الجسد المشتهى
تتمركز موضوعة «الجسد» في نصوص الكاتب «بشير ونيسي» الأخيرة «ظل الطير» لتشكل تحطيما لأشكال المقاربات المعتادة لهذه التيمة من قبل كتاب آخرين في حدود معرفة الباحث وقراءاته. إنّ تأصل الوعي بالجسد وتمثلاته في هذه المدوّنة يندرج على نحو واضح ضمن سياق الانفتاح على التجربة الجسدية ومحاولة «تطبيع» هذا الموضوع والارتفاع به من درجة المسكوت عنه إلى مادة قابلة للمناقشة في الفضاءات الدلالية التي لا يمكن أن يخلو منها وعي الإنسان وبمن يدانيه. وبقدر ما يصرّح الناص بأنّ «العقل كون يسع كل شيء» فإنّ « الجسد كون يتشكّل باللذة والنار». إنه في قدرته على تمثل الذات العارفة يشكل كل وعيها، إنه «كل» كما أنّ العقل «كل» ولا يمكن للكلانية الأولى أن تلغي الكلانية الأخرى. لأنّ جدارة هذا العقل تنكشف عندما «يكشف طقس الجسد بالوجود» باعتبار هذا الجسد «كمدرك جمالي وقيمة فكرية وثقافية أبدعها الإنسان للإجابة عن أسئلة شتى ومناح عدة»
وهو في علاقته مع الجسد الآخر، يمثل تجربة أنطولوجية تتحدد بانفتاحها على أشكال الفناء والذوبان. شكل من أشكال التوحد في المقابل الذي يتوضح لنا أنه ليس مقابلا إلا بالشكل. إذ يصرح الناص بخفر «رأيت الجسد عشا» يأوي إليه وقد «غرق في الوجود»، بحيث يكون الحب طريقا لهذا الغرق، وهو الذي يوحد كما أنه هو الذي يبدّد. يقرب ويفرّق. فلا اقتران بلا حب، كما لا فراق إلاّ بانعدامه. الحب روح الجسد وهو الذي به «نكسر أجنحة الألم»، بمعنى من المعنى يكون الحديث عن الجسد بعيدا عن مادية ظاهرية، أو تشييئا باديا، وقريبا بالتصاقٍ بروح تسكن هذا الجسد وتقيم حياته.
إنّ الجسد في هذه التجربة، «ديجور» تترصده، تمنعه، تحوطه العقبات و»ألف سور وسور»، يمانع، يقف بالمرصاد، يخاتل، ولا مهرب من هذه العدمية التي تلاحقه إلاّ بـ»الحب»، الذي يصفه الناص بـ»كيمياء السعادة» متقاطعا مع أحد عنوانات الغزالي بحيث يكون سبب «الإشراق» أي الخروج من الظلمة إلى النور. أو الوصول إلى المنتهى الذي كان طوال الرحلة معذبا.
في فعل الحب، يرتفع الجسد إلى مقام المعجزة، فيكون مثل «قمر انشق»، فبان وظهر فقدر على أن «يحلّ مشكلة اتصال الوعي بعالمه» ما دام «الوعي ليس وجودا آخر منفصلا عن وجوده الجسماني» بقدر ما يكون الجسد في فعل الحب قادرا على خلق ماهيته وتبرير وجوده المادي في الطبيعة الحسية، فإنّ هذا الحب يرتفع به ليكون عصيا عن أن يؤطّر أو يخندق وهو ما يجعل القول بأن «جسدك لم يكن شيئا قبل النور» مسوّغا بدليل دامغ. إنه دليل المحبة التي يقصدها بوصف النورانية.
