تدفقٌ إبداعيٌ يأبى التَّوقف
من لا يعرف الشاعر والكاتب أحمد عاشوري المُبدع الذي لم يتوقف أبدا عن الكتابة كما حدث مع كثيرين جفتْ أقلامهم مبكرا؟ إذ منذ صدور ديوانه الأول «البحيرة الخضراء» سنة 1980 وهو مقيمٌ في فضاء الإبداع الفكري والأدبي منذ ما يزيد عن ثلاثين سنة،
فوزي حساينية
فهو بحق واحد من أبرز الشعراء والكتاب الجزائريين، ودواوينه الشعرية وأعماله القصصية التي دأب على إصدارها سنة بعد أخرى أصبحت بمثابة مكتبة تتعدد عناوينها كما تتعدد مضامينها لكنها تشترك في حقيقة أنها تُمثل في مجموعها مرافعات حارةً راقيةً من أجل الطبيعة، وانحيازٌ مطلقٌ للثورة، وتفاعل دائم مع الشهداء، وغناء لا يتوقف عن تضحيات الرجال والنساء، نعم، شدوٌ وغناءٌ وتوثيقٌ لا يتوقف أبدا فعندما يتعلق الأمر بالثورة فالشاعر والأديب أحمد عاشوري حاضرٌ متحفِّزٌ على الفور، فهو يقدم منذ أكثر من عشر سنوات عبر أمواج إذاعة قالمة الجهوية برنامجه المشهور»صوتُ الجبالِ» الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من اهتمامات الرأي العام وقطاع عريض من المثقفين والأكاديميين، والميزة الأساسية لبرنامج صوت الجبال هو إخراج تاريخ الثورة وبطولات الرجال والنساء، وجرائم الاستعمار، وخيانة الخائنين من الدائرة الأكاديمية المغلقة إلى فضاء الأثير الواسع ليكون التاريخ بكل حُمولاته وتداعياته وإيحاءاتهِ محل نقاش وتحليل بعيدا عن التَّعالمُ والاستعلاءِ المعرفي وبمنأى عن التحفظات التي مضى وقتها، وهي الميزة الأساسية أيضا لإبداعات أحمد عاشوري التي تحاول أن تلامس ببساطة ساحرة عظمة الإنسانِ وهُمومهِ كما هواجسهِ وسقطاتهِ، والحقُ الذي يجب أن يُقال أننا لا نجد إلا قلة قليلة من الشعراء الجزائريين الذين كرسوا فنهم وقدراتهم للطبيعة بكل تفاصيلها كما فعل شاعرنا، فالوديان والنباتات والزهور والأشواك والطيور والفراشات، البحر والجبال والغابات وأشجارها وإلهاماتها المتنوعة، القُرى والأرياف بأسرارها وأوليائها كل ذلك تجده مصاغاً ومعبراً عنه في قصائد شعرية ونصوص نثرية تحترم اللغة وتستنطق خفايا الكلمات وأسرار الحروف،
وإذا كان هذا شأن شاعرنا وأديبنا مع الطبيعة، فإن شأنه مع الثورة الجزائرية أعظم وأجل إذ أن أعماله الشعرية ونصوصه الأدبية كلها لا تكاد تعتقد أنها ابتعدت عن موضوع الثورة حتى تكتشف أنها ما ابتعدت إلا لتعود برؤية جديدة، أو بقصة من قصص الوفاء والتضحية، إنما يبتعدُ أحمد عاشوري عن الثورة ابتعاداً إبداعياً إن صح التعبير، مثل العاشق الذي يحمل نفسه حملا على مفارقة حبيبته ظنا منه أنه يملك الشجاعة والقدرة على فعل ذلك، ليعود أكثر شوقا وتشبثا بها بعد أن يكتشف صعوبة بل استحالة الابتعادِ، والحقُ الذي يجب أن يقال أيضاً أننا لا نجد إلا قلة من الشعراء في الجزائر اليوم ممن لا يزالون يواصلون الغناء للثورة كما يفعل شاعر الطبيعة والثورة الذي يُعَدُّهُ أحمد عاشوري، الذي عندما تقرأ كتاباته الشعرية أو النثرية عن الثورة فإنك يقيناً لن تكون بصدد تاريخ مضى أو قصة من زمن ما، بل إنَّك واجدٌ نفسك تعيش الثورة وكأنها فيك أو كأن الثورة لا تزال هنا وهناك تحركُ المدن والقرى، وتهز الجبال والسهول، وأنت مطوقٌ بعبيرها وتُصغي لصوت الرصاص، وزغاريد النساء، وبكاءُ الفرحةِ والوفاءِ، ولسنا نبالغ أبدا إذا قلنا أن الشاعر أحمد عاشوري هو من بين ألمعِ شعراء الثورة بعد الثورة، ويكفي أن نستعرض في هذا المقال المختصر بعض العناوين التي صدرت له سنة2017 وهي: أوجاع زهار الجزائري( شعر) زُمَّجُ الماء في زيامة منصورية( نصوص) عرش بني مزلين أو الأرض الحمراء (تاريخ) ،أغاني الجبال ( شعر شعبي ثوري مجموع )، فأحمد عاشوري معروف بنظم الشعر وكتابة النصوص الأدبية، لكن الجديد هو اقتحامه عالم الكتابة الروائية برائعة «نوار زواوة» التي تتناول الثورة الجزائرية بجبال هوارة الواقعة شرق ولاية قالمة.
