تعد اللغة العربية فريضة شرعية وضرورة حضارية للعرب والمسلمين؛ بل للعالم أجمع؛ وذلك لارتباطها بالإسلام ارتباطا لا انفكاك عنه؛ فبها نزل الوحي وفي ضوئها يفهم، وبها تؤدى الشعائر التعبدية، ولأنها وسيلة وحدة بين العرب خصوصا والمسلمين عموما، وميراث الحضارة الإنسانية كلها بما أهلها في حقب سابقة من احتضان المنجز الحضاري الإنساني في مختلف العلوم والمعارف والفنون، ولا شك أنها أقدر حاضرا ومستقبلا على تكرار ذلك لما اتصفت به من سعة ألفاظها وقدرتها على الإعراب والاشتقاق والتوليد وغير ذلك من أساليب الاستيعاب والاستقطاب، بل إنها قادرة كما أكد خبراء كثيرون على التعاطي أكثر مع المنجز الحضاري والديني في ظل الذكاء الاصطناعي.
فالقرآن الكريم عربي وهذا وحده كاف لإدراك مكانة ورفعة هذه اللغة التي اختيرت لتكون حاضنة الرسالة العالمية الخاتمة؛ يقول الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى((إنا أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون)( [يوسف:2](وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات، وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات على أشرف الرسل بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان، فكَمُل من كلّ الوجوه)، وهو الكتاب الذي حافظ على لغته العربية الأصيلة، وبها يكون معجزا؛ حيث وجب على المسلمين التعبد به بلغته دون سائر اللغات التي ترجم إليها، بل لا تسمى الترجمات قرآنا بل هي مجرد بيان، ولهذا كان تعلمها واجبا؛ فنقل عن الإمام الشافعي رحمه الله قوله: (اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب فأنزل به كتابه العزيز، وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد -صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا نقول: ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلم). وقوله: «فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، ومن التسبيح، والتشهد وغير ذلك)، ونقل عن ابن تيمية قوله: (إن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرضٌ واجب؛ فإنَّ فَهْمَ الكتاب والسنة فرض، ولا يُفْهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب)،ومن أسباب الوجوب الشرعي
-أولا: إن القرآن الكريم متعبد بتلاوته؛ وهذه التلاوة لا تكون إلا باللغة العربية حتى تؤدى عبادتها ويثاب عليها المؤمن ويسقط عنه ما كلف به.
-ثانيا: إن الصلاة لا تصح إلا باللغة العربية ومن صلاها بلغة أخرى مترجما آيات الكتاب والأذكار والأدعية ومختلف أقوالها فقد بطلت صلاته.
-ثالثا: إن خطبة صلاة الجمعة لا تكون إلا باللغة العربية للقادر عليها ولو كان السامعون لا يعرفون العربية، وهذا عند جمهور الفقهاء ومنهم المالكية، ونقل عن النووي قوله: (هل يشترط كون الخطبة بالعربية؟ فيه طريقان: أصحهما وبه قطع الجمهور يشترط لأنه ذكر مفروض فشرط فيه العربية كالتشهد وتكبيرة الإحرام، مع قوله صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي. وكان يخطب بالعربية. والثاني: مستحب ولا يشترط لأن المقصود الوعظ وهو حاصل بكل اللغات)، وأجازت المذهب الحنفي الخطبة بغير العربية لاسيما إذا كان المستمعون لا يفهونها، وهو ما رجحه المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابط العالم الإسلامي حيث قال: (إن اللغة العربية في أداء خطبة الجمعة والعيدين في غير البلاد الناطقة بالعربية ليست شرطًا لصحتها، ولكن الأحسن أداء مقدمات الخطبة وما تتضمنه من آيات قرآنية باللغة العربية لتعويد غير العرب على سماع العربية والقرآن، مما يسهِّل عليهم تعلمها وقراءة القرآن باللغة التي نزل بها، ثم يتابع الخطيب ما يعظهم وينورهم به بلغتهم التي يفهمونها.)، وهؤلاء راعوا الحاجة والمقصد من الخطبة ولم يجعلوها شعيرة تعبدية توقيفية محضة كالصلاة.