إنّ سؤال الجسد هنا، يتحدد بالضدية الماثلة بغير إفصاح، عندما يحب فإنه يوجد. ولا وجود يتأسس من غير جسد يحمله. إنّ العدم الذي يأكل كالنار كل موجود غير أصيل، يحمّس الكائن ليبحث عن أسباب نقض العدم ومفازات الرؤى المقاربة لعالمه. فيظهر من الناص أنّ العدم يمثل القيد، وعلى الجسد الذي يبحث عن الكمال ويشتهيه أن يبقى يعيش وهو «يصبو إلى الحرية» التي لا تمثل سوى الحب، وكما يرى موريس ميرلوبونتي فإنّ «العالم مصنوع من نفس جنس الجسد»، وهذا ما يستدعي محاولة الالتحام بهذا العالم لفهمه وإدراك كنهه، بقول آخر: لفهم نفسه، أليس مارسيل يقول «أنا جسدي»؟؟
تجربة الحب تجعل من الجسد قادرا على أن يؤسس لنفسه كماهية حقيقية أصيلة غير مزيفة بتعبير سارتر. بل، بتعبير بعض المتصوفة: حين يصبح التحديق في زرقة السماء سببا في تلاشي الجسد. يغيِّبُ مشهدُ الشوقِ، الحبِ، الرغبةِ في الوصل، المادةَ، لأنّها ليست هدفا في ذاتها. إنها حاملة المحبة. ومطفئة سعير الشوق. الجسد في لحظة الاتحاد، يعبّر بصيرورة الآخر في الأنا، وحلوله فيه. حيث «أنت أنا لا أنا»، وحيث التجلي في القلب يجعل الجسد ينغمس في ملكوته فيذوب فيه، إنّ الجسد يحبُّ فيرتقي ويحب فيتشظى ويصبح الأنا هو أنت وأنت عادم للأنا المتفردة بهذا الاحتواء. غمر الآخر الجسد بنوره من طريق القلب، فتجلى هو وغاب الأول.
تتعدّد نصوص «الجسد» وتتنوّع في كامل النص. إنّ الناص يوزّع شظايا جسده، في كامل جغرافيا العمل. وفي نص «سوبرمان» يتحوّل الخطاب ليكون زرادشتيا كما ابتغاه نيتشه، ويصبح جواب الفيلسوف عن سؤال المجنون الذي يبتغي التحوّل إلى إنسان أعلى يغزو السماء: «تشظَّ بجسدك وكن طفلا لا جملا، لا أسدا»، كن طفلا، يمارس هواية الاكتشاف في حديقة هذا العالم. وكن طفلا، لأنّ الطفل يلعب، ومن خلال لعبه «سيخلق قيما جديدة للعالم».
إنّ الروح، وهي فلسفة نيتشه يستعيدها الناص هنا، شبيهة بالجمل، لذلك فالنهي عن مصير الجمل، نهي عن تحمل «ثقل الأخلاق القديمة المتوارثة»، كما أنّ النهي عن الأسدية، محاولة لتجنيب الإنسان الصراع بينه وبين تلك الأخلاق. كن طفلا. واستعد للعودة الأبدية من خلال الجسد. فـ «بالجسد تعود».
بالحب يتعالى الجسد ويتنصّل من جحيم هذه العودة الأبدية وحيث الجسد «يتماهى بجسدها» فيعلن معترفا «قمر أنا أسبح، فتلوح، أسرح فتترنح، أشطح، فتصدح، أفتح باب الله فتمرح» ويكون مدوّيا الإعلان بأنّ «الموت دواء الحب» عندما ينفتح البقاء إلى ما بعد الموت عتبة لانهائية في جسد العودة الأبدية.
تختتم هذي النصوص معراجها نحو أفق بعلو السماوات، لتؤكّد «كلّ شيء بالجسد جنّة» ثم تراوغ، وتخاتل قارئها: «لا شيء يبقى بالجسد» لترفع نداءها الأخير له : «كن طيرا يحتضن السماء ويرى ما يتجلّى»
قرأت بشير ونيسي، فظهر لي عرّافا يحمل نبوءات العالم، أو ساحرا يخبئ في قبعته أحلاما وأمنيات، وتعاويذ للسعادة.
قرأت بشير، فتوهجت روحي. وهذا أكبر ما يمكن لكاتب أن يقدمه لقارئ.
ياسين سليماني