السبت 5 أكتوبر 2024 الموافق لـ 1 ربيع الثاني 1446
Accueil Top Pub

الجزائر في براديغم ما قبل الكولونيالية


تظل المساءلة التاريخية غريزية حول الديناميات التي انتظمت خلفها المعرفة الكولونيالية، وما أفرزته من سرديات مُأشكلة أفضت إلى بروز الزوج المفاهيمي على غرار المُستعمِر والمستعمَر، الغرب والشرق، الحديث والتقليدي، وغيرها من التعالقات المتضادة التي شكلت قَطعًا عميقا في تاريخ الجزائر المستعمرة. لقد بات النبش العلمي الأبكر ضرورة ملحة لإعادة تشريح بنى السيطرة التي صاغت الأطر النظرية في غزو فرنسا للجزائر، بوصفه انحرافا بشريا وانعطافة تاريخية.

الدكتــور توفيــــق بـــن زردة

نحو اجتثاث المدنيات المتوسطية
قسنطينة هي المدينة التي دكت فرنسا أسوارها وكسرت أبوابها (1837) وحطمت نصف عمرانها لتجعل منها حاضرة بضفتين وثقافتين مختلفتين محلية وأوروبية، يفصلهما جدار عزل حضاري ظهر في الطريق (تعرف بالطريق الجديدة) الذي شيدت أركانه على الميز و التفريق، ولم تكن عموم الحواضر في الجزائر بمعزل عن هذا التشويش العمراني، فالجزائر «المحروسة» حولتها فرنسا من المدينة المركز إلى المدينة الحي، عندما زحف العمران الأوروبي على محيطها واقتحم أطرافها.
ولا تختلف الظاهرة العمرانية عن الظاهرة اللسانية التي شهدت تشويشا في المنطوق بعدما تسللت إليه المتغيرات الحادثة بخلفية الخلود الأوروبي، الذي هز بدوره العادات التسموية في الجزائر وعزلها عن سياقها السلالي التقليدي المحلي، عندما فرض منظومة ألقاب عائلية مشوشة للانتماء ومحدثة لتصدعات اجتماعية وإرباك بنيوي.
لقد كانت الظواهر العمرانية واللسانية والتسموية في البلاد الجزائرية، هي نتاج سطو موصوف على هوية الشعوب بمعيارية عنف بنيوي وهوية احتلالية أوروبية أقصت كل الهويات لتجعل منها أصوات هامش، تعيش بمعزل عن ايقاع الفكر العالمي والتحولات الكبرى، وتخضع لنموذج شمولي معمم يستبيح كل الثقافات التي صورها البراديغم الأوروبي كظواهر بدائية عابرة عليها أن تندثر وتزول.
لقد أنتجت هذه الذهنية الاقصائية حلقة من التاريخ مفقودة الانسانية، وحبلى بالمعضلات التي لم يسلم منها حتى الموتى الذين تصان كرامتهم في العرف الكوني، حيث كان استرجاع الجزائر (في صيف 2020) لأربعة وعشرين جمجمة من رموز المقاومة الشعبية، التي كانت محتجزة قسرا لأكثر من مائة وسبعين عاما بمتحف التاريخ الطبيعي بباريس قصد دفنهم، مؤشر على هولوكوست استعماري وأزمة ذهنية أوروبية أرادت أن تجعل من الجزائر فضاء رُفاة تسقط فيه كل معاني الانسانية وقيم التعايش، رغم أن تمثال الامبراطور قسطنطين الروماني الذي بقي منصوبا بعد الاستقلال في أحد أهم شوارع مدينة قسنطينة، كبرهان جازم على أننا أمة جُبلت تاريخيا على التعايش مع الآخر. فلماذا إذا كل هذا التحامل الاستعماري الفرنسي خلال القرن التاسع عشر على الجزائر؟
في الواقع سبق البحر المتوسط كل المدنيات وغطته تواترا أغلب الحضارات، وتوزعت على سواحله دولا ومجتمعات، ناسجة معاني التعايش والاختلاف، الذي بُددت ملامحه وتلاشت أركانه عندما أصبحت الدول الأوروبية تدين بالطاعة لآلهة الاستعمار، دون أن تغضب علنا الكنيسة، حيث حسمت أمرها وتركت العنان لجيوشها تمارس طقوس غزو، وتقدم قرابين احتلال أنتجت متغيرات عاصفة أتت على السياقات التاريخية لحوض المتوسط، الذي فقد حلقة حضارية من حضاراته الانسانية.