-رابعا: إن من شروط بلوغ مرتبة الاجتهاد في الفقه الإسلامي وأصوله العلم باللغة العربية؛ فلا يجوز للعاجز عنها غير المتمكن منها أن يتصدى للاجتهاد في الفقه الإسلامي واستنباط الاحكام الشرعية من نصوصها العربية، يقول الشاطبي: (الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص، فلا بد من اشتراط العلم بالعربية»، يقول إمام الحرمين الجويني: (وينبغي أن يكون المفتي عالماً باللغة فإن الشريعة عربية، وإنما يفهم أصولها من الكتاب والسنة، من يفهمه يعرف اللغة)، وقد وقع الاتفاق على هذا الشرط بين علماء أصول الفقه قديما وحديثا كما هو مبين في مصنفاته الأصولية؛ فالقرآن والسنة عربيان وهما المصدر الأساس للأحكام الشرعية فلا يستطيع العاجز عن فهم العربية أن يستنبط منهما، وهذا الشرط لا يعني إقصاء غير العرب من الاستنباط والاجتهاد بل يمكن لكل عالم عربي وغير عربي أن يتعلم اللغة العربية ويجتهد، ولذلك ظهر علماء فقه وأوصل فقه كبار في تاريخ التشريع الإسلامي من غير العرب؛ لكنهم متمكنون من العربية، بل إن سيبويه نفسه إمام النحاة وأول من بسط علم النحو لم يكن عربيا حسبما تذكر المصادر بل كان فارسيا، وكذلك علماء لغة آخرون لم يكونوا عربا بالجنس بل كانوا كذلك باللسان على غرار أيضا المفسر اللغوي الزمخشري وأحمد بن فارس بن زكريا الرازي وابن جني وغيرهم، ففي ظل الحضارة الإسلامي ونبغ هؤلاء وأبدعوافي تملك وتطوير اللسان العربي، وفي هذا العصر وعصور سالفة وقادمة يشترط لدراسة بعض الاختصاصات العلمية في الجامعات والمعاهد والمراكز لغات معينة، وهذا لا يعد حكرا لأبناء تلك اللغة بل هي شروط موضوعية أكاديمية يقتضينها البحث العلمي، كذلك الشأن في الفقه الإسلامي لا بد من تعلم اللغة العربية لأسباب شرعية وعلمية ومنهجية.
-خامسا: إن اللغة العربية استوعبت في الماضي أمما وعلوما وعلماء أبدعوا في رحابها، فقد استطاعت وما زالت توحد المسلمين من العرب وغيرهم من مختلف القارات من الذين تعلموها حفظا لكتاب الله تعالى وأداء للشعائر التعبدية، وهو ما جعلهم في رباط معنوي يوحدهم إلى اليوم؛ بل إن اللغة العربية أثرت لغاتهم بألفاظها وأساليبها ومعانيها على غرار اللغة الفارسية والتركية والأردية وغيرها، كذلك تمكنت هذه اللغة قديما من إحداث قفزة كبيرة في تاريخ الحضارة الإنسانية حين استوعبت المنجز الحضاري الذي سبقها وجاورها ثم أثرت وأضافت وقدمت للبشرية أرقى الحضارات علما وأدبا وأخلاقا، حتى ارتبطت علوم كبيرة باللغة العربية وحضارتها، على غرار الطب واللوغاريثم والجبر والبصريات وغيرها، وهي قادرة اليوم على تكرار التجربة لو أتيحت لها الفرصة وسخرت لها الإمكانيات المادية؛ لأنها أوسع اللغات حيث قدرت بعض المصادر والمراجع ومعاجم اللغة العربية، عدد الكلمات في اللغة العربية ب 12302912 كلمة دون تكرار، وهو ما يعادل 25 ضعفًا عدد كلمات اللغة الإنجليزية التي تتكون من 600 ألف كلمة فقط.
بل إن ميراث البشرية في هذه اللغة، فينبغي عليها المحافظة عليها وتعلمها جيلا بعد جيل، فمن يتهم اللغة العربية بالعجز عن مواكبة العصر جاهل بحقيقتها وغير مطلع على فضاء ألفاظها الرحب ومعانيها ودلالاتها.
ع/خلفة
قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن الصلاة بغير اللغة العربية
أصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقد في دورته الخامسة والعشرين خلال الفترة من 29 رجب-3 شعبان 1444هـ، الموافق 20-23 فبراير 2023م، قرارا حول موضوع (ظاهرة القراءة في الصَّلاة بغير العربيَّة)، جاء فيه:
أولًا: الصَّلاة بالعربيَّة من الأمور المتواترة لفظًا ومعنى، وهي شعيرة من شعائر الإسلام التي استقر عليها عمل الأمة من عصر الصحابة، رضي الله عنهم، إلى يومنا هذا، فلا يجوز مخالفتها.
