد الأدب العالمي أمس الكاتب الألماني الكبير غونتر غراس الذي انطفأ عن 87 عاما، تاركا إرثا أدبيا ومواقف نادرة بين المثقفين الغربيين. لقد فضّل مخترع الطفل الذي لا يكبر ويدمر محيطه بصرخاته في «الطمبور» أن ينهي حياته يساريا مناهضا «لوحشية» الرأسمالية ومؤمنا بأن الدولة وحدها التي تضمن العدالة الاجتماعية والاقتصادية بين المواطنين، وذهب أبعد من ذلك حين أدان بصوت عال «النفاق الغربي» حيال إسرائيل. وحق للأكاديمية السويدية أن تصفه في حيثيات منحه جائزة نوبل سنة 1999 بكاتب الضحايا والخاسرين.
و إذا كان نقاد الأدب يضعون ثلاثية غونتر غراس: الطمبور ( الطبل والصفيح)، القط والفأر وسنوات الكلب، ضمن الروايات التي أحدثت انقلابا في الأدب الألماني والعالمي، فإن سيرته ومواقفه صنعت الحدث ووضعته في عواصف من الجدل. ولعل سيرته «تقشير البصل» التي كشف فيها عن انتمائه إلى وحدات خاصة في الجيش النازي في شبابه وإخفائه للأمر طيلة حياته كان لها مفعول القنبلة في الأوساط الأدبية والسياسية في أوروبا. وحتى و إن ارتفعت أصوات تحيي شجاعة الكاتب ونزاهته في تصفية الحساب حتى مع ذاته، فإنها أعطت فرصة لخصوم لم يترددوا في الحديث عن «الماضي النازي» لأكبر كاتب ألماني في العصر الحديث. ولم تهدأ عاصفة المذكرات حتى هبت عاصفة القصيدة النثرية التي نشرها غراس في أفريل 2012 النص أدان النفاق العالمي تجاه إسرائيل، وتغاضيها عن امتلاك سلاح نووي يهدد استقرار العالم، و الصمت على تحرشها المستمر بإيران وتخطيطها لضرب هذا البلد لثنيه عن امتلاك السلاح النووي.
وشجب غراس في قصيدته التي حملت عنوان» ما يجب أن يقال» تهديد إسرائيل بشن ضربات وقائية ضد المنشآت النووية الايرانية معتبرا أن ذلك قد تؤدي إلى «القضاء على الشعب الإيراني للاشتباه بأن قادته يصنعون قنبلة ذرية». وكتب غراس :»هناك دولة أخرى تمتلك منذ سنوات ترسانة نووية تتطور يوما بعد يوم، مع أنها تبقى سرية ومن دون أن تخضع للتفتيش فأي عملية تدقيق محظورة»، مشيرا إلى «الصمت المعمم على هذه الوقائع» التي يصفها بأنها «كذبة ثقيلة» لأن «تهمة معاداة السامية ستوجه مباشرة» إلى الذي ينتهك هذا الصمت.وتساءل «لماذا أقول الآن فقط (...) آن القوة الذرية لإسرائيل تهدد السلام العالمي الهش في الأساس؟ لأنه ينبغي أن نقول الآن ما قد يفوت أوانه غدا».
وتابع “لن اسكت بعد الآن لأني سئمت من نفاق الغرب” حيال إسرائيل “المسؤولة الفعلية عن هذا التهديد”. وبالطبع فإن تهمة معاداة السامية ألصقت بالكاتب
و أعلنت تل أبيب غونتر غراس شخصا غير مرغوب فيه ووصفت المثقفين الغربيين الذين سكتوا عن قصيدته بالمنافقين ، ولم يكن بين هؤلاء “المنافقين” الفيلسوف برنار هنري ليفي الذي وجه للكاتب الألماني رسالة نارية وصفه فيها بالنازي الجديد وصديق المتطرفين، وقال الفيلسوف أن غراس الذي يعد من كبار الكتاب الأوروبيين لم يجد أفضل من نشر «قصيدة» يشرح فيها بأنه ليس هناك من خطر جدي فوق رؤوسنا سوى هذا الخطر الذي يأتي من بلد صغير جدا، من أصغر بلدان العالم، دولة إسرائيل. الاستهجان ظل لفترة طويلة مادة للصحافة الألمانية التي تعودت النظر بعين الريبة إلى الكاتب منذ سقوط جدار برلين. لكنه حملاتها لم تنل من مكانته التي بناها حجرا حجرا هو الذي تقلب بين فنون كثيرا من الرسم على النحت إلى الرواية التي منحته المجد. والغريب أن المناوئين الذين أصبحوا لا يتأخرون في التذكير بماضي عسكري انتمى إليه وهو يافع، لا يذكرون أن أمه و أخته تعرضتا للاغتصاب من طرف جنود روس في قوات التحالف.
