يقتضي منا المقام التّحليلي والفلسفي هنا وصف المشكلات التي تسكن في أذهان الكثير من كُتابنا في الفكر والفلسفة والنّقد، هل هي مشكلات حيّة أم ميّتة؟ وهل ما يتداوله كتابنا ومفكرونا من إشكالات كاللغة ونظرية المعرفة وأزمة القيم وقيمة الحداثة ومستقبل ما بعد الحداثة وغيرها من الموضوعات. فعلا يمكن أن تكون هي الأسئلة الكبرى التي من الأجدى لعقولنا الفلسفية تركيز التفكير حولها؟ أم أن الاستقراء الحقيقي يكشف لنا طلوع المشكلات الحقيقية التي تستغرق اهتمامات الإنسان المعاصر، وبالأحرى أنّها عذاباته التي يدور حولها من أجل إيجاد التَّدبير المستقيم الذي يجعله يحصل على الأمن الأنطولوجي بدلا فقدانه، والتَّكامل في الوجود بدلا من التّجزيء، والقيمة الحيّة، بدلا من العدمية، والانشراح النّفسي بدلا من الاكتئاب، والجودة في الحياة بدلا من الاختزال في الحياة الاستهلاكية.
إشكال الدّين: هذا الإشكال هو في الحقيقة ليس واقعيا فقط، وإنّما يمتدُّ في التّاريخ أيضا، واليوم يشهد أوجّه وصعوده من خلال التفكير في طريقة جديدة تمكّن الإنسانية الحائرة المعاصرة من تدبير العلاقة معه، لأن قطيعة التَّجربة الحداثية مع الدّين وتهميشها للمقدّس والأخلاقي، لم تلبّي حاجة الإنسان العميقة في ذاته، أو أنّها لم تعط معنى متكاملا للحياة يتكامل فيها الوجود الدّنيوي مع الأخروي، فظهرت أعراض هذا الخلل في عودة الدّيني وانتشار الإيمان مجدّدا بالأفكار الدّينية، والسؤال المركزي خلف هذا كله يتمحور حول مصير الإنسان النهائي ومستقبل معنى وجوده على هذه الأرض، فالفكر اليوم إذن يبحث عن الطرق التي تجعله يحفظ للدّين قيمته ويجعل له المكان اللاّئق به، بعد تجربة الانفصال عنه، لأن حفظ الدّين يستلزم حفظ الحياة الإنسانية، وكأنّنا اليوم كما يقول جياني فاتيمو الفيلسوف الإيطالي وريث الفيلسوفين الألمانيين، نيتشه وهيدجر، أن عظمة الله تستعيد دورها.
إشكال العقل: تحت هذا الإشكال تتجلّى اليوم كافة الأزمات في العلوم، الطبيعية منها والاجتماعية، كيف نفسر التناقض بين الطموح في قدرة العقل الكلية من خلال أدواته العلمية، على تفسير كل ظواهر العالم، وبين أزمات العلوم المعاصرة التي طالعتنا بحدود العقل وعجزه عن الإحاطة التّفسيرية بالأشياء، فضلا عن أن ّرقعة المجهول أضحت أوسع من رقعة المعلوم، بتنا اليوم في قلق آخر حول تقديس المعرفة العلمية والثقة بها بما هي مشكلة الابستمولوجيا المعاصرة، إن ّالعلوم التي ينتجها العقل ليست يقينية، فتاريخ العلم وعلم اجتماع العلوم طالعتنا بأن المعرفة العلمية ظاهرة معقدة يصعب فصلها عن باقي المجالات الإنسانية كالدّين والأسطورة والأنثربولوجيا، إن العقلانية اليوم محكومة باللاّعقلانية، والعلم في صورته الجديدة اليوم أضحى يقوم على أربعة أرجل فيما يقول إدغار موران، العقلانية والتّجريبية والخيال والتَّحقّق، ودلالة هذا الإشكال في العقل، أن الإنسانية الحائرة اليوم تسأل، ما الدّروب التي نحفظ بها العقل من النّماذج العلمية الاختزالية؟ ما هي شروط التكامل والتّرابط بين العقل واللاّعقل؟ كيف نحافظ على تنمية العقل بالمعرفة دون أن نكون ضحية هذه المعرفة؟ هل ثمة مصادر أخرى للمعرفة يمكن أن تكون ضامنة لأفعال العقل في التفكر والتعلم؟
إشكال القيم: يعرف إشكال القيم الأخلاقية ظهوره الجلي اليوم، في فرع أخلاقيات البيولوجيا، هذا الفرع الذي وجد نفسه أمام ضرورة استدعاء الأخلاق مجدّدا، فيما بات يعرف اليوم بـــــ: العودة إلى الأخلاق = Retour à l’éthique» وذلك من أجل حفظ الكرامة الإنسانية، فمشكلات الاستنساخ وبنوك المني والأرحام المؤجرة ووسائل الإنجاب الصناعية، حتمت على الأخلاق ضرورة بلورة معايير توجيهية للتّجارب البيولوجية التي لا تحتكم إلى أيّة قيم أخلاقية، فهل يجوز أخلاقيا أن تؤجّر امرأة من امرأة أخرى رحمها مقابل مبالغ مالية؟ أم أن هذا غير مشروع من النَّاحية الأخلاقية؟ هل يجوز الاحتفاظ بمني المتوفى ومتى أرادت الزوجة الإنجاب أنجبت منه؟ ما هو الإشكال القانوني خلف هذا؟ وغيرها من المشكلات التي يتسبب فيها العلم الحديث.
