ثروة هائلة في مواجهة التغيرات المناخية و نقص أحواض التخزين
تواجه ولاية قالمة تحديات مستقبلية كبيرة بقطاع المياه، المحرك الرئيسي للحياة الاقتصادية و الاجتماعية و تعد التغيرات المناخية التي تعرفها الجزائر في السنوات الأخيرة، على غرار منطقة حوض المتوسط، من أبرز العوامل المؤثرة على مصادر المياه السطحية و الجوفية بالمنطقة و بدأت هذه الآثار تظهر بوضوح منذ 3 سنوات تقريبا عندما غارت
مياه الآبار العميقة و كاد أكبر سد بالمنطقة، أن يصاب بالجفاف و يتحول إلى حوض من الطين المتصدع.
و سنحاول من خلال هذا التحقيق، تسليط الضوء على طبيعة الولاية و قدراتها في مجال التخزين و مدى استعدادها لمواجهة التغيرات المناخية التي بدأت آثارها تظهر بوضوح منذ عدة سنوات بسهل الجنوب الكبير، أين بدأت مؤشرات التصحر تزحف على السهل الخصيب و تلحق أضرارا بالغة بقطاع الزراعة التي تعد المصدر الرئيسي لمعيشة السكان ، إلى جانب تربية الأغنام من سلالة تاملوكة الشهيرة.
و تثير أزمة المياه بقالمة قلق السكان و وزارة الموارد المائية التي تولي أهمية كبيرة لقالمة، و تحاول إيجاد الحلول الممكنة لمواجهة المستقبل المخيف و حماية الاقتصاد المحلي الذي يعتمد كله على الطاقة المائية تقريبا و خاصة في مجال الزراعة و الصناعات التحويلية التي تحتاج كميات هائلة من المياه على مدار السنة.
مناخ شبه جاف بالجنوب وحوض هيدروغرافي كبير
تتربع ولاية قالمة، على مساحة تقارب 4 آلاف كلم2 و تتميز بمناخ شبه رطب في الوسط و الشمال و شبه جاف بالجنوب الكبير و تساقط غير منتظم يتراوح بين 300 إلى 400 ملم في السنة بالجنوب و بين 500 و 600 ملم في الشمال، لكن هذا المعدل بدأ يتغير في السنوات الأخيرة بسبب الجفاف و لا يكاد يصل إلى 400 ملم في السنة بالأقاليم الشمالية و الشرقية الممطرة، في حين أصبحت الأمطار شحيحة بالجنوب، أين يتواجد سهل القمح الشهير.
وتنقسم الولاية إلى حوضين هيدروغرافيين، سيبوس المتربع على مساحة تتجاوز 6 آلاف كلم2 و يشمل كلا من بلديات دوائر وادي الزناتي، عين مخلوف، عين أحساينية، قالمة، لخزارة، حمام النبائل، بوشقوف، و جزء من بلديات دوائر هليوبوليس، حمام دباغ و قلع بوصبع و يعد هذا أكبر حوض هيدروغرافي بالمنطقة و يتراوح معدل التساقط فيه، بين 300 و 600 ملم في السنة، لكن هذه الكمية الهائلة من مياه الأمطار، ينقلها نهر سيبوس الكبير إلى البحر دون أن تجد في طريقها سدا يخزنها، باستثناء سد بوحمدان و حاجز مجاز بقر بعين مخلوف و حواجز أخرى صغيرة ببعض البلديات.
أما الحوض الهيدروغرافي الثاني الأقل مساحة، فهو يقع بالشمال القسنطيني و الجزء القريب من الساحل و يغطي بلديتي الركنية و بوعاتي محمود تغطية كاملة و جزء من بلديات نشماية، بوحمدان، مجاز عمار، الفجوج و هليوبوليس و يصل معدل التساقط بهذا الحوض بين 600 و 700 ملم في السنة، لكن لا توجد به سدود كبرى، باستثناء حواجز مائية صغيرة. و تعد ولاية سكيكدة المجاورة، الأكثر استفادة من هذا الحوض الممطر، حيث أقامت به 4 سدود كبرى، بينها سد زيت العنبة على الحدود مع ولاية قالمة.
