أكد باحثون أكاديميون، أن بيان أول نوفمبر استشرف لثقافة العيش معا بسلام، التي يتغنى بها العالم اليوم، بعد أن رافعت من أجلها الجزائر لغاية أن أقرت لها الأمم المتحدة احتفالية عالمية، فمضمون البيان كان نداء للثورة دون أن يذكر أي مرادف لكلمة حرب، كما وضعت الوثيقة شروطا سلمية تيسيرية للمعمرين إذا ما أرادوا العيش في الجزائر بعد استقلالها وغير ذلك من النقاط الأخرى التي أشارت إليها.
بن ودان خيرة
و اعتبر متدخلون، في ندوة علمية وطنية نظمتها بجامعة وهران 2 وحدة البحث في علوم الإنسان للدراسات الفلسفية والاجتماعية والإنسانية، بالتعاون مع كلية العلوم الاجتماعية، بأن نص بيان أول نوفمبر، قاعدة مرجعية لفلسفة الثورة التحريرية، وأساسا لبناء الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة، ضمن إطار القيم الحضارية للشعب الجزائري، ويحمل البيان نفسه، رؤية مستقبلية أولها التنبؤ بالاستقلال، وثانيها بناء دولة وطنية متجذرة في تاريخها، ومرتبطة بدينها وثقافتها.
وذكر، أن بيان أول نوفمبر 1954، يعد من النصوص التي يصعب تجنيسها رغم أنه يبدو أقرب إلى الخطاب الإعلامي، لكنه ليس مجرد بيان لإعلان الحرب بل هو نص حي يستجيب لآفاق القراءات المفتوحة، وهو نص يجمع في استراتيجيته الخطابية بين الإعلان وشحذ الهمم والإقناع و المحاججة.
الوثيقة ركزت على مبادئ وقيم إنسانية راقية
وقدم الأستاذ الدكتور ودان بوغفالة من جامعة تيارت، قراءة تاريخية ثقافية للوثيقة في مداخلة موسومة «بيان أول نوفمبر 54 : دستور تحرر وأرضية مشروع مجتمع»، قائلا إن اعتمادها كمرجعية في ديباجة دستور 2020، يزيد الشعب تلاحما والإجماع الوطني قوة وصلابة وتوافقا، والعدو تراجعا وانحصارا وخيبة.
مبرزا أن البيان هو وثيقة حرب تحريرية، صِيغت في ظروف تاريخية معينة، ولكن الصحيح أيضا أن النص لخّص مسيرة آلام وآمال الشعب الجزائري بكل أطيافه ونُخبه، وهو على مستوى رفيع من النضج والشمولية والديمومة، والاعتدال والوضوح والإنصاف والصلاحية ما يؤهله لتسيير مرحلة السلم والاستقلال، وبناء الدولة والمؤسسات وترشيد المجتمع والدفاع عن مكونات هُويته.
مردفا، أنه يرتكز على مبادئ وقيم إنسانية راقية، كالحرية والعدل والمساواة والوحدة والتضامن، والممارسة الديمقراطية والتعايش السلمي وقبول الآخر والانفتاح عليه، وتفضيل الحوار وتبني ثقافة السلم ونبذ العنف والكراهية والتعصب، وعدم اللجوء إلى السلاح وإراقة الدماء لحل الخلافات، منوها بضرورة تفعيل هذه القيم في الجزائر الجديدة اليوم، فالبيان دستور الثورة الجزائرية ومرجعيتها الأساسية، نشرته جبهة التحرير الوطني عند اندلاع الثورة وقدمته للرأي العام المحلي والأجنبي للتعريف بالثورة وتوضيح أهدافها والتأكيد على حق الشعب الجزائري في الحرية وتأسيس دولته المستقلة ذات سيادة.
قاعدة بناء الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية
وتناول الأستاذ الدكتور مزي عبد القادر من جامعة بشار، موضوع بيان أول نوفمبر من الزاوية الفلسفية ومن زاوية سيميائية، معتبرا إياه قاعدة مرجعية لفلسفة الثورة المباركة وأساسا لبناء الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية، كما أنه تضمن موضوع ثقافة العيش بسلام، وهو ما يمكن تفسيره وفق المتحدث، أن النخبة التي أعدت البيان كانت واعية بالأبعاد السياسية والحضارية للثورة التحريرية.
مشيرا، إلى أنه تطرق للثورة في بعدها الإنساني المفعم بزخم حضاري لشعب له امتداد تاريخي وقيم، فضلا عن ثقافة العيش معا بسلام كقيم إنسانية كونية، فقد كان أقرب للنص السياسي وليس نصا لإعلان الحرب.
مستطردا أن البيان هو تتويج لنضال الشعب الجزائري منذ 1830، وأن مفردات العنف والحرب غير واردة تماما فيه وهذا ما يعكس مستوى النخبة التي صاغته، كما أنه وثيقة تأسيسية للدولة الجزائرية المعاصرة، و منه تستلهم المبادئ و التوجهات السياسية وأيضا يعكس مستوى انصهار القيم الحضارية للأمة الجزائرية في بعديها الإنساني والكوني.
مضيفا، أنه يعرف بكونه إعلانا رسميا للثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي، وهو تتويج للأهداف الكبرى التي سعت إليها الحركة الوطنية من خلال مسيرتها النضالية لاسترجاع السيادة الوطنية كاملة غير منقوصة.
ويعكس أيضا حسبه، مستوى الفطنة والوعي والذكاء السياسي لدى المناضلين، ودراية شاملة بمجالات مختلفة تتقاطع مع الحقل المفهوماتي السياسي آنذاك.
