تفاصيــل مجهولـة حول استشهاد مريم بوعتورة وحملاوي بوسط مدينة قسنطينة
تروي السيدة عقيلة توات حرم نوي في هذه الشهادة، التي تدلي بها لأول مرة للنصر، تفاصيل غير معروفة من حادثة استشهاد حملاوي ومريم بوعتورة بوسط مدينة قسنطينة، حيث سقطا داخل منزلهم العائلي وكانت حاضرة مع والدتها وإخوتها خلال عدة ساعات من الاشتباكات، قبل أن يخرجهم المجاهدون على بعد مسافة صغيرة من الموت ويدك جنود الاستعمار جدران الشقة بالقاذفات.
حاورها: سامي حباطي
تنطلق قصّة استشهاد سليمان داودي المعروف باسم حملاوي ومريم بوعتورة، المعروفة باسم ياسمينة خلال الثورة، من يوم الاثنين 7 جوان 1960، أين لجآ رفقة مجاهدين اثنين إلى منزل المجاهد المرحوم صالح توات، والد محدثتنا السيدة عقيلة حرم نوي، التي كانت تبلغ من العمر 12 سنة خلال الحادثة الفارقة في ذاكرتها إلى اليوم وما زالت قادرة على استعادتها بجميع تفاصيلها بمحيط محل والدها وشقته التي وقع فيها الشهيدان، مثلما تؤكد لنا في حديثها إلينا بمنزلها العائلي بعين سمارة.
وصول فوج المجاهدين مع اقتراب المغرب
وقالت السيدة عقيلة، التي يفضل أهلها مناداتها باسم عتيقة، أن الشهيدين حملاوي ومريم بوعتورة والمجاهدين بشير بورغود ومحمد قشود، قدموا إلى منزلهم الواقع بين شارع حملاوي ونهج بلخوجة قدوما من شارع ديدوش مراد الذي كان يسمى شارع فرنسا بوسط مدينة قسنطينة، مع اقتراب آذان المغرب، مشيرة إلى أنهم دخلوا عبر بوابة المحل الذي كان يملكه والدها ويبيع فيه الآلات الكهرمنزلية أسفل شقتهم العائلية، فيما أكدت أن والدها صالح توات لم يفتح بابا لمنزله عبر مدخل العمارة المفضي إلى نهج بلخوجة، حتى لا يشارك دخول وخروج أفراد عائلته مع الجيران الأوروبيين، كما سهل عليه هذا الأمر إدخال المجاهدين عبر السلالم المؤدية من المحل إلى الشقة دون إثارة الشبهات.
ووصفت محدثتنا مشهد دخول الفوج المذكور من المجاهدين، حيث قالت أنها رأتهم أول مرة في السلالم فهرولت إلى والدتها تخبرها عن قدوم ضيوف، وبدت مريم بوعتورة في مطلع العشرينيات من العمر وكانت ترتدي ملاية فيما ارتدى مرافقوها سترات أخفوا تحتها الأسلحة، وحمل حملاوي حقيبة يد كبيرة. وأضافت نفس المصدر أن مشهد السُّدة الموجودة في المحل قد استوقف المجاهدين أثناء صعودهم السلالم، فتفحصوها جيدا وتحدثوا عن كونها صالحة لأن تكون مخبأ جيدا، فيما نبهت أنها لم تكن تعلم أن ضيوف والدها مجاهدون.
وتضيف أن والدها أنزلهم غرفة قصية من المنزل تطل اليوم على نهج بلخوجة، بعد أن دخلوا المحل مدعين أنهم مجرد زبائن، في حين خرج المرحوم صالح توات من البيت عند حلول الظلام واقتنى العشاء لضيوفه من المطعم المحاذي لمنزله وكان ملحقا بالنزل الموجود في شارع حملاوي.