مشاريع معطلة و أحواض تخزين تجاوزها الزمن
قبل 30 عاما، لم تكن قالمة تعرف من الزراعة إلا القمح و البقول الجافة و الأعلاف و بعد بناء سد الكبير سنة 1986 بدأت النهضة الزراعية الجديدة و تحولت قالمة إلى قطب وطني ينتج مختلف أنواع الخضر كالطماطم الصناعية و البطاطا و الفواكه و الحوامض، على امتداد محيط السقي الشهير قالمة بوشقوف المتربع على مساحة تقارب 10 آلاف هكتار تعد من أجود الأراضي المسقية بشرق البلاد.
و بعد سد بوحمدان، واصلت مشاريع تخزين المياه نموها ببناء سدين صغيرين بكل من عين مخلوف و نشماية و حواجز صغيرة بعدة بلديات و بدت ولاية قالمة متشبعة بمياه السقي، قبل أن تطالها أزمة الجفاف التي أحدثت هزة عنيفة بقطاع الزراعة و الاقتصاد المحلي و أفاق السكان على واقع آخر عندما جفت مياه السد الكبير و تراجع منسوب الآبار العميقة على مدى الأربع سنوات الأخيرة و كاد الوضع أن يتسبب في أزمة عطش بالأحواض السكانية الكبرى، لولا أمطار ربيع و خريف 2018.
و بالرغم من المساحة الهيدروغرافية الواسعة، فإن بناء السدود بقالمة لم يرق بعد إلى مستوى تطلعات السكان و خاصة بالإقليم الشرقي الممتد من حمام النبائل إلى بوشقوف، حيث لا يوجد أي سد هناك، رغم توفر المنطقة على طبيعة جغرافية تسمح ببناء سد كبير على وادي غانم، ينهي أزمة العطش و السقي بنحو 9 بلديات بدوائر، لخزارة، حمام النبائل و بوشقوف.
و تبلغ طاقة تخزين المياه السطحية بقالمة، نحو 188 مليون متر مكعب بسد كبير هو سد بوحمدان و سدين صغيرين قفطة بنشماية و مجاز بقر بعين مخلوف، و 15 حاجزا مائيا. و حسب المهتمين بشؤون المياه و الزراعة بقالمة، فإن أحواض التخزين الحالية، قد تجاوزها الزمن و لم تعد قادرة على تلبية الحاجيات المتزايدة من مياه الشرب و السقي، بعد ارتفاع تعداد السكان و موجات الجفاف و انعدام التوازن بين الأقاليم في مجال منشآت التخزين، إلى جانب عوامل أخرى بينها توسع النشاط الزراعي و ظهور أقطاب للصناعات الغذائية المستهلكة للمياه.
و كانت الآمال معلقة على مشروع سد كدية حريشة على وادي الشارف، حيث كان من المقرر بناء سد جديد بطاقة 100 مليون متر مكعب من المياه، و بعد عدة محاولات فاشلة، لم يجد المهندسون الموقع الملائم لبناء حاجز السد، حيث بينت الدراسات الجيوتقنية، بأن المنطقة تتميز بطبقات جيرية نفاذة للمياه و لا يمكن المغامرة فيها.
و قد بينت نتائج تحاليل الطبقات الأرضية، بأنه يمكن بناء الحاجز بموقع بديل، لكن قدرة السد ستتقلص إلى النصف و بالتالي فإن الجدوى الاقتصادية لن تتحقق من المشروع، حيث قررت وزارة الموارد المائية إلغاء المشروع نهائيا و استبداله بنظام لتحويل مياه وادي الشارف إلى سد بوحمدان المجاور و لحد الآن مازال مشروع التحويل لم ينطلق بعد، في وقت يعاني فيه السد الكبير من أزمة جفاف قد تتفاقم أكثر إذا لم يكن شتاء 2019 ممطرا بما يكفي.
و قالت مصادر من لجنة الري و الفلاحة بالمجلس الشعبي الولائي، بأن المشروع مقترح لمرحلة الدراسة فقط سنة 2019 و لا يعرف متى تنطلق أشغال بناء حوض التجميع و محطة الضخ و قناة الجر باتجاه سد بوحمدان.