وعلى سبيل المثال نتوقف هنا عند إصدار « أغاني الجبال « الذي تولى من خلاله جمع وتسجيل اثنتين وعشرين قصيدة شعبية كانت تُغَنَّى خلال الثورة بمختلف نواحي قالمة، وقد افتتحه بــ» نظرية الشعب الشاعر» التي أشار فيها إلى تلك اللحظة التاريخية البعيدة عندما كان الشعب الإغريقي يكتب ويبدع الأغاني ليمجد أبطاله وانتصاراته، وتوارى الشاعر الفرد لمصلحة الشعب الشاعر، ودون الاهتمام بعد ذلك باسم من توقع القصيدة ، وهكذا نجد أن الشعب الإغريقي غنى وأنشد وهوميروس جمع ونقَّحَ ووثَّقَ، فالشعب ليست مُهمته أن يجمع ويوثق بل مهمته أن يُغني ويتغنى، وهي الحالة التي عاشها الشعب الجزائري بفضل الثورة التي فجرت في داخله روح الشاعر، وهكذا تحول الشعب الجزائري من شعب ثائر إلى شعب شاعر، وأصبحت القصائد تُؤلفُ في كل مكان وصار بمقدور كل فرد من الشعب أن يكتب قصيدة، فكانت القصائد والأغاني كما العمليات الثورية التي انفجرت على أرض ثائرة، كل هؤلاء الناس نسوا أن يُوقعوا قصائدهم...فالمهم أن يستمر الغناء في هذه الثورة المتفجرة، ويختم الأستاذ نظريته حول الشعب الثائر الشاعر بهذه العبارات المؤثرة « غنى الشعب الجزائري للثورة الجزائرية غناء مفعما بالبساطة اللذيذة والروح السلسة، مما زاد في اشتعال أتون الثورة وتحولت الثورة إلى لحظة ألم، ألم الصديقين والشهداء، وهذا هو الذي أعطى للثورة الجزائرية هالة من القدسية، إذن فسقوط شهيد يعني لحظة فرح حيث تعلو الزغاريد ويبدأ الغناء « ، وبعدها نقرأ مقدمة عن الأغنية الشعبية في منطقة قالمة أوضح فيها كيف أصبح الإنسان الجزائري منتشيا بالثورة وكأن الثورة ليست وسيلة إلى هدف بل هي غاية في ذاتها، إنَّه ذلك الشعور الذي طغى على الكثير من الجزائريين إبان الثورة حتى أن هؤلاء الثوار كانوا يتمنون أن يموتوا ولا يهم إن حضروا أو لم يحضروا لتباشير الاستقلال، معبرين بذلك عمَّا كان يردده القائد يوسف زيغود من أنه يتمنى أن لا يحضر للاستقلال ، وكأن الثورة فحسب هي الغاية، لكن الأستاذ يوضح لنا أن الزخم الثوري بمعانيه الفلسفية والإنسانية يجعل من الثور وسيلة وغاية في آن واحد، وتصبح الحرية بعدها تحصيل حاصل، مصورا لنا ذلك القلق الذي يسيطر على الإنسان وهو يخرج عود ثقاب ليشعل الفتيل ويمتد لهيبه إلى برميل البارود الذي سيدمر الأركان وينسفها نسفا ليجري البحث بعد الانفجار عن بناء أركان جديدة، فالثورة نسف وبناء للإنسان في كل مكان من هذا العالم الذي يرفض الاستكانة، فإذا كان الله يفجر الكواكب والنجوم، ينشرها في كل مكان ثم يجمع ذراتها ويخلق منها كواكب ونجوما جديدة، كذلك علماء النبات يوجهوننا أحيانا إلى ضرورة إشعال الغابة برُمَّتِهَا من أجل تنقيتها من الشوائب والطفيليات الضارة، وإعادة بنائها مرة أخرى، مؤكدا أن « الإنسان يسعى دائما إلى الأهداف النبيلة « ! وقد يكون من الصعب أن نسلم مع الأستاذ بسعي الإنسان الدائم إلى الأهداف النبيلة، أو بحجم ومدى المثالية التي أضفاها على علاقة الإنسان بالثورة، أو بأن هوميروس وُجدَ حقيقة وقام بجمع الإلياذة ، فهذه المسائل محل جدل عميق ويصعب الفصل فيها بالطريقة التي عرضها الأستاذ، لكن المؤكد أنك واجد لذة عميقة ومتعة فائقة،وإثارة فكرية جدلية، وأنت تقرأ الصفحات الخمس الأولى من هذا الكتاب، وذلك قبل أن تشرع في اكتشاف ألوان ونماذجَ مثيرة من الشعر الثوري الشعبي في منطقة قالمة خلال ثورة التحرير.
وكان من المفروض حقا أن تشهد الساحة الثقافية المحلية بمناسبة صدور رواية « نوار زواوة « أو كتاب « أغاني الجبال « احتفالية فكرية أدبية لائقة، لكن في حالتنا يجب أن نقف عند حدود لكن، لأن ما بعد لكن، تبدأ قصص وأحاديث أخرى !