مريم بوعتورة وحملاوي سهرا إلى غاية الصباح
وبعد أن عاد الوالد إلى المنزل، قالت لنا السيدة عقيلة أنها ساعدت في إعداد مائدة العشاء للضيوف، لتفاجأ عند دخولها الغرفة بالمجاهدين الأربعة وقد وضعوا أسلحتهم على الأرض، فيما أكدت محدثتنا أن حملاوي ومريم بوعتورة لم يناما تلك الليلة، على عكس مرافقيهما الآخرين، وظلا يتجاذبان أطراف الحديث ويتضاحكان أحيانا، دون أن تبدو عليهما أي علامات خوف أو جزع. وقد سألنا السيدة عقيلة عن فحوى الأحاديث التي دارت بينهما بحسب ما تتذكره، فأوضحت لنا أنها لم تخرج عن دائرة استرجاع ذكريات وعمليات من الثورة، وتقول أن مريم بوعتورة كانت تتحدث وهي مستلقية وتسند رأسها بيديها.
وعند اقتراب فجر يوم الثامن من جوان، حوالي الساعة الرابعة صباحا، طوق جنود السلطات الاستعمارية منزل عمي صالح توات، وبداخله المجموعة المذكورة، حيث أكدت محدثتنا أنهم علموا بالأمر من خلال الجلبة التي سمعوها، وظنوها في البداية صادرة عن عمال المطعم والنزل المجاور لهم، قبل أن يفاجأوا بالعشرات من الجنود يطوقون شارع حملاوي وجميع المنافذ المؤدية إليه، كما أشارت إلى أن مدخل نهج بلخوجة كان مغلقا من قبل بحاجز من القضبان الحديدية وضعتها السلطات الاستعمارية. وقد اقتحم جنود الاستعمار البناية عبر الباب الذي يدخل منه الأوروبيون، لكنهم لم يجدوا شيئا لأن سكانها أخبروهم أن صاحب الشقة المعنية يستعمل محله كمدخل.
وتضيف خالتي عتيقة أن والدها سأل المجاهدين عما يجب القيام به، فأخبروه بأن يخرج للجنود ويفتح باب محله، لتؤكد أن المجاهدين بادروا بالهجوم على الجنود، فما إن فتح والدها باب واجهة المحل حتى وقف حملاوي خلفه وأطلق النار مسقطا ضابطا استعماريا على عتبة المحل، لكن والدها سقط في تلك اللحظة معه، فسحبهما الجنود معا باستعمال بطانية ظنا منهم أن والدها قد قتل أيضا، ووضعوهما على ظهر شاحنة، لكن تبين بعد ذلك أن والدها قد نجا ولم يتعرض لأية إصابة. وتؤكد محدثتنا أن الفوج اتخذ قرار المبادرة بالهجوم لأنهم وجدوا أنهم في موقع أعلى من الجنود، ما يمنحهم الأفضلية.
أما مريم بوعتورة، فقد اتخذت موقعها في نافذة الشقة الواقعة فوق واجهة المحل مباشرة والمقابلة لمدخل شارع حملاوي، فيما ظل حملاوي يطلق النار من السلالم لمنع الجنود من اقتحام الشقة عن طريق المحل. وأكدت السيدة عقيلة أن مريم بوعتورة كانت تحمل سلاحين في كلتي يديها وتطلق النار بصورة مكثفة، في حين قالت إن البناية المحاذية للشقة كانت مخصصة لأفراد الشرطة الفرنسية وقد اختارها الفرنسيون لإطلاق النار أيضا.
ونبهت محدثتنا أنها ظلت مع المجاهدين في الشقة خلال تبادل إطلاق النار، رفقة إخوتها الأربعة ووالدتها، حيث كان أصغر إخوتها يبلغ من العمر أربعين يوما حينها، في حين تؤكد أن حملاوي قال لوالدتها «يا سيدتي، لم تبق معنا إلا هذه الشحنة من الذخيرة، فهل هناك مخرج خلفي أو مهرب من المكان؟» قبل أن تجيبه الوالدة بالتأكيد أن الشقة لا ترتبط بالعالم الخارجي إلا من خلال مدخل واحد عبر المحل.
