مما لاشك فيه أن الأرض وما عليها مسخر لخدمة الإنسان في طريقه لعمارة الأرض وتحقيق الاستخلاف الذي كلفه الله تعالى به منذ خلق آدم عليه السلام "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، وهذا التسخير وجوهه متعددة ووسائله متنوعة لقوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
إعداد: د .عبد الرحمان خلفة
والأشجار والغابات نعمة من الله تعالى امتن بها على عباده لفوائدها العديدة ومنافعها الكثيرة وهذه واحدة من منافعها :{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءًۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ}. أي ترعون فيها أنعامكم
((أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّه مِنْ شَيْء يَتَفَيَّئُوا ظِلَاله عَنْ الْيَمِين وَالشَّمَائِل سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} فَتَأْوِيل الْكَلَام هنا، أَوَلَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَات إِلَى مَا خَلَقَ اللَّه مِنْ جِسْم قَائِم شَجَر أَوْ جَبَل أَوْ غَيْر ذَلِكَ ((يَتَفَيَّأ ظِلَاله عَنْ الْيَمِين وَالشَّمَائِل))، والغابات وما تشكله من ثروة نباتية تعود على البيئة والإنسان والحيوان بالخير والنفع بصور عديدة، وأشكال متنوعة من آيات الله تعالى التي تنطبق عليها هذه الآية الكريمة.
ولقد جعل الله كتابه المنظور متوافقا متطابقا مع كتابه المسطور، من أجل أن يتوافق العقل مع النقل توافقا لا تناقض بينهما، بل ترابط وانسجام وتناغم بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وبين المقروء وبين المشاهد الملموس.
والاعتداء على الغطاء النباتي جريمة بجميع المقاييس: إذا كان الغطاء النباتي نعمة من الله على البشر والحيوان والبيئة فإن الاعتداء عليه جريمة من المنظور الشرعي والاجتماعي والاقتصاد والأخلاقي والقانوني، تستوجب عقوبة شرعية وردعا قضائيا، واستنكارا اجتماعيا.
فهو جريمة من المنظور الشرعي:جريمة بكل أنواعها نظرا لانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية البيئية والأخلاقية.
فالمعتدي على الغابات صنفان من الناس: صنف لم يقصد التعدي، ولكن بسبب التقصير واللامبالاة، كما يحدث مع الكثير من الناس الذين يخرجون للنزهة والاستجمام فيوقدون النيران ويتركونها دون إخماد، مما يتسبب في اشتعال النيران وهلاك الثروة الحيوانية والنباتية، بل وربما التسبب في الأمراض والأوبئة وهذا الصنف من الناس يدرج ضمن المتسبب في الإتلاف بالتقصير فهو آثم شرعا وإذا ضبط متلبسا وجب عليه الضمان.
ـ صنف قصد التعدي والاعتداء: وهذا الصنف فعل ما فعل بداعي الإجرام مبيتا لنية الاعتداء، ومهما كانت الأسباب والمسوغات فإنه يعتبر مجرما تجب عقوبته ويصدق فيه قول الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى ٱلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ}
كما أنه يعتبر محاربا لله ولرسوله باغيا في الأرض الفساد ينطبق عليه قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وليس من ذنب أعظم من الاعتداء على البيئة إتلافا، وعلى الثروة النباتية الحيوانية، إهلاكا، وعلى البشرية ترويعا وتسببا في الأمراض والأوبئة، دون أن ننسى ما تخلفه هذه الجرائم من آثار سلبية على الاقتصاد، والبنية الاجتماعية والتماسك الاجتماعي، كما نود أن ترتقي المنظومة القانونية في تشريعاتها وقوانينها إلى مستوى يردع هؤلاء الذين تسول لهم أنفسهم سوءا وترويعا للآمنين والاعتداء على خلق الله تعالى بشرا وحيوانا وزرعا.
إحراق الغابات تدمير لعالم أمم أمثالنا سخرها الله لخدمتنا وحمايتنا
يعتقد البعض خطأ أن حرقه للغابات بشكل عشوائي هو مجرد إتلاف لغطاء نباتي قابل للتجدد مع الأشهر والسنوات؛ وعلى الرغم من خطورة إتلاف غطاء نباتي يقدم للحياة الكثير؛ ماء وهواء وظلا وثروة إلا أن ما يجهله هؤلاء أن الحرق في باطنه المخفي هو تدمير لحياة عالم الحيوان وهي أمم أمثالنا بنص القرآن الكريم، سواء تلك التي تظهر للعيان؛ كبيرة كانت أم صغيرة أو تلك التي لا ترى إلا بالمجاهر والوسائل المتطورة.