محررو البيان جمعوا بين الحنكة و الذكاء السياسي
وتطرق الأستاذ الدكتور الهواري بوزيدي، عميد كلية العلوم الاجتماعية بجامعة وهران2، للجوانب السوسيو-أنثربولجية في مداخلة بعنوان «الفعل التأسيسي لبيان أول نوفمبر, الفعل التأسيسي للدولة الجزائرية»، قائلا إن اللغة التي استعملت في بيان أول نوفمبر بسيطة ودقيقة تصل لكل أطياف المجتمع، وإن كل فقرة استهلت بنداء للشعب الجزائري، فمحرروه جمعوا بين الحنكة والإنتلجنسيا السياسية.
وأضاف المتحدث، أن البيان تضمن بعدا سياسيا بإعلانه ميلاد جبهة التحرير الوطني، التي تولت مهمة العمل الدبلوماسي للتعريف بالقضية الجزائرية على المستوى الدولي، ولكن لم يرد فيه نوع الحكم بعد الاستقلال، وهي النقطة التي أثارت الجدل حتى قبل اندلاع الثورة في 1953، إذ حدث صراع حول نوع وطبيعة الدولة المراد تأسيسها بعد الاستقلال، إذ تضمن البيان صفتي «الديمقراطية الاجتماعية» وغيابا لكلمة «الجمهورية».
أما في البعد النضالي، فأوضح الدكتور بوزيدي، أن التعبير كان صريحا لإخراج الحركة الوطنية من المأزق، مما يعكس مستوى الوعي بما كان يحدث، فالوثيقة لم تتضمن كلمة «حرب» بالنظر للجانب الحقوقي القانوني لتدويل القضية بل كانت كلمة «ثورة» التي فيما بعد تحولت إلى حرب التحرير، و التي تشير لوجود جيش التحرير، وبالتالي استحداث قاعدة صلبة للدولة المستقبلية للجزائر.
أما من الجانب السوسيو ديموغرافي، فيبرز أنه قصد فئة سكان الأرياف الذين كانوا يشكلون الأغلبية الكبرى من السكان، وفعلا احتضن الشعب الثورة.
ولم يغفل الدكتور بوزيدي، عن الجانب الديني في البيان الذي تحدث عن إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة في إطار المبادئ الإسلامية، وهذه الفقرة وفقه، تعكس إستراتيجية قادة الثورة حتى لا يستغل الاستعمار كلمة الدولة الإسلامية وحتى لا تثير الغرب المسيحي.
البيان بمثابة «المعركة الأخيرة قبل الرصاصة الأولى»
وأجرى الأستاذ الدكتور غماري طيبي، من جامعة عين تموشنت مقاربة سوسيولوجية-استراتيجية لسياقات وأبعاد البيان، مشيدا بأن صياغة وتحرير وإنتاج وتوزيع البيان، كان بمثابة «المعركة الأخيرة قبل الرصاصة الأولى»، حيث بذل القائمون عليه جهدا كبيرا ودقيقا استطاع أن يتجاوز رقابة نظام دولة تابعة للحلف الأطلسي.
واعتبر الدكتور غوماري، أن البعد التقني لإنجاز البيان كان مهما جدا ودقيقا، وأنه يتأسف لحد الآن من أنه لم يتم إنجاز فيلم حول مراحل إعداد بيان أول نوفمبر، التي تعد تجربة وجب الاستفادة منها لصالح الجيل القادم، حيث كانت تحضيرات البيان دقيقة جدا من نسخ وتحضير المسودة ثم التحرير وكتابته بالآلة الراقنة، وكيفية اقتناء الورق بكميات كبيرة وإخفائه عن جنود وعيون المستعمر خلال نقله من مكان لآخر، والاختيار الإستراتيجي لمكان الرقن والنسخ.
وقال، إنه تم إصدار حوالي 2300 نسخة، أي 9200 ورقة لأن البيان كتب في 4 أوراق، يضاف إليها نداء جيش التحرير الوطني الذي كان في ورقة واحدة، يعني أن القادة نسخوا 11300 ورقة وهو كم هائل جدا يبين قوة الجانب التقني للمعركة التي لولاها ما نجحت المعارك الموالية.
وبخصوص السياق التاريخي، فإن البيان يندرج ضمن سياق خاص يتمثل في أزمة الحركة الوطنية التي جعلت النخب التي فكرت في الثورة بين خيارين، إما الإبقاء على الأزمة ويحدث انفجار داخلي، أو إخراجها للخارج وتحدث الثورة، و من هنا كما قال المتحدث، فإن البيان أوضح جليا الانتقال بين جيلين، الآباء المؤسسين للحركة الوطنية وجيل الشباب غير المقتنع برؤية سابقيه وهي نقلة مهمة.
والى جانب السياق الإعلامي، جاء البيان حسبه، للإعلان عن حدث مفصلي وهو الثورة ضد قوة عظمى وهذا ليس سهلا، وجاء أيضا لتبرير سبب الثورة، ولتفسير كيف ستتم، معرجا على السياق التعبوي والتجنيدي الذي هدف إليه البيان، من أجل تجنيد الشعب للثورة التي كانت بحاجة لحاضنة شعبية، وبالتالي فقد أسس البيان لواقع جديد بإشراك كل فئات الشعب في تغيير الواقع.
من جهة أخرى، حملت الوثيقة صبغة تأسيسية و تنظيرية بالنظر للأحداث التي توالت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وظهور القطبية الثنائية وغيرها، وهو الأمر الذي أنضج نظرية «تفكيك الاستعمار» وميلاد الثورة وكيف يمكن من خلالها استعادة السيادة الوطنية وتقرير المصير وكذا مسألة تصفية الاستعمار التي تم الاعتراف بها في الأمم المتحدة سنة 1951. ب. خ