حملاوي أحرق حقيبة مملوءة بالأموال والوثائق
وتُواصل السيدة عقيلة سردها الوقائع التي كانت شاهدة عليها يوم الحادثة، حيث قالت أن حملاوي أخرج حقيبة اليد التي كان يحملها عند قدومه إلى البيت بعد حديثه مع والدتها، وكانت مملوءة بالأوراق النقدية والوثائق الخاصة بالثورة، ثم توجه إلى المرحاض أين أخذ يمزق الوثائق ويرمي بها في المرحاض ويشعل فيها النار، قبل أن يصب عليها المياه، وأعاد نفس الأمر مع المبلغ الضخم من الأوراق النقدية، حتى تخلص منها جميعا. وذكرت محدثتنا في شهادتها أن حملاوي أطلق النار على جنود فرنسيين من نافذة صغيرة للمرحاض تُفضي إلى مدخل العمارة من المدخل الخاص بالسكان الأوروبيين، وتمكن من قتل عدد منهم.
وتؤكد محدثتنا أن الشهيد حملاوي كان أكثر أعضاء المجموعة حركة داخل الشقة، حيث كان يخرج إلى النافذة لرمي الجنود الفرنسيين بالطلقات ثم يعود إلى المطبخ ويشرب الماء من الجرة، لكنها تشير إلى أن أعضاء الفوج الآخرين أيضا كانوا يطلقون النار على الجنود، كما أن المُجاهدَيْن الآخرين ظلا يطلقان من النوافذ الجانبية للشقة، دون أن تبدو على أي من الأربعة علامة خوف أو فزع، ما جعل الجنود يعزفون عن الاقتراب من مدخل الشارع، خوفا من التعرض للنيران.
وعندما قاربت الذخيرة على النفاد من المجموعة، تقول السيّدة عقيلة أن لحظات من الصمت عمت المكان بين الطرفين، في وقت كان فيه الجنود الفرنسيون ينصبون فيه قاذفة «بازوكا» مقابل البناية، بينما اجتمعت والدة السيدة عقيلة مع أولادها في إحدى الغرف وظلوا هناك خلال تبادل إطلاق النار.
حملاوي رافق الأطفال ووالدتهم إلى غاية خروجهم آمنين
وروت لنا السيدة عقيلة أن والدتها أخبرت حملاوي برغبتها في الخروج من الشقة مع أطفالها، حيث قالت أنها خائفة من اختناق الأطفال بسبب الغازات المسيلة للدموع والأتربة المترتبة عن تبادل إطلاق النار، لكنها أوضحت أن مريم بوعتورة أبدت بعض الرفض في البداية قبل أن توافق، على إثر اقتناعها بحديث الأم التي قالت، مثلما تؤكد محدثتنا، «إنكم تقاتلون فرنسا من أجل هؤلاء الأطفال الصغار فإن ماتوا فلن نجني شيئا». وتضيف نفس المصدر أن حملاوي رافقهم إلى غاية المحل قبل أن تطلب منه والدتها العودة خوفا من أن يطلقوا عليه النار إن رأوه.
وتتذكر خالتي عتيقة مرورها عبر البوابة الزجاجية المكسورة للمحل التجاري، حيث نبهت أن المجاهدين استخدموا الثلاجات والغسالات الموجودة في المحل كمتاريس لسد بوابة المحل وجعلوها جدارا منيعا في وجوه الجنود، فيما مرت مع إخوتها ووالدتها عبرها بعد أن تبعثرت على الأرض إلى جانب بعض الردوم، لكنها أكدت أن «البازوكا» لم تستعمل إلا بعد خروجهم. وتشير محدثتنا إلى أن آخر عبارات الشّهيد سليمان داودي التي تتذكرها تكمن في حديثه مع والدتها، حيث أوصاها أن تقول أن عددا كبيرا من المجاهدين، يفوق الخمسين، يختبئون داخل الشقة مدججين بترسانة كبيرة من الأسلحة المختلفة، في حال سألها جنود الاستعمار عن المجاهدين المختبئين في الشقة.