فكلها لها حياتها فوق هذه الأرض في دورية عادية تتغذى مثلنا وتتكاثر بقدر معلوم عند الله تعالى، وتساعد في تحقيق التوازن البيولوجي الطبيعي، لها أسرها ونظامها الحياتي الذي ورثته جيلا بعد جيل، وقد اتخذت من الجبال والغابات مسكنها؛ تاركة الفضاء العام للبشر حيث يشيدون ما شاءوا من المساكن والمنشآت التي تخدم حياتهم، فالاعتداء على مساحتها الغابية ومرتع عيشها يعني تدمير بيئتها والسعي لانقراضها وتحطيم حقها في الحياة دون مبرر طبيعي أو أخلاقي؛ بل إن ما يجهله هؤلاء أن الكثير من هذه الحيوانات المرئية والخفية خلقها لله تعالى لخدمة الإنسان، فالكثير منها تعد ثروة لغذائه والأكثر تعد واقية له من أمراض وآفات وجوائح تنتج عن فطريات وجراثيم وفيروسات وأشعة لا يراها بالعين المجردة؛ لكن هناك ملايين المخلوقات الدقيقة تصارع بصمت في خفاء وتضحي بحياتها لتصد هذه المضرات عن البشر وتوقف زحفها على حياته، فإقدامه على حرق الغابات هو إقدام على تحطيم سد منيع مشكل من هذه المجهريات التي تحميه وإفساح لمضاداتها بالزحف عليه وتقويض حياته، وصدق من قال يفعل الجاهل بأهله ما لا يفعل العدو بعدوه، فالحارق قطع يدا امتدت إليه وأحرق قارب نجاة وصل معدا لنجدته. ع/خ
المدينة..خراب البنيان وإنتاج العنف
قبل مدة كتبنا مقالا وسمناه بالجريمة والجمال، وربطنا فيه بين مساهمة الجمال المادي في المحيط في تخفيف أرقام الجرائم، في الشوارع والأحياء الشعبية، إن حضر الجمال طبعا، واليوم نفتح أوراق العلاقة بين غياب التهيئة الحضرية وانتشار العنف،بل وظهور الإرهاب،عبر التدرج النفسي أيضا.
مدننا الجزائرية والعربية عموما....تتشكل بكثير من مظاهر خراب البنيان وانتشار الحفر والنفايات عبر شوارعها، وكل هذا يسهم في تخريب نفسية المواطن الذي يعيش فيها، ويصبح قلقا عصبيا، بخاصة إن كان صاحب سيارة، يتنقل بين كل هذا الخراب يوميا.
فيمكن لكل من لم يؤد عمله ولم يراقب مصالحه ولم يتتبع مشاريعه أن يسهم في تحطيم معنويات مجتمع بأسره دون أن يدري. ويقدم للدولة والمجتمع *مواطني العنف والتخريب*، لأنه خربهم معنويا بآثار الخراب في العمران والطرق.
لا تنفع مثل هكذا مشاهد في بناء الوعي والفكر والقيم، وهي لا تستر عيوب الانجاز وغياب الماء والغاز وقلة مناصب العمل، بل إن هذا الخراب في التسيير يدل على ندرة الحكامة، فلا ننتظر حضور المواطنة هنا، بالمنطق، بل قد يسهم كل مسؤول مقصر في رفع أرقام الحركات الاحتجاجية وفي أمراض القلب والقولون والأعصاب وغيرها، نتيجة الخراب في العمران والتشوه في المحيط وغياب ملامح الحضارة ماديا ومعنويا.
إن المدينة تعيد لنا ما نقدمه لها، والكثير ممن يقدم لمدنه الخراب،سينتج العنف والتخريب والجرائم المتنوعة؛ والحل في التحرك السريع من كل مسؤول لكنس الشوارع وتنظيفها ونشر الجمال المدني في أحيائنا، ونشر إشارات المرور ومساعدة اطفالنا قرب المؤسسات التربوية بوضع علامة قطع الطريق للراجلين، وتنظيم حركة العربات، ونريد مع الدخول المدرسي أن يقدم صورة حسنة للعمران والطرق، لتقاوم نفسيات هدتها أخبار وباء كورونا.
لعلنا، بتحركنا الجماعي نحاصر العنف ونقاوم ملامح عنف نفسي وفكري يتشكل في صمت، بالتدرج، وقد يفتح لهيب العراك والصراع الاجتماعي مستقبلا كفعل ورد فعل.