العجز المشاغب ظل على دينه، يساريا يرفض مجاراة المركزية الأوروبية في خطابها الذي يضخم الذات، بل على العكس من ذلك استدعى التاريخ بمساوئه لتدريب الناس على النظر إلى الحقيقة مستعينا بفانتازيا هي ابنة خيبة وسخرية ومريرة.
وقبل أسابيع من رحيله قال غراس أن الحرب الثالثة التي يخشى الناس حدوثها، بدأت فعلا، لكن بطريقة أخرى.
وبإختفاء غراس يفقد العالم واحدا النجوم المضيئة في عصرنا، كاتب انحاز للحق وعاش رافضا للهيمنة التي تنتجها ثقافة ينتمي إليها، منتصرا للقيم الإنسانية. القيم التي يبدو انها سائرة نحو الانقراض في عالم يسيطر عليه تجار السلاح و عرابو الحروب.
ق-ث
في خضم الزوبعة التي أثارها كشف غونتر غراس عن ماضيه كمجند في صفوف الجيش النازي، و قبل أن يصدر قصيدته المشهورة الأخرى «ما يجب أن يقال» لم يكن الكثيرون يجرأون على الوقوف في صف الكاتب الألماني المثير للجدل، لكن الكاتب الروائي الأمريكي الشهير جون إيرفينغ عبر عن موقفه باعتباره لغراس بطلا و نموذجا للاستقامة الأخلاقية، و هنا ترجمة لنص كتبه إيرفينغ دفاعا عن غونتر غراس مأخوذا من موقع جريدة الغارديان البريطانية.
كيف أشعر حيال ما وصفه كورت فانغوت بأنه «عاصفة من القذارة» بشأن الثرثرة الوطنية في وسائل الإعلام الألمانية، في أعقاب كشف صديقي غونتر غراس عن كونه قد انساق للانخراط في صفوف الجنود المقاتلين تحت الحكم النازي في ألمانيا الهتلرية و عمره 17 سنة؟
من خلال ما قرأت من افتتاحيات و آراء و الكثير من الملاحظات التي عبر عنها كتاب مثلي، و نقاد و صحفيين من مختلف التوجهات السياسية، يتضح أن هناك توقعات برغبة تدعي التهذيب في سلوكها تهدف إلى تفكيك حياة غراس و أعماله انطلاقا من -يا له من جبن- موقع الإدراك المتأخر ، الذي يتموقع فيه الكثير من المثقفين مرتاحين للهجوم على أهدافهم.
غراس يبقى بطلا بالنسبة لي، في الحالتين ككاتب و كبوصلة أخلاق، شجاعته في كلتا الحالتين ككاتب و كمواطن ألماني كانت مثالية- شجاعة تزايدت و لم تنقص منها أبرز تصريحاته الأخيرة.
غراس تجند في سن الخامسة عشرة، و قال أنه اختار التطوع في صف الجنود النازيين أساسا لأنه كان يرغب في «الابتعاد عن البيت». أتساءل هل يمكن لأحد من منتقديه أن يتذكر حاله و هو في سن 15. كان قد سجل للتطوع في سلاح الغواصات، لكن في الأشهر الأخيرة من الحرب كان الجيش النازي يضم إلى صفوفه كل شخص يجده أمامه.
لا أحكم على ما يمكن لمجند سنه 17 عاما أن ينتظر من وراء تطوعه في الجيش و بالمختصر من أجل القتل و الاغتصاب.
لقد ترشحت لأجل أن أكون ضابط تدريب و عمري 19 سنة في 1961، كان يمكنني أن يكون في فيتنام على الأرجح في بداية 1965، بعد تخرجي من الجامعة، لكن طفلي الأول ولد في مارس من تلك السنة.
