في حقل للقمح غربي بلدية الركنية بقالمة، تحتشد الحاصدات والشاحناتو الجرارات على نطاق واسع استعدادا لبداية موسم الحصاد وسط توقعات بإنتاج يعوض خسائر الموسم الماضي الذي يعد أحد أسوأ المواسم الزراعية بالمنطقة، حيث أتى الجفاف وبعده فيضانات الصيف على مساحات واسعة من القمح.
وما زالت آثار هذا التطرف المناخي بادية على وجوه المزارعين وهم يستقبلون الحصاد الجديد، فيما تنقلت إليهم السلطات الولائية لتقديم الدعم المعنوي واللوجيستيكي ومساعدتهم على النهوض من جديد، والتعافي من جراح الموسم الماضي والتوجه نحو مستقبل يعتمد على العلم والتخطيط الجيد لمواجهة التطرف المناخي، التهديد الأكبر لقطاع الزراعات المطرية السائدة بمنطقة الركنية، موطن الأرض الخصبة والقمح الذي صنع أمجاد البلدة الريفية المتخفية بين الغابات والسلاسل الجبلية التي زادت المنطقة تنوعا بيئيا متفردا شجع السكان القدامى على الاستقرار هناك وممارسة الأنشطة الزراعية والرعوية على مر الزمن.
النصر تابعت البداية الأولى لموسم الحصاد بالركنية وتحدثت إلى كبار المزارعين بالمنطقة واستمعت إلى تطلعاتهم المستقبلية، والعقبات التي تواجههم بحقول القمح ومنتجات غذائية أخرى لا تقل أهمية وصارت اليوم موجودة على نطاق واسع بالسهل الخصيب الذي صادره المعمرون وأقاموا فيه مزارع الخماسة، سنوات طويلة قبل أن تطردهم الثورة المقدسة وتعيد الأرض إلى أهلها من جديد.
أكبر حشد للعتاد الزراعي في تاريخ الولاية
على خلاف المواسم الماضية لم تكن بداية الحصاد بقالمة عادية هذه السنة، حيث قررت السلطات الولائية تنظيم أكبر حشد للعتاد الزراعي بالمنطقة، وتحويل هذا اليوم إلى عرس حقيقي تقدس فيه الأرض ويعلو فيه شأن من يخدمها بصدق حتى تؤتي أكلها بإذن ربها، وبالعمل الجاد والحِرفية التي ظلت تتنقل من جيل إلى جيل بواحدة من أهم الأقاليم المنتجة لأجود أنواع القمح بشرق البلاد بعد سهل الجنوب الكبير، الذي لم يعد يقدر على مقاومة الجفاف الطويل، وبدأت آثار التصحر تطاله بعنف من سهل تاملوكة الشهير إلى عين مخلوف، برج صباط، وادي الزناتي وعين رقادة.
عشرات الشاحنات العملاقة والجرارات المجهزة بالعربات ومعدات إطفاء الحرائق، وما لا يقل عن 14 حاصدة، تجمعت كلها بمزرعة مشطر منذ ساعات الصباح الأولى، قادمة من مزارع الركنية وتعاونية الحبوب والبقول الجافة، للمشاركة الرمزية في هذا الحدث الزراعي الاقتصادي، وإعطاء دعم معنوي للمزارعين عبر مختلف مناطق الولاية بأن كل إمكانات الدولة في خدمتهم ومساعدتهم عندما يمرون بالأوقات الصعبة.
منذ ساعات الصباح الأولى كانت الحركة غير عادية على الطريق الولائي 122 المؤدي إلى الركنية، شاحنات وحاصدات و جرارات تتجه نحو المزرعة التي تم اختيارها للإعلان عن بداية موسم الحصاد الجديد الذي تعلق عليه آمال كبيرة لتعويض خسائر الموسم الماضي، حيث يتوقع المهندسون الزراعيون تحقيق إنتاج جيد قد يبلغ مليوني قنطار من مختلف أنواع الحبوب.
