ثقافة «البازار» شوّهت الذوق العام للجزائريين
يعرض الفنان التشكيلي و النحات نور الدين تابرحة مجموعة من أعماله الجديدة منذ أيام برواق باية محي الدين بقصر الثقافة بالعاصمة في معرض يحمل عنوان « أوراسيا»، حيث تحظى إبداعاته بالكثير من الاهتمام من قبل رواد المعرض الذين أعادوا نشر صور لبعض الأعمال عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما أثار تميزها فضولهم و جذبتهم اللمسة المعاصرة فيها، وهي لمسة قال عنها الفنان بأنها وليدة رغبة جامحة في التجديد و الخروج بالفن من قوقعة التكرار و الرتابة.
نور الدين تابرحة من مواليد 1967 جنوب الأوراس، نزح إلى عاصمة الزيبان رفقة عائلته لأسباب اجتماعية و اقتصادية، يمتهن تدريس التربية التشكيلية ببلدية سيدي عقبة و يمارس الفن، هكذا عرف عن نفسه للنصر، مضيفا بأن علاقته بقسنطينة وطيدة، فقد عرض فيها سنة 1993 و عاد إليها مجددا سنة 2004، ولطالما جمعه بجمهورها رباط حسي وفني خاص، كما قال، مشيرا إلى أنه يتمنى فعلا لو يعرض فيها قريبا مجموعته الفنية الجديدة التي تزين بهو رواق باية محي الدين، و المتكونة من 75 قطعة بين لوحة و منحوتة، تشكل مجتمعة معرض أوراسيا، مملكة العشق و الإبداع.
وعن هذه المجموعة قال الفنان، بأنها عبارة عن إبداعات يدوية بلغة بصرية جديدة، خارجة عن المألوف، تعانق بتميزها الفن المعاصر، بعيدا عن قيود المدارس التقليدية، حيث يحاول من خلالها أن يعيد الحياة لأشياء تم الاستغناء عنها و ركنها، وذلك من خلال رسكلة بقايا النحاس والخشب و حتى الرخام، بطريقة فنية و معالجتها بتقنيات جديدة مختلفة.
أما سبب تركيزه على استخدام النحاس كمادة أساسية، فقد أوضح الفنان، بأنه يفضله عن باقي المواد بسبب تفاعلاته الكيميائية الجميلة التي يحصل عليها بعد معالجته، والتي يمكن لمن يقف أمام أعماله أن يلاحظها جليا، كما سيلاحظ بأن هناك مصدرا خفيا للإلهام في كل قطعة، يقول المبدع، بأنه مستمد من طفولته و إرثه الشعبي، الذي يحاول أن يقدمهما للجمهور من خلال مشاهد يعرفها الجميع، لكن القليلون يجيدون التعبير عنها.
وبخصوص لوحاته التي تمتزج فيها إضاءة النحاس المصقول بالألوان، فإنه يحاول، كما عبر، أن يخرج من الاستنساخ ليكون حداثيا أكثر، فيقدم للساحة الفنية الجزائرية الجديد، الذي قد يساهم ولو بجزء قليل في إعادة بناء شخصية الفرد فنيا، و بعث ثقافة تذوقه في المجتمع، بعدما أفسدت ثقافة « البازار» على حد تعبيره، الذوق العام، و جعلت الجزائري يرفض الأشياء الراقية و يعتبرها «زائدة عن حاجاته»، ولذلك فهو مستعد لأن ينفق الكثير على الأدوات الكهرومنزلية أو المجوهرات وغيرها من الماديات، لكنه غير قادر على بذل القليل، مقابل عمل فني، و الدليل، حسبه، هو عدم وجود سوق فنية في الجزائر.