المجاهدون أسقطوا عشرات الجنود الفرنسيين
وتصف محدثتنا الطوق الأمني الذي ضربه جنود الاستعمار حول مكان تواجد مجموعة المجاهدين المذكورة بالقول «لقد كانوا مثل النحل»، حيث انتشروا عبر شارع ديدوش مراد كاملا من مدخله إلى غاية نهج عسلة حسين مثلما تتذكره، بالإضافة إلى صعودهم على أسقف البنايات، في حين فوجئت برؤية صف من الدبّابات في شارع باب الوادي مباشرة عند نهاية شارع ديدوش مراد، حيث أكدت لأكثر من مرة خلال حديثها إلينا أن وشاية هي ما كشف عن تواجد فوج المجاهدين في منزلهم وعلى رأسهم حملاوي، موضحة أن السلطة الاستعمارية جنّدت قوة ضخمة للقضاء عليه بمجرد وصول المعلومة إليها، لأنه كان مطلوبا وتمكن من الفرار من قبضتهم من المستشفى في شهر فيفري من نفس السنة.
واقتاد جنود المستعمر الأطفال ووالدتهم إلى المركز العسكري، الذي كان في نفس موقع مسجد رحبة الجمال اليوم، حيث سأل رائدٌ والدتها عما إن كان حملاوي ضمن المجموعة المختبئة بالمنزل، لكن الوالدة اكتفت بالقول «أنها لا تعرفه»، ثم سألها عن عددهم فأجابت أنها قوة كبيرة من المجاهدين دون أن تحدد عددا معينا خوفا من أن ينتقم منها العساكر بعد أن يكتشفوا عدد أعضاء الفوج الحقيقي. وتضيف محدثتنا أنها شاهدت عساكر فرنسا يدخلون المركز ويخرجون لمرات كثيرة حاملين عددا كبيرا من الأسلحة على أيديهم، فالاشتباك بين الطرفين استمر منذ حوالي الساعة الرابعة صباحا إلى غاية العاشرة.
ونبهت محدثتنا أن حملاوي ورفاقه تمكنوا من إسقاط العشرات من جنود الاستعمار وإصابة الكثيرين منهم بفضل موقعهم، حيث أخبرتنا أنها رأت في المساء جنود الاستعمار يعودون حاملين عددا معتبرا من البدلات الملطخة بدماء رفاقهم الذين قتلوا من طرف المجاهدين، في حين نقلت عن رفيقه محمد قشود الذي ظل حيا إلى جانب بشير بورغود أن حملاوي قُتل بضربة أحدثت له ثقبا في الصدر، بينما حدّث العائلةَ أحد الجيران الجزائريين أن مريم بوعتورة قد قُطعت ساقاها بسبب انهيار الردوم عليها وإصابتها بالرصاص، حيث قال من شاهدها آخر مرة «أن الجنود سحبوها وكان جسدها ما يزال يرتعش قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة».
وتشدد محدثتنا أن جيرانهم أخبروهم في وقت لاحق أن جنود الاستعمار ظلوا ينظفون شارع ديدوش مراد باستعمال المياه من كميات كبيرة من دماء رفاقهم التي أسالها فوج المجاهدين بعد إصابتهم، كما أنهم كانوا يحملون أمواتهم على ظهور الشاحنات باستعمال بطانيات، فيما منعوا الحركة بجميع المناطق المحيطة بالمكان وأوقفوا التزويد بغاز المدينة على جميع سكان المدينة القديمة والأحياء المحيطة بمكان تواجد الفوج خوفا من وقوع انفجار، بحسب ما تؤكده وسائل الإعلام الاستعمارية التي تطرقت إلى الخبر في تلك الفترة. ونبهت محدثتنا أن الخطأ الذي وقع فيه جنود الاستعمار يكمن في اندفاعهم في المرة الأولى نحو الشقة، ما تسبب في مقتل العديد منهم قبل أن ينسحبوا ويصعدوا إلى أسقف البنايات.