هل ندعو كما قال الفيلسوف الألماني بيتر سلوترديك بوضع قواعد لحظيرة بشرية؟ أم أنّ هذا الجموح العلمي اللاّمحدود يحتاج إلى لجم أخلاقي له، لأنه يخدش الكرامة الإنسانية، وإن هذه الأزمات في القيم التي تعرف ظهورها في أخلاقيات البيولوجيا دلالاتها الكبرى أن مبحث أخلاقيات البيولوجيا يبحث في كيفية حفظ العرض والنّسل وحفظ الأسرة الفطرية، وليست أشكال التلاقي التي تعرف اليوم باسم المثلية، التي تخالف الطبيعة الإنسانية في تكامل فيها الذكورة والأنوثة من أجل قيم أعلى من تلبية الحاجة الجنسية الشاذّة.
إشكال الذّات: نقصد بالذّات هنا، الكينونة الإنسانية بتركيبها الجسمي والعقلي والروحي، ففي الخطاب الفلسفي المعاصر، ثمة نقد لاختزال الذّات في البحث عن رغد العيش بدلا من السعادة، والبحث في المقابل عن تدبيرات أخرى تحقق جودة الحياة التي تعني العيش بتلبية حاجات الإنسان ذات النزوع الغريزي والحاجات ذات النّزوع الرُّوحي، أيضا، لأن الحاجة الرّوحية كما يكشف لنا تاريخ الأديان مع مارسا إلياد، أنّها بنية في الوعي وليست مرحلة من مراحل الوعي. إن صورة الذّات اليوم أعطت للحياة منظرا كئيبا، والفلسفة النّسوية التي تزحف لكي تؤنث العالم اليوم بقولها مثلا بـــ: «أنثوية العلم، تأنيث القيم» فيما تقول جوليا كريستيفا، عرض أو علامة على أزمة الذّات. وأزمة البيئة هي عرض آخر على أزمة الذّات أيضا، لأن الذّات الحداثية فهمت الطبيعة كفضاء خال من المعاني والأسرار، واعتبرته مكانا للنّهب وليس حرما نسكن فيه، وفهمت الذّات الحداثية أيضا أن المعرفة هي وسيلة للسّيطرة وليست أساليب وفنون لتهذيب النّفس وتحريرها من نزوعها البيولوجي الطّاغي. هذا وإن الجهود الفلسفية المعاصرة التي تبحث أزمة الذّات، تروم تطوير أساليب جديدة من أجل حفظها أي حفظ الذّات، حفظا انطولوجيا، وحفظا نفسيا، وحفظها أيضا من العلوم النفسية المعطوبة، التي لم تمسس بعد الحياة الروحية للإنسان، بل لم تمسس حتى حواشيها الخارجية، ومازالت بعيدة عن ثراء الحياة الروحية للإنسان، لأنها ضحية النموذج المعرفي الاختزالي والتبسيطي، الذي يختزل النفس في الجسد، ويختزل الجسد في قوانين البيولوجيا، الطبيعية/ المادية.
إشكال الجوة في الحياة: تبحث الفلسفة المعاصرة قضية ذات أهمية معتبرة، وهي طبيعة الحاجات التي تحقق الجودة في الحياة وليس فقط رغد العيش، أي الحاجات المادية من قبيل الثروة والدخل، والحاجات المعنوية من قبيل السعادة وراحة البال، لقد مرت على البشرية أخطر الأزمات بما صار يعرف أزمة الاقتصاد العالمي، وتسبب في فتح ورشات كبيرة للتفكير في السبل التي تحفظ بها الإنسانية المال، وتجاوز هذا إلى البحث عن متطلبات ومطامح بشرية أخرى على رأسها إقامة العدل والمؤاخاة بين البشر، والسمو الروحي والأخلاقي، وسلامة الحياة والأملاك، لأن التجربة البشرية تشير إلى أن التوازن في الحياة الإنسانية وتحقيق جودة الحياة، متوقفة على التكامل بين الحاجات المادية والمعنوية، وبالتالي تحقيق جزء اساس من أجزاء العمران البشري.
إن دلالة هذه الإشكالات الحية في الفلسفة المعاصرة، أن الفكر يتجه نحو البحث عن التدبيرات السليمة التي يحفظ بها للإنسان الدّين، والعقل، والكرامة أو بتعبير تراثنا «حفظ النّسل والعرض»، وكذا حفظ النّفس وأخيرا المال في صورة الاقتصاد، وهذه النهايات للتفكير الإنساني بتمركزه حول هذه الإشكالات الكبرى، الدين والعقل والقيم والذات أو النّفس وجودة الحياة أو الاقتصاد، تجعل الدّلالة الحقيقية للفلسفة بما هي بحث في الغايات النهائية للإنسان، وبما هي المعاني الضّرورية التي تختل حياة الإنسان من دون تدبيرها تدبيرا سليما ومتوازنا، وقد جاء في الأديان وعلى رأسها دين الإسلام أن حفظ الدين والعقل والنّسل والعرض والنّفس والمال، باعتبارها مقاصد ضرورية أو مقاصد الحق للخلق جميعا، وليس لصورة دينية دون أخرى.