عندما تصادق الجزائر على «اتفاقيّة اليونسكو 2005 لحماية وتعزيز تنوّع أشكال التعبير الثقافي»، تفاصيل جزائريّة عديدة يفترض أن تتغيّر، ليس على مستوى المشهد الثقافي فقط وإنمّا في مختلف القطاعات الإستراتيجيّة والتي لها أثر مباشر في مشروع التنمية المستدامة، كالتربيّة والتعليم والسياحة والصناعة والصحّة والبيئة. ذلك أنّ هذه الاتفاقيّة التي تأخّرت -وتعثّرت- في الجزائر لعشريّة كاملة حتى تلتحق بركب الدول المصادقة عليها لأسباب قيل منذ أربعة سنوات أنّها بيروقراطيّة بحتة، تُلزِم الدولة المصادقة عليها بأن تنخرط في منحى جديد لتسيير القطاع الثقافي، يعترف أوّلا بأن الثقافة دعامة من دعامات التنمية المستدامة وليست مجرّد مطيّة لصرف أو هدر الأموال على قطاع كمالي لا يزدهر وينتعش إلاّ في أزمنة الرخاء الاقتصادي، قطاع طفيلي لا يثري ميزانيّة الدولة بقدر ما يستنزفها.
ثمّ إنّ من أهمّ مسلّمات انخراط الدول في هذه الاتفاقيّة قبولها بل وتقديرها لدور المجتمع المدني الإستراتيجي في سنّ السياسات الثقافيّة المناسبة لتعزيز تنوّع أشكال تعبيره الثقافي الشرط الذي لا يتوافر إلاّ في جوّ يمكّن هذا المجتمع من حريّة الانتظام وحريّة التعبير عن حاجاته الثقافيّة، أي أشكال التعبير التي تتوافق ومختلف الثقافات الفاعلة –السائدة منها والمسودة- في ذات المجتمع، مع حفظ مبدأ تمتّع الدول بحقّها السيادي في اعتماد التدابير والسياسات الكفيلة بحماية وتعزيز تنوّع أشكال التعبير الثقافي على أراضيها.
قد يكون أهمّ ما قد تثيره مصادقة الجزائر على هذه الاتفاقيّة على مستوى الرأي العام، التزام الجزائر -أو اعترافها على الأقل- دوليّا بالعمل ضمن كوكبة الأمم التي تؤمن بأنّ تعزيز التنوّع الثقافي والانفتاح نحو ثقافة الآخر هو الحلّ الأكثر عقلانيّة وبراغماتيّة لإشاعة مناخ السلام والتعاون الدوليين في جوّ يغلب عليه منذ أكثر من عقدين (سقوط جدار برلين سنة 1988) سطوة ثقافة الغالب التي تحتكر السوق لصالح سلعها الثقافيّة المنمطّة والتي لا تثري المشهد الثقافي العالمي إلاّ بمزيد من التغوّل «غير الثقافي» -في الواقع- لحضارة لا تؤمن بالحوار بقدر ما تعمل –ثقافيّا واقتصاديّا وسياسيّا وعسكريّا- على فرض الرأي الواحد القائل بفكرة تصادم الحضارات وأفول فرص السلام.
هذه الاتفاقية في الواقع قرّرت أن تقف في وجه هذا الواقع الصعب والطاغي تحت غطاء منظمة اليونسكو وبالتحالف مع المجتمعات المدنيّة لإقناع الدول بالتكاثف لإنقاذ ثقافاتها المهمّشة والتي لا فرص حقيقيّة لها للظهور -أو على الأقل- البقاء إذا لم تتخذ لأجل ذلك التدابير والسياسات الكفيلة بمنح فرص عادلة -بل وتفاضليّة- للثقافات الضعيفة قصد صون حقها في الوجود والتنافس محليّا وعالميا، ولن يحدث ذلك بأي حال إلاّ بتحالف عالمي جدّي ضدّ الاحتكار الثقافي.
جزائريّا لم يكن التأخّر في اللحاق بركب هذه الحساسيّة الغيورة على مستقبلها الثقافي مبرّرا، خاصّة وأنها، أي «الجزائر» تنتمي للدول المسمّاة بـــ»النامية» والتي لا تتمتع ثقافاتها الوطنيّة بالرواج اللازم باستثناء نجاحات فرديّة متفرّقة لا تؤشّر على الوضع الثقافي العام، وقد احتلت الجزائر رقم 135 في سلّم الدول المصادقة على «اتفاقيّة اليونسكو 2005 لحماية وتعزيز تنوّع أشكال التعبير الثقافي».
ففي الوقت الذي انخرطت فيه الكثير من الدول في هذا المشروع جديًّا ما تزال الجزائر مرتبكة إزاء ملفّات ثقافيّة جدّ ثقيلة وحسّاسة وإستراتيجيّة على رأسها دور المجتمع المدني، قانون الجمعيّات الثقافيّة، تبني سياسة ثقافيّة وطنيّة شفافّة، تحرير القطاع الثقافي من القبضة الأيديولوجيّة ومن سيطرة المؤسسة الرسميّة، ضرورة إدماج الثقافة في مشاريع التنمية.
إنّ حلّ هذه الإشكالات العالقة وإعادة بعث النقاش الجدّي الوطني حول دور الثقافة في تقرير مصير البلد هو في الواقع الضامن الحقيقي لجديّة الدولة الجزائريّة حيال مصادقتها على هذه الاتفاقية التي ستكون نافذة بداية من 26 ماي 2015، أي بمرور ثلاثة أشهر على تاريخ المصادقة عليها، فهنيئا للجزائر بالتزامٍ دوليٍّ آخر يجعلها مدعوّة لمراجعة كل سياساتها مراجعة ديمقراطيّة وهو ما يقتضيه الشروع في بناء غد يمنح أبناءها حق وفرصة التنافس على الوجود عالميّا.