«ملاية» وقطعة قماش من تنورة بوعتورة بين الردوم
ومكثت خالتي عتيقة مع والدتها وإخوتها في المركز العسكري الاستعماري أياما قليلة، حيث تتذكر أن والدتها نجحت في إنقاذ مبلغ بسيط جدا من المال وسوار ذهبي أخفتهما في علبة حليب شقيقها الرضيع، بينما فقدت الأسرة جميع أموالها وممتلكاتها وعادت إلى نقطة الصفر بعد الحادثة. أما والدها صاحب المنزل، فقد حُوّل إلى مزرعة «أمزيان» وتعرض لتعذيب شديد، ثم حبس في السجن العسكري بالقصبة لمدة ثلاثة أشهر تحت الأرض قبل أن يحاكم ويوضع في سجن الكدية ثم سجن «لامبيز» بباتنة إلى غاية الاستقلال.
وقضت المحكمة بعد ستة أشهر من الحادثة بحق العائلة في العودة إلى الشقة وإعادة فتح المحل التجاري، باب الرزق الوحيد الذي تحطم من الداخل بصورة كلية، حيث تشير محدثتنا إلى أن الأسرة عاشت على أموال صدقات العائلة والمقربين طيلة الفترة اللاحقة إلى غاية الاستقلال، وروت لنا كيف ذهبت إلى المدرسة مع إخوتها بنعال من النايلون ودون أدوات، لكن المدير آنذاك وفر لهم كراريس وأقلام وبعض الأدوات للدراسة، في حين أضافت محدثتنا أن جميع أشياء الأسرة طمرت تحت الردوم، وقد فوجئ أفرادها عند دخولهم بانهيار جميع الجدران حتى أصبحت الشقة «غرفة واحدة»، كما تعبّر السيدة عقيلة عن الحادثة.
أما السلع داخل المحل التجاري فقد تحطمت جميعها ولم تعد قابلة لإعادة البيع، في حين تتذكر خالتي عتيقة أن والدتها تمكنت من جمع بعض الأوراق النقدية التي لم يحرقها الشهيد حملاوي، بالإضافة إلى قطعة من قماش تنورة مريم بوعتورة وجدتها بين الردوم والملاية التي جاءت بها، ثم وضعتها جميعا في قطعة قماش كبيرة ولفتها، لتسلمها بعد بضعة أشهر خلال الثورة لمناضلين من الثورة قصدوا المنزل بحثا عن أية أشياء يكون المجاهدون قد تركوها داخل الشقة، موضحة أن أمها قالت للمناضلين «حملاوي راهو كان فحل وأحرق جميع الوثائق». وتشير محدثتنا إلى أن بوعتورة تحصلت على الملاية من زوجة شخص يدعى حمزة نايت رابح، كان يعمل شرطيا حينها واختبأت بوعتورة في منزله مع رفاقها قبل أن يقصدوا شقة شارع حملاوي، مثلما أخبرتها الزوجة.
صاحب “حصن شابرول” وصديق عبد الحفيظ بوالصوف
وأرينا السيدة عقيلة صورة من الموضوع الصادر بجريدة “برقية قسنطينة” الاستعمارية يوم التاسع من جوان 1960 حول استشهاد حملاوي ورفاقه، حيث أشارت مباشرة إلى صورة من الصفحة الأولى تظهر فيها آلة للطبخ وبعض القدور وقالت “هذا مطبخ منزلنا القديم” كما تُظهِر صورة أخرى علبا كرتونية مبعثرة ومخلفات لتهدم الجدران، أين ذكرت الجريدة تحت الصورة أن المنزل كان يستخدم أيضا كمستودع للسلع.
