خـط غـرينـيتـش.. مـن هنــا يـبـدأ الـزمـن
بوقوفك عنده تكون قد وضعت رجلا في شرق الكرة الأرضية و أخرى في غربها، و كأنك تجاوزت لحظتها حدود الزمان و المكان.. هو خط غرينيتش بالمملكة المتحدة الذي يعد المرجع الأول للتوقيت العالمي و نقطة الصفر التي تدق منها عقارب الساعات عبر المعمورة، النصر زارت هذا المعلم التاريخي الواقع في بلدة غرينيتش بضواحي العاصمة لندن، و عاشت مع أعضاء جمعية الشعرى لعلم الفلك، تجربة علمية فريدة تنقلها في هذا الروبورتاج.
لندن: ياسمين بوالجدري
«بتوقيت غرينيتش».. عبارة نسمعها كثيرا في وسائل الإعلام و غالبا ما نقرأها عند الاطلاع على مواعيد البث أو إقلاع الطائرات أو انطلاق القطارات من المحطات عبر بلدان العالم التي تضبط عقارب ساعاتها عليه، و المقصود من هذه العبارة هو “غرينيتش مين تايم» أو «التوقيت المتوسط لغرينيتش» المعروف اختصارا باللغة الانجليزية بـ “جي.آم.تي»، و هو مقياس زمني يعتمد على خط الطول الذي يمر على بلدة غرينيتش ببريطانيا و الذي صار نقطة مرجعية للتوقيت و المقياس الزمني الذي ينطلق من نقطة الصفر.. و قد أجرت النصر رحلة استكشافية إلى مرصد غرينيتش الذي يُعدّ واحدا من أهم المعالم التاريخية و العلمية في العالم، و ذلك برفقة أعضاء جمعية الشعرى لعلم الفلك و تلاميذ متميزين نجحوا في مسابقة «سيرتا علوم»، و كذا أعضاء الشبكة الجزائرية للأكاديميين و العلماء و الباحثين، التي شاركت في تنسيق محطات الرحلة.
للوصول إلى المرصد كان علينا المرور على حديقة غرينيتش الواقعة بالضاحية الجنوبية الشرقية للندن على امتداد 70 هكتارا، و هي واحدة من أشهر الحدائق الملكية الثماني الواقعة بعاصمة المملكة المتحدة و المصنفة كتراث عالمي من طرف منظمة اليونسكو.. هنا يمكن للزائر أخذ قسط من الراحة فوق عشب يمتد على مساحات شاسعة تسحر من يراها من شدة اخضرارها، حيث كان المئات من السياح يجلسون تحت ظلال الأشجار الكثيرة، و استغل العديد من اللندنيين عطلة نهاية الأسبوع من أجل اصطحاب أطفالهم للهو بالمكان، فيما فضل آخرون الاستلقاء تحت أشعة الشمس أو تناول المأكولات دون أن يتركوا خلفهم أية قاذورات، لأن غالبيتهم كانوا يرمونها في حاويات صغيرة مخصصة لذلك.
سر قبّة «البصلة» و السماء الليلة
الحديقة تطل على المتحف البحري الوطني، الذي يُعتبر الأضخم من نوعه في العالم، حيث يغوص بأجنحته المتنوعة، في تاريخ الأسطول البريطاني و مغامرات و بطولات قباطنته و كذا خساراتهم، كما يمكن انطلاقا من حديقة غرينيتش التمتع بإطلالة مميزة امتزجت فيها المعاصرة مُمثّلة في ناطحات السحاب المنجزة على ضفتي نهر التايمز، بالأصالة التي تظهر من خلال منزل الملكة أو “كوينز هاوس»، و هو القصر الذي يقال أن الملكة إليزابيث الأولى ولدت به، حيث أنجز في القرن السابع عشر و يُعّد، استنادا للمؤرخين، أول القصور الكلاسيكية المُشيّدة بإنجلترا و التي تتميز بتصميماتها المعمارية ذات الطابع الإغريقي و اليوناني.
بعد حوالي ربع ساعة من المشي عبر مسلك ضيّق و وسط حشود من الزوار الذين قدموا من مختلف أنحاء العالم، وصلنا إلى مرصد غرينيتش الذي كانت معالمه قد بدأت تتبيّن لنا من بعيد بلونه القرمزي الفاتح و قببه الصغيرة، التي كان أكبرها قبة «البصلة»، مثلما يصفها الفلكيون، نظرا لشكلها الذي يشبه حبة البصل.. القبة تعرضت لغارتين أثناء الحرب العالمية الثانية، ما تطلب إعادة إنجازها سنة 1971 وفق تصميم يسمح بفتحها إلى نصفين، لكي يستطيع الباحثون مراقبة النجوم عبر عدسات «التيليسكوب الاستوائي العظيم” المثبت أسفلها، و الذي يعد أكبر مقراب انكساري بالمملكة المتحدة و سابع أكبر جهاز تيليسكوب في العالم، حيث أنجز في أواخر القرن التاسع عشر من طرف الفلكي الملكي “ويليام كريستي”، و يستخدم اليوم في مراقبة النجوم و السماء الليلية. عند دخول القبة يمكن مشاهدة جهاز التيليسكوب الذي يزيد طوله عن 8 أمتار و يقول المشرفون عليه أن عدسته، التي تطلب إنجازها 8 سنوات، تستطيع تتبع مسار النجوم من الشرق إلى الغرب و اكتشاف أسرار الكون، و الكواكب و الأجرام التي تسبح فيه، و هو ما ساعد الباحثين في التوصل إلى العديد من الاكتشافات العلمية طيلة العقود الماضية، و قد كان من بينها التمكن قبل 3 سنوات، من رصد بخار في المجال الجوي لأحد الكواكب، ما قد يكون مؤشرا على حدوث تفاعلات كيميائية قامت بها كائنات حيوية.