و حسب نفس المصادر، فإن مديرية الموارد المائية بقالمة، قد تقدمت بمقترحات أخرى لدراسة 6 حواجز مائية عبر الولاية و دراسة إمكانية إنشاء محيط سقي جديد يغطي 3 آلاف هكتار بعين تراب، تاملوكة و عين مخلوف ويتغذى من سد الشارف الواقع على الحدود بين ولايات قالمة، سوق أهراس وأم البواقي.
مطالب باقتسام مياه سد زيت العنبة و إنشاء محيطات سقي
بالرغم من أن المصب المغذي لسد زيت العنبة الواقع ببلدية بكوش لخضر بسكيكدة يتواجد بولاية قالمة، إلا أن الولاية لا تستفيد من هذا السد الذي تبلغ طاقته نحو 100 مليون متر مكعب من المياه.
و قد ارتفعت مطالب سكان بلديتي الركنية و بوعاتي محمود المجاورتين للسد باقتسام المياه، و تخصيص كمية من المخزون لسقي الأراضي الزراعية التي تعاني من الجفاف على مدار السنة تقريبا.
و قد تحولت مياه سد زيت العنبة إلى مطلب رئيسي للفلاحين بالبلديتين المذكورتين و يصر منتجو القمح و الخضر و الفواكه، على ما وصفوه بحقهم في مياه السد للمحافظة على نشاطهم و مستقبلهم الذي أصبح مهددا بموجات الجفاف المتعاقبة على المنطقة.
و قد تحدث مسؤولون محليون، عن إمكانية إنشاء محيطات سقي كبيرة بالركنية و بوعاتي محمود، لكن مشكل المياه بقي مطروحا، لأن السقي من حوض التجميع يحتاج إلى موافقة الوكالة الوطنية للسدود و ربما وزارة الموارد المائية.
و أمام هذا الوضع، بقيت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة بالركنية و بوعاتي محمود، تنتظر قرارا شجاعا لجلب مياه سد زيت العنبة و إنشاء قطب زراعي جديد يضاهي القطب المتواجد بسهل سيبوس وسط قالمة.
قطاع الزراعة الأكثر تضررا من الجفاف
يعد قطاع الزراعة بقالمة، الأكثر تضررا من موجات الجفاف التي تعرفها المنطقة الجنوبية و الغربية، أين يقع مصب سد بوحمدان الخزان الرئيسي بالولاية و قد توقف محيط السقي قالمة - بوشقوف عن النشاط ،الصيف الماضي، بعد تراجع مخزون السد إلى أدنى المستويات و كادت محاصيل الطماطم الصناعية و البطاطا أن تصاب بالتلف، عندما ارتفعت درجات الحرارة و تشققت طبقات التربة السطحية.
و تحول ديوان السقي بمدينة بومهرة احمد في السنوات الأخيرة، إلى مسرح لاحتجاجات المزارعين المطالبين بمياه السقي، لإنقاذ محاصيلهم الزراعية و خاصة الطماطم الصناعية التي تزرع على نطاق واسع بقالمة.
و في كل مرة، يستنجد قطاع الزراعة بقالمة بكميات من مياه سد الشارف الواقع على الحدود مع ولايتي سوق أهراس و أم البواقي، لكن هذه الكميات لا تكفي لتغطية موسم السقي الذي يستهلك أكثر من 35 مليون متر مكعب من المياه كل صيف.
و يرى المهتمون بقطاع الزراعة والمياه بقالمة، بأنه بات من الضروري بناء سدود جديدة بالإقليم الشرقي الممطر و الإسراع بإنجاز مشروع تحويل مياه وادي الشارف إلى سد بوحمدان لتعبئته و توفير 70 مليون متر مكعب من المياه، على الأقل كل موسم زراعي جديد لتغطية حاجيات السقي و الشرب، في ظل التغيرات المناخية المقلقة التي تمر بها ولاية قالمة في السنوات الأخيرة.
فريد.غ