من أعلام التعليم القرآني بالجزائر
الشيخ علي بن طالب الرحالة العصامي محب الدين والعربية والوطن
هو الشيخ الإمام والفقيه علي بن طالب بن بلقاسم بن السعدي بن محي الدين الحامي ولد 28 افريل 1903 بقرية الحامة إحدى مداشر دائرة صالح باي التابعة لولاية سطيف وتوفي في جويلية 1955، عصامي التكوين في مراحل كثيرة من محطات حياته حيث ساهم في صقل علمه ورسوخه من خلال كثرة رحلاته وبحثه عن الكتب والتنقيب فيها ليكون مستقلا؛ وقد تكون على يد أبيه بلقسام وعمه السعدي ودخل الزوايا ثم اتصل بمدرسة الورتيلاني بالبرج التي تخرج منها الأستاذ الهاشمي ومن زوايا التعليمية بولاية البرج قبل الخمسينيات وكان الشيخ الهاشمي شيخه الرئيس وكان يزورنا صيفا ويزور تلميذه علي الذي تضلع في اللغة العربية والفقه والشريعة وهو في عز شبابه وترك خلفه طلبة علم وأفكارا ذات البعدين الديني والوطني، بحماسة ساهمت حينها في التنوير ونضج وتوعية الشباب، لاسيما بقرية الحامة حيث سمي الأب الروحي للشباب في منطقته
حيث تغذت بها أجيال الأربعينيات وما بعدها وتتغذى بها أجيال اليوم فقد تخرج على يديه العديد من الطلبة في الاربعينيات من حفظة القرآن الكريم والفقه والشريعة. وقبل وفاته تولى قضاء قرية الحامة حيث كان والمدن المجاورة كخراطة وصالح باي والعلمة ومختلف القرى وكان صاحب جلسات حميمية بتقديم الدروس الفقهية وتدريس القرآن الكريم من أجل تحرير العقول وتنوير القلوب وبعث الروح الدينية والأخلاقية وحب الوطن لشباب عصره وما بعده. كما كان يشرف في مختلف هذه القرى على الصلح بين الأسر والأعراش في مختلف القضايا الاجتماعية والأسرية، وكثيرا ما كانت تزورنا قوافل من الناس لاسيما من عين ولمان لزيارته والاستزادة من علمه ونصائحه وتوجيهاته.
كما أسندت له في الاربعينات والخمسينيات إمامة مسجد الحامة العتيق مدرسا للقرآن الكريم إلى أن جاءت فرصة الانتقال إلى العاصمة في الخمسينيات أين أنشأ مدرسة قرآنية بحي لعقيبة بلكور سابقا، وكان من ألمع العلماء في الشرح والتفسير إلى أن سمي بالنابغة، وظل يتنقل بين العاصمة وسطيف. وهذه المدرسة كانت تشتغل نهارا مدرسة قرآنية وليلا تحول لمركز للثورة حيث كان معه ابنه الأكبر أحمد مساعدا له في التدريس ومناضلا ومسبلا، فقد ظل الشيخ علي عاشقا للثورة لولا أن المنية عاجلته والثورة لم تكمل عامها الأول
وما يهمنا في هذه الذكرى من وفاته هو مساهمته في نشر العلم والمعرفة بدءا من بوابة قريته الحامة إلى أن حط الرحال بالعاصمة بأبسط الوسائل ونشر عقيدة المالكية والاجتهاد الشخصي حيث كان متفتحا على العلم والمعرفة والحضارة الإسلامية العربية خاصة وأنه كان محبا ومتشبعا بأفكار الإمام بن باديس والشيخ الإبراهيمي وشيخه الإمام الهاشمي ما جعله يتوغل أكثر في البحث والتنقيب على ما هو أرقى وأسمى في العلوم الإسلامية والفقهية بصمها في قلوب شباب ذلك الزمن حاثا إياهم على دراسة القرآن الكريم، والشريعة الإسلامية وحب الوطن. إلى أن وافته المنية في جويلية 1955 بقرية الحامة ولاية سطيف تاركا وراءه إرثا علميا راقيا بقى يتحدث عنه تتذكره به الأجيال، وقد تم توزيع خزانة كتبه على مكاتب عمومية مختلفة ليستفيد منها الجميع، وليكون وفاء له ولأمثاله من شيوخ الجزائر الذين خدموا البلاد والعباد في ظروف عصيبة لا لشيء إلا ليحافظوا على استمرارية انتماء هذا الشعب لدينه والاعتزاز بهويته ولغته العربية التي احتضنها باكرا رغم وجوده في منطقة القبائل الصغرى التي تعتز أيضا بالعربية مثلها مثل القبائل الكبرى.
فؤاد بن طالب