ثانيًا:لا تصحُّ الصَّلاة بغير العربية، ولا عُذْرَ لمن لم يتعلم من العربيَّة ما تجب قراءته من القرآن المجيد، والأذكار الواجبة في الصلاة من تكبير، وتسبيح، وتسميع، وتحميد، وتشهد، وغيره، ويستثنى من ذلك حديثُ العهد بالإسلام، والعاجزُ عجزًا كليًا عن تعلم اللغة العربيَّة.
ثالثًا: ترجمة معاني كلمات القرآن الكريم لا تعتبر قرآنًا بإجماع المسلمين، لأن القرآن الكريم اسمٌ للَّفظ والنظم معًا، وهو كلام الله المعجز، المتواتر، المنزل على رسول الله، صلَّى الله عليه وسلم، بلسان عربي مبين، المتواتر، المتعبد بتلاوته، الموجود بين دفتي المصحف؛ وأما ترجمات معاني القرآن العظيم، فإنها ليست كلام الله، بل هي كلام البشر، وليست معجزة، بل هي غير معصومة من الخطأ والغلط، ولا يتعبد بتلاوتها.
رابعًا: الصَّلاة بترجمة معاني القرآن الكريم، وبترجمة معاني الأذكار الواجبة في الصَّلاة باطلة يجب على فاعلها إعادتها، وذلك لتركه ركنًا من أركان الصلاة، وهو ترك قراءة القرآن الكريم المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خامسًا: لولي الأمر تعزيرُ كلِّ مَنْ يصلي أو يدعو إلى الصَّلاة بغير العربية لما يترتب على فعله من مفاسد يتذرع بها لصرف الناس عن القرآن الكريم، والاستغناء عنه بترجمات معانيه، وتفريق وحدة الأمة بإشاعة النعرات العصبيًّة.
من أقوال العلماء في اللغة العربية
أبو منصور الثعالبي
فإن من أحب الله تعالى أحب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ومن أحبَّ الرسول العربي أحبَّ العرب ومن أحبَّ العرب أحبَّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب ومن أحبَّ العربية عُنيَ بها وثابر عليها وصرف همَّته إليها ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه حسن سريرة فيه اعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خير الرسل والإسلام خير الملل والعرب خير الأمم والعربية خير اللغات والألسنة .و الإقبال على تفهمها من الديانة إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين وسبب إصلاح المعاش والمعاد ثم هي لإحراز الفضائل والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب كالينبوع للماء والزند للنار.ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها ومصارفها والتبحر في جلائها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن وزيادة البصيرة في إثبات النبوة التي هي عمدة الإيمان لكفى بهما.
محمد البشير الإبراهيمي
اللغة العربية في القطر الجزائري ليست غريبةً ولا دخيلة، بل هي في دارها، وبين حماتها وأنصارها، وهي ممتدة الجذور مع الماضي، مشتدة الأواخي مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل، ممتدة مع الماضي لأنها دخلتْ هذا الوطن مع الإسلام على ألسنة الفاتحين ترحلَ برحيلهم وتقيم بإقامتهم. فلما أقام الإسلامُ بهذا الشمال الأفريقي إقامةَ الأبد وضربَ بجرانه فيه أقامتْ معه العربية لا تريم ولا تبرَح، ما دام الإسلام مقيمًا لا يتزحزح، ومن ذلك الحين بدأت تتغلغل في النفوس، وتنساغ في الألسنة واللهوات، وتنساب بين الشفاه والأفواه. يريدها طيبًا وعذوبة أن القرآن بها يُتلى، وأن الصلوات بها تبدأ وتُختم، فما مضى عليها جيل أو جيلان حتى اتسعتْ دائرتها، وخالطت الحواس والشواعر، وجاوزت الإبانة عن الدين إلى الإبانة عن الدنيا، فأصبحت لغة دين ودنيا معًا، وجاء دور القلم والتدوين فدوّنت بها علوم الإسلام وآدابه وفلسفته وروحانيته.
الشاعر حافظ إبراهيم
رَجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي وناديْتُ قَوْمِي فاحْتَسَبْتُ حياتِي
رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَني عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتي
وَلَدتُ ولمَّا لم أجِدْ لعرائسي رِجالاً وأَكفاءً وَأَدْتُ بناتِي
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة ٍ وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
فيا وَيحَكُم أبلى وتَبلى مَحاسِني ومنْكمْ وإنْ عَزَّ الدّواءُ أساتِي
فلا تَكِلُوني للزّمانِ فإنّني أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي
أرى لرِجالِ الغَربِ عِزّاً ومَنعَة ً وكم عَزَّ أقوامٌ بعِزِّ لُغاتِ.