ويمكن للعتاد الضخم الذي تم حشده في هذا اليوم أن ينهي في غضون أيام قليلة، حملة الحصاد ببلدية الركنية التي تتربع على مساحة تقارب 5 آلاف هكتار من الأراضي الزراعية المستغلة في إنتاج القمح وغيره من المحاصيل الغذائية الاستراتيجية، لكن أغلب العتاد المشارك في الانطلاقة الرمزية لحملة الحصاد بولاية قالمة سيعود إلى قواعده، لإنجاز المهمة المسندة إليه هناك، لتبقى إمكانات بلدية الركنية وحدها بحقول القمح لأداء المهمة بكفاءة كما كل المواسم، حيث اكتسب منتجو القمح بالمنطقة خبرة كبيرة في تسيير موسم الحصاد معتمدين على عتاد هام من حاصدات وشاحنات و جرارات لحصد حقول القمح والشعير والبقول الجافة في غضون أيام قليلة، فلا مجال للتهاون وإهدار الوقت لأن الحقول تبقى معرضة لمخاطر مستمرة كالحرائق والأمطار الموسمية، وقطعان الخنازير التي تسكن غابات كثيفة تطوق الركنية من كل الجهات.
وقال مزارعون من بلدية الركنية للنصر بأن هذا اليوم يعد عيدا حقيقيا بالمنطقة، معتبرين كل هذا الحشد بمثابة دعم معنوي كبير سيشجع منتجي القمح بالمنطقة ويحفزهم على بذل المزيد من الجهد لتطوير زراعة القمح بالمنطقة.
مخزن جديد للقمح بقدرة 60 ألف قنطار
منذ سنوات طويلة يعاني منتجو القمح ببلدية الركنية من مشكل ضعف قدرات التخزين حيث لم تعد المستودعات القديمة التي حاصرها العمران من كل الجهات، قادرة على استيعاب الإنتاج الوفير، وظلت الطوابير الطويلة تثير المتاعب كل صيف، قبل انطلاق مشروع لبناء مخزن بحي قايدي يتسع لنحو 60 ألف قنطار، مجهز بجسر للوزن دخل مرحلة الخدمة الموسم الماضي وهو اليوم يفتح أبوابه مبكرا لاستقبال أولى شحنات القمح.
عندما دخلنا المستودع الجديد كانت الجرارات تنتظر دورها لتفريغ الحمولة القادمة من حقول القمح التي دخلتها الحاصدات منذ يومين، وكان العمال يسابقون الزمن لبناء جدار من أكياس القمح داخل المستودع حتى لا تتعرض الجدران للانهيار تحت تأثير الثقل والضغط عندما يبلغ الإنتاج ذروته، بأكياس يزن الواحد منها 10 قناطير، يجب أن توضع فوق بعضها البعض حتى تبلغ العلو المطلوب ويتشكل حوض قادر على استقبال المزيد من القمح دون أن يتأثر هيكل المستودع.
وبالرغم من صعوبة المهمة واستهلاك المزيد من الوقت، فإن عمال المستودع عازمون على رفع التحدي وتقليص مدة الانتظار، لتحرير الجرارات والشاحنات وتمكينها من العودة إلى الحقول لنقل المزيد من القمح حتى لا تتعطل الحاصدات. والمخزن الجديد وهو مستودع من الهياكل المعدنية، معرض للتشبع عندما تبلغ حملة الحصاد ذروتها بعد أيام قليلة، ويأمل المزارعون في تفعيل نظام التحويل إلى مواقع أخرى حتى لا تتشكل طوابير الانتظار الطويلة، وتتوقف الحاصدات عن العمل.
ويرى منتجو القمح بأن بلدية الركنية في حاجة إلى صوامع عملاقة تستوعب إنتاجها الوفير، وتضع حدا نهائيا لأزمة التخزين التي يعاني منها كبار المزارعين بالمنطقة.