لقد كان كافيا انهيار الضفة الجنوبية للبحر المتوسط وعجزها عن تشييد قيم بقاء مع تفريخ للركود بسبب الانحباس الحضاري، ومثاقيل فكر جامد عاجز عن التجديد، لتنطلق ظاهرة الغزو والاحتلال مع فرنسا التي كانت تريد أن تمضي شتاءها البارد في بلد دافئ، ضمن نسق هيمني تعضده امبريالية النظام الغربي وشمولية نموذجه،الذي انطلق من شرعية القانون الروماني في دعوته إلى إعادة رسم الخارطة الحضارية لمتوسط لاتيني تجتث منه بقية المدنيات، وتضمر عن ملامحه بقية الحضارات، لكن كيف جرى التمهيد لهذا الغزو الذي أريد له أن يكون بأنساق أبدية ؟
مكـــــــرالصــــــــورة
أصبح التطلع إلى المجهول ومعرفة خبايا الآخر خاصية طبعت المجتمعات الأوروبية، التي تنظمت في نشاطات مؤسساتية أو مبادرات فردية، لتخترق الفضاءات الفسيحة في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، وإلى عمق الصحراء ، عبر رحلات مختلفة الذوق والمزاج، فبعضها كان ضمن الأبحاث العلمية والاستطلاعية، وبعضها الآخر من أعمال الجوسسة وشهادات لأسرى وتقارير قناصله، وتقاطعت هذه مع تلك، لينقلوا إلى الضفة الشمالية للمتوسط كما معرفيا غزيرا، كتعبير عن رغبة العقل الأوروبي في تركيب شبكة معلومات وقاعدة بيانات عامة سرعان ما "فتحت الشهية" و"ربت الذوق الكولونيالي" عندما تحولت هذه المعرفة إلى أبنية مرجعية لاستشراف ما بعد الرحلة و هي المرحلة الاستعمارية.
إن الجزائر التي جعلوا منها "المستعمرة القاعدة" لاحتلال بقية الفضاءات المغاربية، ودواخل القارة الإفريقية، تزاحمت حولها المدونات التي خُطت مع مطلع القرن السادس عشر، مثل مدونات الراهب الإسباني "دييغو دي هايدو"
( Diego De Haedo)، الذي وقع أسيرا بالجزائر (1578 - 1581)، حيث مهد مؤلفه " طوبوغرافية تاريخ الجزائر العام" إلى وضع أرضية أوروبية لـفكرة " جزائر الأسر " و" السجن المفتوح للأوروبيين"، أما كتابات الأب بيار دان (Pierre Dan Père)- خريج معهد اللاهوت(Théologie)-، فروجت - خلال النصف الأول من القرن السابع عشر-لوجود حزام بحري "قرصني"يمتد عبر الدول البربرية
(Etats barbaresques)، يحول أمام تحقيق التطلعات البحرية الأوروبية.
بعدها اخترقت الكتابات الأوروبية الجادة البحرية، وغاصت في العمق الترابي الجزائري انطلاقا من التفكيك الابستمولوجي لمجتمعات الضفة الجنوبية للمتوسط، التي باتت ألغازا معرفية، لذلك برزت بفعل هذه الرؤى المُأشكلة الكثير من المؤلفات "الرحلية" الأوروبية حول الجزائر - وغيرها- على غرار رحلة لوجي دوطاسي (Laugiet De Tassy) (1685) و دولاكروا بتي(Pétisde la Croix) (1695) والاسباني فرنثيسكو خمينيث (1717- 1720)، ورحلة الفرنسي بايصونال أندري (André Peyssonnel)،(1725)،و عالم النبات الألماني أوهبنسترايت (1732)، والطبيب الانجليزي طوماسشو (1738) (Thomas Shaw)، ورحلة فونتيردوبارادي ((Venture de Paradis (1788-1790) ، التي توجت بدراسة اللسان البربري كمقاربة لشيوع دراسة اللغات الشرقية بفرنسا..