نقطة الصفر بين الشرق و الغرب
في بهو المرصد الذي أنجز في القرن السابع عشر بأمر من الملك تشالز الثاني، تستقبلك ساعة غرينيتش الأصلية المثبتة في جدار حجري، بشكلها الدائري متوسط الحجم و عقاربها التي تدور وفق التوقيت العالمي المضبوط، و غير بعيد عنها هناك مرشدون مهمتهم تقديم جهاز الكتروني صغير مرتبط بسماعات، يسمح للزائر بالاستماع إلى شروحات علمية و تاريخية تقدم بعدة لغات حول جميع زوايا المرفق. و يُعد مقطع خط غرينيتش المعلم الأهم بالمرصد الذي يستقطب سنويا أزيد من 750 ألف زائر من السياح و محبي علوم الفلك و الاستكشاف، و يتمثل المقطع في شريط ذهبي اللون بطول حوالي 7 أمتار، دُوّنت بجانبيه أسماء بعض مناطق العالم التي يمر عليها خط غرينيتش الذي يقسم الأرض طولياً إلى نصفين, و هو ما يفسر الاختلاف في التوقيت بين البلدان الواقعة في شرقه و تلك الواقعة غربه.. و قد انتهز العشرات من السياح هذه الفرصة النادرة التي لا يمكن أن تتاح بسهولة في مكان آخر من العالم، لالتقاط صور مميزة لأنفسهم في منتصف الكرة الأرضية، حيث اضطر الكثير منهم لانتظار دوره للقيام بذلك، نظرا للعدد الكبير من الزائرين الذين جاء العديد منهم خصيصا للمرصد، لكي يشاهدوا خط غرينيتش عن قرب.
و قد استعمل خط غرينيتش في البداية من طرف البحارة البريطانيين، لحساب امتداد الطول الجغرافي الذي يفصلهم عنه، قبل أن يصبح توقيتا رسميا عبر كامل بريطانيا سنة 1880 ثم مقياسا عالميا لحساب الوقت، و بالجزائر يمر الخط على ولايات مستغانم و معسكر و سيدي بلعباس و عبر صحراء منطقتي رقان و برج باجي مختار بولاية أدرار بأقصى الجنوب الغربي للجزائر.
ساعات أينما وليّت وجهك!
و لا يمكن تفويت فرصة زيارة مرصد غرينيتش دون دخول إقامة الفلكيين الملكيين ببريطانيا العظمى، و الذين كان أولهم «جون فلامستيد» الذي اشتهر بوضعه فهرسا مصورا للنجوم، كان أكثر دقة و شمولا مما أنجزه الفلكيون في ذلك الوقت.. الإقامة حُوّلت إلى متحف صغير يضم صور أشهر الفلكيين الذين كان لهم بصمة في علوم الفلك ببريطانيا العظمى و العالم، و لأنك بمرصد غرينيتش منشأ التوقيت العالمي، فمن المنطقي أن تجد الساعات أينما وليت وجهك، بحيث تضم أجنحته عشرات الساعات التقليدية التي تم صناعتها في القرون الماضية، و من بينها نماذج قديمة و عريقة بمختلف الأحجام للساعات الميكانيكية و الأوتوماتيكية بل و حتى الشمسية.
المتحف يتضمّن أيضا أجهزة تيليسكوب استعملها باحثو المرصد خلال القرون الماضية، مدعومة بلوحات توضح تاريخ إنجازها و الأغراض العلمية التي استعملت لأجلها، فيما تشرح رسومات و كتب قديمة ألّفها فلكيون، الطرق التي اعتمدت على مر التاريخ في تطوير ضبط التوقيت الزمني، و يمكن بمرصد غرينيتش خوض تجارب فلكية حية بتجريب أجهزة التيليسكوب و مشاهدة عرض مميز بقلب القبة السماوية بـ “بلاريتانيوم لندن”، كما يحتضن المرصد طيلة السنة، فعاليات علمية يخصص جلها خلال العطل للأطفال و كذا لتلاميذ المدارس بلندن و المدن الأخرى.
و يقع المرصد ضمن مجموعة المتاحف الملكية غرينتش، التي يزورها سنويا حوالي 2.5 مليون سائح قرابة نصفهم من خارج بريطانيا العظمى، حيث تضم إضافة إلى مرصد غرينيتش، «قصر الملكة» و المتحف البحري الوطني و كذا السفينة التاريخية «كاتي سارك» التي ترسو وسط البلدة، و هي سفينة أسطورية بطول حوالي 64 مترا، صنفتها منظمة اليونسكو كإرث وطني و يقول المؤخرون أنها كانت الأسرع في العالم عند إنجازها في القرن التاسع عشر، حيث كانت تستعمل في نقل الشاي من الصين إلى بريطانيا عبر البحار، و تفتح السفينة الضخمة للجمهور في أوقات معينة من السنة، لتحتضن فعاليات ترفيهية و علمية يخصص الكثير منها للأطفال.