نوعية البذور و المياه.. التحدي الأكبر
يقول صوادقية صالح الذي وجدناه في حقل للحمص بمحاذاة الطريق المؤدي إلى مشاتي المعاطلة والقرار وعيون القصب، بأن قطاع الزراعة ببلدية الركنية في حاجة إلى مزيد من الجهد حتى يتطور ويتجاوز العقبات التي تحد من الإنتاج وتضعف المردود، مضيفا بأن الجفاف وانعدام مياه السقي صار هاجسا كبيرا لمزارعي المنطقة، مؤكدا بأن حقول القمح والحمص والطماطم الصناعية والأشجار المثمرة تعاني من الجفاف، ولولا سقوط الأمطار الموسمية هذا الشتاء لتكررت متاعب الموسم الماضي.
صالح صوادقية أحد مزارعي منطقة الركنية
يعمل صالح صوادقية على مساحات هامة من الحمص والقمح وحقول الأشجار المثمرة التي تسقى بالصهاريج حتى لا تتعرض للجفاف، موجها نداء لمديرية الموارد المائية كي ترخص له ولبقية المزارعين بالتنقيب عن المياه الجوفية. وحسب الشريف مشطر، أحد كبار منتجي القمح بالركنية، فإنه وبالإضافة إلى ندرة مياه السقي بالمنطقة هناك مشكلة أخرى تحد من تطور قطاع الزراعة بالركنية، وهي نوعية بذور القمح التي يحصل عليها المزارعون من المخازن، مضيفا بأن ليس كل ما يطلبه المنتجون يحصلون عليه، فالخيارات محدودة، وهناك أصناف غير ملائمة لتربة ومناخ المنطقة، وذات مردود ضعيف لكنها تباع للمنتجين لأنه لا توجد بدائل أخرى متاحة.
ويعتقد المزارعون ببلدية الركنية بأن توفير مياه السقي سيحوّل المنطقة إلى قطب زراعي ينتج القمح والبقول والخضر والفواكه، متوقعين مردودا من القمح يتراوح بين 20 و 30 قنطارا في الهكتار الواحد.
الشباب مستقبل الزراعة ببلدية الركنية
يكاد جيل المزارعين القدامى أن يختفي ببلدية الركنية، ليحل محله جيل الشباب المسلح بالإرادة والعلم، هؤلاء التواقون إلى المستقبل هم من يقودون اليوم الحاصدات والجرارات، ويسهرون على المسارات التقنية، ويكتسبون المزيد من التجارب على أرض الواقع، فلا زراعة اليوم بلا معرفة علمية تختصر الجهد والوقت وتحقق المكاسب.
ويأمل هؤلاء الشباب الذين يقودون معركة الأمن الغذائي في دعم منطقة الركنية بالمزيد من المشاريع الداعمة للحياة الاقتصادية والاجتماعية بالمنطقة، وفي مقدمتها مشروع لفك العزلة بتوسيع الطريق الولائي 122 للقضاء على المنعرجات والمسار الضيق، وتعبيد الطرقات المؤدية إلى الأقاليم الزراعية المعزولة، وتوفير مياه السقي بحفر الآبار العميقة وبناء الحواجز وجر المياه من سد زيت العنبة المجاور.
وفي هذا اليوم الذي يمثل حدثا مهما بالمنطقة، رأينا هؤلاء الشباب في مقدمة المشهد الزراعي، منهم سائق الجرار وقائد الحاصدة، والمهندس والتقني، إنهم مستقبل قطاع الزراعة بالركنية التي تعاقبت عليها حضارات كثيرة، وأقام فيها المعمرون مزارع للخماسة العبيد قبل أن تجبرهم الثورة المقدسة على الرحيل بعد أن أعلنوا الركنية قرية للبيع. فريد.غ