ورافقنا خالتي عتيقة إلى منزلها القديم بشارع حملاوي، الذي كان يعرف خلال فترة الاستعمار باسم شارع “كاورو”، حيث وقفت عند تقاطع الشارع المذكور مع شارع ديدوش مراد وأكدت لنا أن هذه المساحة كانت خالية تماما من جنود المستعمرين عند مغادرتها الشقة مع والدتها وإخوتها خوفا من أن تطالهم طلقات حملاوي ورفاقه، لنسير معها بعد ذلك إلى غاية المحل، الذي ما تزال واجهته نفسها، فضلا عن أن أحد الستائر الحديدية الجانبية للمحل ما زالت تحمل ثقوبا ناجمة عن الطلقات النارية التي وجهها جنود الاستعمار.
ووقفت مرافقتنا أمام مدخل المحل، الذي صار اليوم يبيع آلات الخياطة، حيث وجدت أن الباب لم يتغير وأخذت تصف لنا كيف عبرت من خلاله إلى الخارج، كما أن الأرضية لم تتغير أيضا، رغم تأكيدها على أنها تتذكر قطعة رخام كبيرة تحولت إلى ما يشبه الفسيفساء بعدما أصابتها ضربات الفرنسيين النارية وقاذفاتهم، فيما أشارت إلى النافذة التي أطلقت منها مريم بوعتورة، والنوافذ الجانبية التي أطلق منها بشير بورغود ومحمد قشود. ونبهت إلى أن الأسرة لم تكن تفتح أبدا النوافذ المقابلة للنّزل. وقد وجدنا أن صاحب المحل الجديد، الذي اقتناه من المجاهد المرحوم صالح توات خلال الستينيات، قد غير السلالم، لكن السدة التي استوقفت حملاوي وبوعتورة ما زالت موجودة إلى اليوم.
واستخدمت الجريدة الاستعمارية “برقية قسنطينة” عبارة “حصن شابرول” لوصف شقة المجاهد صالح توات، التي اختبأ فيها حملاوي ومرافقوه، وهي عبارة دخلت حيز الاستعمال بعد حادثة تحصن أحد مُغالي تيار اليمين المشاركين في المحاولة الانقلابية الفرنسية عام 1899، ليتحصن بعد ذلك لمدة 38 يوما في مقر جريدته الأسبوعية بشارع “دي شابرول” بباريس، فيما يكشف المقال أن الفرنسيين لم يكونوا متأكدين من هوية مريم بوعتورة، فجاء في المقال أن حملاوي استشهد إلى جانب امرأة يُحتمل أنها بوعتورة، لكنها أخفت حقيقة الخسائر التي تكبدها الجنود الفرنسيون مثلما يلاحظ في المقال. واعتقد أفراد أسرة توات أن الوالد وصاحب الشقة قد توفي، لكنه تمكن خلال فترة أسره في مزرعة “أمزيان” من أن يتواصل عبر النافذة مع بعض من قاطني الأكواخ حينها، وأوصل من خلال رسالة أنه ما يزال على قيد الحياة، مثلما أخبرتنا به السّيدة عقيلة، التي حدثتنا عن علاقة والدها بالحركة الوطنية، حيث أكدت أنه كان على علاقة بعبد الحفيظ بوالصوف.
وأضافت محدثتنا أن والدها كان منتميا إلى الثورة منذ البداية، وتعرض للمتابعة القضائية من طرف السلطات الاستعمارية بسبب تزويده منطقة الأوراس بالآلات الكاتبة التي كان يعرضها في محله وتستعمل لتوزيع المناشير، لكنها أشارت إلى أنه كان كتوما جدا ونادرا ما يتحدث عما كان يقوم به خلال الثورة، لذلك تجهل أسماء الكثير من أصدقائه ورفاقه الآخرين.
س.ح
يتبع