في تلك الأيام لم يكونوا ليأخذونك للقتال إذا كنت أبا. لم أخدم في الجيش مطلقا. كنت معارضا سياسيا للحرب، لكنني الآن أرغب في الذهاب، كنت أكثر فضولا بشأن الحرب أكثر مما كنت حساسا لها، و شعرت بالذنب لأنني حين صرت أبا، و أنا لا أزال طالبا في الكلية و قد تم صرفي من خدمة الجيش (لم يكن الأمر مقصودا).
أنا أعالج ببطء، و هذا شأن الكثيرين من الكتاب. كتبت روايتي عن فيتنام، «صلاة لأجل أوين ميني»، بعد 20 عاما من الحرب. تعمدت أن أضع مجريات روايتي عن الإجهاض «قواعد بيت عصير التفاح» متأخرة في الثلاثينات و الأربعينات، لأجعل قصتي بعيدة قدر الإمكان عن النقاش السياسي الدائر حول الإجهاض حاليا. أحب أن آخذ بعدا زمنيا عن الأشياء التي أكتب عنها و التي أثرت في بجدية-بسيكولوجيا و عاطفيا.
كتبت عن طفولتي و عن مراهقتي ليس في روايتي الأولى و لا الثانية، حينما كنت لا أزال شابا يافعا، لكن في روايتي الحادية عشرة و روايتي الحديثة، «إلى حين وجدتك»، حين صرت في أواخر الخمسينات و بدايات الستينات من العمر. فقط حينها كشفت لوسائل الإعلام أن التجارب الأساسية الغالبة في تلك الرواية كانت مستوحاة من سيرتي الذاتية – و تحديدا الأب المفقود الذي لم أقم بالإشارة إليه، و الاعتداء الجنسي ( في حالتي كان في سن الحادية عشرة مع امرأة في العشرينات من عمرها، في الرواية كان الشخص ذو 10 سنين و المرأة في الأربعينات).
الآن توجد كل هذه الشكاوي في ألمانيا حول متى اختار غراس أن يكشف عن ترشحه للانخراط في الجيش عندما كان مراهقا، الرجل ( والكاتب) هو نموذج للبحث عن الذات و نموذج لضمير الأمة.
الناس يقولون أنه تعمد إخفاء تلك المعلومات إلى حين فوزه بجائزة نوبل للآداب، لأنه ما كان ليحصل على الجائزة لو كان معلوما أنه كان في صفوف الجيش النازي. (لو كان صحيحا أن لجنة جائزة نوبل ما كانت لتمنحه الجائزة في ظل مثل هذه الظروف، إذن لكان على اللجنة ذاتها أن تقوم بعملية استبطان لذاتها- أعتقد أنها جائزة من أجل الأدب، و ليس من أجل الاستقامة السياسية.) و بعض الناس يقولون أن غراس اختار توقيت الكشف عن ماضيه لكي يبيع أكبر عدد ممكن من كتاب سيرته الذاتية الجديد.
سمعت هذا حينما تحدثت علنا عن تجربتي الجنسية بينما كنت ابن 11 سنة مع امرأة أكبر مني سنا- من أنني مجرد بائع كتب. كم هم مغفلين القراء الحقيقيون للروايات المعقدة بحسب ما يعتقده النقاد و الصحفيون؟ لم يتناقص عدد قراء غراس و لا عدد قرائي.
انتشار العداء الواسع في وسائل الإعلام الألمانية كان بغيضا. غراس كاتب جريئ، و قد كان على الدوام رجلا جريئا.
ألم يكن يضع نفسه في مكان الخطر أولا في سن الخامسة عشرة و بعدها لما بلغ السابعة عشرة؟ و الآن مرة أخرى و هو في سن 79؟ و مرة أخرى الكلاب الصغيرة الجبانة تعض عقبيه.
كان هناك كاتب ألماني آخر متميز، طوماس مان، الذي كتب عن «حساسية الكاتب –المعروفة جيدا- تجاه الازدراء و حيال الأحقاد التي يتعرض لها...لا يهم بمقدار ما تتضح تلك الاعتداءات وهي نابعة من بغضاء شخصية». و أضاف مان أن «الأعداء هم الشيء الضروري المصاحب لكل حياة قوية...و غالبا ما يكونون الدليل الجلي على قوتنا».