و بالرغم، كما قال، من الحديث عن تأسيس سوق مماثلة، إلا أن الأمر يبقى مجرد حديث، فلا وجود لميكانيزمات جادة لخلق هذا الفضاء التجاري الفني، سواء بشكل مستقل أو على مستوى المتاحف الوطنية، أما من يهتمون بالفن اليوم، فهم فئة قليلة ممن يزورون المتاحف الفنية في العالم، علما بأن من بينهم من يتصنعون الاهتمام، كما يتصنعون الثقافة وهو واقع يعيشه الفنانون خلال معارضهم، كما أضاف.
تسويق الفن في الجزائر كان أسهل قبل 20سنة
أمام هذا الوضع، فإن قدرة الفنان على تسويق فنه تكاد تكون منعدمة حاليا على حد تعبيره، بالرغم من أنها كانت أسهل بكثير قبل 20سنة، فزبائن اللوحة أو المنحوتة، لم يكونوا رجال أعمال أو أثرياء، بل كانوا من المثقفين ، فنانين و إعلاميين و كتاب و روائيين و غيرهم، وهؤلاء أنفسهم انسحبوا تدريجيا، بفعل تغييرات اجتماعية و اقتصادية أفقدتهم مناعتهم ضد كل ما هو مادي، على حد تعبيره، و السبب هو ضعف القاعدة الثقافية في الجزائر، بالرغم من أنها كانت سباقة لتأسيس متاحف و مدارس الفنون الجميلة، حتى أن معهد الفنون كان في الماضي فرعا من فروع البريد.
و حتى « البريكولاج» و طريقة التعامل مع الثقافة، حسبه، أثرا على تعاطي الجزائريين عموما مع الفن، لذلك فالفنان اليوم كائن يسبح في فضائه الخاص، ولا يمكن أن يعيش من أعماله، لكن يتوجب عليه هو أيضا الابتعاد عن السلبية، فعدم القدرة على تسويق المنتوج الفني، يجب ألا يكون نهاية العالم ولا يتوجب أن يسمح المبدع لذلك أن يصنع القطيعة بينه و بين العطاء الفني، كما قال.
الأسماء المكرسة تقدم للسلطة ما هو قريب إليها بصريا و فكريا
عن سبب تكرار مشاركة نفس الأسماء تقريبا في التظاهرات الفنية الرسمية و حتى تلك التي تجري في الخارج و تشارك فيها الجزائر عادة، فقد علق الفنان بالقول بأن هناك من يدمنون، حسبه، التقرب من مكاتب الوزارة، حتى أنهم لا يهتمون بالإنتاج الجديد، لأنهم يدركون بأن السلطة تقتني كل ما هو قريب إليها بصريا و حتى فكريا، والشخص الذي يحترم نفسه، كما عبر، لا يجنح بمثل هذه الممارسات، لأن الفن حر و من غير اللائق ممارسة التسول الثقافي.
الرواية تخدم اللوحة التشكيلية و تروج للفن
يعرف الفنان بلوحاته قائلا بأنها رحلة بحث أركيولوجية في رحاب مملكة نوميديا بأنفاس معاصرة، وهي أوشام وكتابة في تكوينات فنية رائعة، ولذلك فكثيرا ما يختاره بعض الشعراء و الروائيين كأغلفة لإصداراتهم، إذ سبق لها أن كانت واجهة لـ 14 كتابا، وهي تجربة يقول عنها نور الدين تابرحة، بأنها جيدة و عملية، خصوصا وان اختيار اللوحة كثيرا ما يخدم عادة مضمون الكتاب و يختزله في توليفة من الألوان، قد تجعلك تنفر من الإصدار أو تقبل عليه، إضافة إلى أن هذا التعامل بين الكاتب و التشكيلي من شأنه أن يخرج الشعر مثلا من بوتقة البحور الضيقة و ينأى به حسيا عن اللغة. كما أن في هذه الشراكة غير المادية خدمة معنوية للفن عموما، لأن الكتب التي تسافر لتشارك في معارض في الخارج، تروج خلال رحلتها لأعمال التشكيلي و تعرف بهذا الفن في الجزائر.
هدى طابي