لقد شكلت هذه الرحلات –وغيرها-لبراديغم ما قبل الكولونيالية، الذي صدر للعقل الجمعي الأوروبي كليشيهات رصدت الجزائر كجزء لا يتجزأ من الشرق بما يمثله هذا الأخير في نظرهم "من غموض وبدائية تاريخية مركبة مسكونة بالقرصنة، لذلك الابتعاد عن أوروبا والولوج إلى الضفة الجنوبية للمتوسط هو في اعتقادهم ولوج إلى المغلق والتوغل في القديم الغير متجدد، الذي لا يتجاوز تذوق بعض جماليات الحضارة الإسلامية التي اندثرت". لقد تحولت هذه القيم المعرفية بإيديولوجية استعمارية وبمكر الصورة إلى مسلمات داخل المجتمع الأوروبي ومؤسساته الرسمية، التي استندت في غزوها للجزائر على هذه الأطر النظرية والكليشيهات الابستيمولوجية، فكان كتاب " وصف الجزائر" الذي وزع على جنود الاحتلال (1830) تتويجا لمرحلة فهم الآخر وإيذانا لانطلاق تاريخانية الغزو والاحتلال.
عندما تسقط الشمس على رؤوس الرجال
اختارت الملكية الفرنسية حوض المتوسط للعودة إلى خوض غمار السياسة العالمية، لذلك كانت أولى بوادرها هو التدخل العسكري في إسبانيا (أفريل 1823) من أجل سحق الثورة الليبرالية وإعادة النظام الملكي المطلق بها، في الوقت الذي بات فيه التطلع إلى جنوب المتوسط رغبة ملحة تملكت المؤسسات الرسمية، التي عمدت إلى الانتقال بالمسألة الجزائرية من مجرد خصومة عابرة (مسألة الديون) إلى غزو، تكشفت خيوطه، عندما فكر بعض وزراء شارل العاشر في توجيه حملة عسكرية ضد الجزائر، ضمن مخطط متوسطي دفع بفرنسا إلى الانخراط في أزمات شرق هذا البحر "العالمي"، حيث انضمت إلى جانب روسيا وبريطانيا كتحالف استعراضي قبالة سواحل اليونان، وعلى مرأى من العثمانيين الذين دُفعوا إلى معركة نفارين (1827) يدعمهم الأسطول المصري وهي المعركة التي انتهت بانهزامهم وتشتت قواهم .
لقد كانت حكومة فرنسا في هذه المرحلة تبحث – أيضا- عن مجد خارجي يخفف من حدة أزماتها الداخلية وضغط معارضتها الليبيرالية، حيث كان الطوق العسكري الذي فرضته على سواحل الجزائر منذ1827، هو عناد مفضوح، ورغبة مرضية في المحافظة على رهينة في الحوض الغربي للمتوسط بغية التلويح الدولي بمصيرها، الذي بات لصيقا برجل مريض ينتزع منه جبروته انتزاعا وهي الامبراطورية العثمانية التي تكومت على جنباتها، عوامل الزوال والاندثار، لذلك جمعت فرنسا في هذه المرحلة بين مسألة الشرق (الأوسط) و المسألة الجزائرية، حيث عمد رئيس الحكومة جيل بولينياك (Jules Polignac) على التنسيق سنة 1829 مع محمد علي حاكم مصر، قصد تشكيل امبراطورية عربية واسعة تكون صديقة لفرنسا عن طريق احتلال ثلاث ولايات عثمانية هي: الجزائر وتونس و طرابلس الغرب، لكن هذا المشروع الفرنسي اصطدم بصعوبات على أرض الواقع أهمها عداء البريطانيين لكل مد فرنسي.
طبعا أمام هذا الواقع الإقليمي والدولي المتقلب، أقدمت حكومة بولينياك على تبني خيار التصفية الطرفية، للدولة العثمانية انطلاقا من الجزائر التي ما زالت رهينة حصار طويل عمق من عزلتها، ما شجع هذه الحكومة على المضي في هذا الغزو، عله يحقق" مجدا خارجيا "يبدد ضغوط المعارضة في الداخل ويشغل الرأي العام بفرنسا التي سكنتها–أيضا- رغبة قوية في الاستيلاء على مدخرات الخزينة الجزائرية، التي أزالت آخر تحفظات الملك شارل العاشر فيما يخص تكاليف الحملة، لتنتهي بذلك أطوار المعرفة الكولونيالية التي تكومت منذ القرن السادس عشر، بسقوط مدينة الجزائر في05 جويلية 1830، حيث صورها الشعر الشعبي حينها بسقوط الشمس على رؤوس الرجال.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com